عندما طُلِبَ مني كتابة تجربتي في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، شعرت كما لو أنهم يطلبون مني أن أفتح جرحاً لم يلتئم بعد، وأن أنتزع كل حرف بألم. لكن كتابة هذه التجربة كانت ضرورية كشهادة على معاناة الضحايا داخل ظلمات السجون الإسرائيلية. إنها نافذة سريعة تطل على عالم العذابات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، وخصوصاً بعد السابع من أكتوبر 2023، وشاهد على تعذيبهم المرئي والمخفي داخل الزنازين.
تنشر مؤسسة الدراسات هنا سلسلة من الحلقات عن هذه التجربة:
الحلقة الثانية
شتائم وإهانات أصعب من الضرب
تغيرت العلاقة بين السجين والسجان بعد السابع من أكتوبر، وأصبح شعور العجز داخل كل واحد منا مستشرياً، وحتى في مجال العلاقات الاجتماعية كان من الصعب الحديث عن قصصنا ومغامراتنا في حياتنا العادية، لأنه ببساطة كان السجان يشتمك أمام الجميع من دون أن تقدر على الرد، فكيف لك أن تسرد قصصك عن مشكلة ما أو موقف رجولي في الخارج.
وفي الواقع، فإن الشتائم والإهانات هي أصعب من الضرب؛ عندما يتم استخدام لغة بذيئة ومهينة، يصبح الفرد عرضة للشعور بالذل والاستخفاف، ما يؤدي إلى تدهور الصحة النفسية، فينتابك الشعور بالعجز وضعف الذات، ويمكن أن يتطور هذا الشعور إلى الاكتئاب والقلق، ويساهم في الانعزال الاجتماعي. كما أن الشتائم والإهانات تترك أثراً عميقاً في صحة الفرد النفسية، إذ يفقد الفرد الثقة بالنفس ويشعر بالضعف أمام السلطات القمعية، ما يؤدي إلى تفاقم مشكلاته النفسية، مثل انخفاض التحفيز والشعور بالعزلة الاجتماعية.
في هذا السياق، يجول في خواطر الأسير أكثر من أي شيء آخر الشعور بفقدان رجولتنا، ما يترك أثراً عميقاً في النفس، فحتى أثناء المشاحنات بين الأسرى، كانت تتردد جملة: "كن رجلاً على من شتمك". لكن النقاش العام كان يتمحور حول السؤال التالي: ماذا يمكن أن نفعل؟ بعض الأسرى بدأوا يردون الشتيمة بالشتيمة، حتى وإن ترتب على ذلك تعرضهم للضرب أو العقاب.
ومن أكثر القصص التي سمعتها في هذا السياق حزناً كانت من أسير يبلغ من العمر 60 عاماً، يتحدث وعيناه تغرغران بالدموع، عن سجّانة في سجن مجدو، فيقول: "في بداية الحرب، جاءت سجّانة إلى ساحة أحد الأقسام وصرخت بأعلى صوتها: ʾسوف أغتصبكم واحداً واحداً، إن كان هناك رجل منكم ليتحدث بكلمة واحدةʿ." للوهلة الأولى قد تبدو القصة فكاهية، لكنك تدرك بعدها مدى العنف والرعب الذي كان يحدق بالأسرى آنذاك.
في هذا السياق، أذكر عندما دخلتُ سجن النقب، كانت يداي مقيدتين إلى الخلف ورأسي يكاد يلمس الأرض، بينما كان السجان يصرخ قرب أذني بعبارات، مثل: "يا داعش"، و"يا حماس، يا قتلة".
في إحدى المرات، عاد محمد من العيادة في سجن مجدو، وكان في غاية الغضب والقهر، سألته عن السبب، فأخبرني أن السجان شتمه بألفاظ مهينة طوال الطريق، مثل: "يا كلب"، و"يا ابن الزانية".
كما حدثني سليم عن تجربة مروعة تعرض لها أثناء نقله إلى المحكمة؛ فقد كان السجان يسب على أخته وأمه ويهدده باغتصابهما، وكان سليم في حالة من القهر والبكاء طوال الليلة، ولم يستطع النوم، وفي هذه الحالة لا يتم التمييز بين الأعمار أو الأوضاع الشخصية. لقد كان التعرض للسب والإهانة أمراً مروعاً بالنسبة إليه، وكان عاجزاً عن الرد، الأمر الذي جعله يعاني بشدة على الصعيد النفسي حتى تمنى الموت ألف مرة.
كان هناك أيضاً طريقة أُخرى للشتائم؛ حين نُقلنا إلى قسم آخر في سجن النقب، وعند دخولنا الغرف، وجدنا شتائم مكتوبة على الجدران ضد المقاومة والأسرى وغزة، مثل: "أبناء الزانية" و"كلاب" و"عملاء" و"خنازير". وهذا الأمر يجعلك تتعرض لقراءة شتيمتك أو شتيمة شخص آخر على مدار 24 ساعة.
تجسد صورة أُخرى من الشتائم إجبار الأسرى على الشتم والسب أو الإساءة إلى قادتهم السياسيين والشخصيات الوطنية البارزة. يقول يوسف، الذي تم اعتقاله عندما كان في طريقه إلى العمل: "عندما وصلت إلى أحد المعسكرات، بدأ الجنود بالتحريض عليّ وطلبوا مني أن أشتم حماس والسنوار، ثم انهالوا علي بالضرب، ولم يتوقفوا حتى أجبروني على الاستجابة لما يريدون."
أحمد أيضاً شارك قصته، قائلاً: "كنتُ في سجن مجدو، وطوال الطريق من القسم إلى قاعة المحكمة، كان السجان يجبرني على شتم السنوار وغزة، ولم يكن لدي خيار سوى القيام بذلك." وبعد عودة الأسرى إلى الغرفة، نشب جدل في شأن مشروعية ما فعلوه، وتمت مناقشة ما إذا كان الرد على طلبات السجان والشتم مبرراً أم لا. واستُدِلَ على ضرورة حفظ النفس وتجنُب التعرض للمخاطر الناجمة عن الرفض، بالإشارة إلى آية من القرآن الكريم تقول: "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ".
كما يُظهر التفتيش المتكرر لغرف الأسرى سياسات استنزافية تهدف إلى السيطرة على الأسرى وترويعهم، ويتضمن هذا التفتيش إجراءات قاسية تشمل دخول وحدات التفتيش بشكل همجي، مع الصراخ والطرق المفاجئ على الأبواب، ما يخلق بيئة مهينة ومخيفة. ويجد الأسرى أنفسهم مكبلين ومجبرين على الجلوس في وضعيات مهينة داخل أماكن غير مناسبة، مثل الحمامات، بالإضافة إلى تفتيش جسدي يخل بكرامتهم.
على سبيل المثال، في 21 رمضان 2024، اقتحمت قوة من السجانين الغرفة التي كان يُحتجز فيها الأسرى في سجن مجدو، فتم وضعهم داخل الحمام وطُلب منهم الجلوس على رُكَبهم ووضع جبهة رؤوسهم على الأرض، وهو موقف مهين بالفعل.
بالإضافة إلى ذلك، يتضمن التفتيش المتكرر التشهير والإهانة والضرب المبرح والتفتيش العاري، ما يساهم في تفكيك هياكل حياة الأسرى، ويعيق جهودهم في الحفاظ على استقرارهم النفسي والروحي، الأمر الذي يثير تساؤلات حول غايته الحقيقية، وخصوصاً عندما تكون الغرف خالية تماماً من الأشياء التي قد يخفيها السجناء. وعلى الرغم من معرفة إدارة السجون بأن الأسرى لا يمتلكون مقتنيات شخصية أو طعام، فإنها لا تزال تواصل هذه العمليات التي تسبب إزعاجاً وتعباً نفسياً بالغاً للأسرى.
التفتيش العاري
في الواقع، التفتيش العاري في السجون يشكل جرحاً عميقاً جسدياً ونفسياً للأسير، ذلك بأنه ينتهك كرامته ويؤذي صورته الذاتية. ففي هذه الحالة، يتعرض السجين للإذلال والاستفزاز، إذ يُجبر على التعري أمام أعين الآخرين، ما يخلق لديه شعوراً بالعار والإهانة الشديدة.
بداية الأمر، كنا نرفض فكرة نزع ملابسنا بالكامل، وكان هذا يؤدي في الغالب إلى تعرضنا للضرب المبرح. وكانت المعادلة التي نخضع لها في هذا المقام على النحو التالي: هل نتحمل الإهانة بنزع الملابس أم نتعرض للعنف والضرب الذي قد يؤدي إلى إصابتنا بعاهات دائمة؟ كنا نحاول اختيار أقل الضررين. لكن لم يكن هذا كافياً، فقد كانت السخرية من جانب السجان ترافق كل عملية تفتيش عارٍ، إذ كانوا يسخرون من أجسادنا وأعضائنا التناسلية، ومن هيئتنا البدنية بأكملها.
كنت أسأل دائماً: لماذا يتم تنفيذ التفتيش العاري، وخصوصاً أن إدارة السجن تعلم أننا لا نملك أي شيء في الغرفة؟ وكانت الإجابات متنوعة، إلاّ إن البعض يعلق بقوله: "سكروا الموضوع"، في حين كان الإجماع بصورة عامة على أن هذا التصرف يأتي من باب الإذلال.
أذكر خلال إحدى عمليات التفتيش أن ستة سجانين أحاطوا بي وأجبروني على خلع ملابسي، ثم قاموا بإلقاء كل قطعة في اتجاه مختلف، وكان هذا مصحوباً باللكم والضحك. في تلك اللحظة، لم أستطع التفكير في شيء، شعرت بأن العالم ضاق في نظري، وكنت أقول لنفسي: في النهاية نحن في أوج صراع.
مؤمن يشاركني تجربته فيقول لي إنهم حين نُقلوا من سجن عوفر إلى سجن النقب في منتصف الليل، حيث تم إجبارهم على نزع ملابسهم مرتين، وسط سخرية واستهزاء السجانين، شعر بأنه لا شيء وأنه بلا قيمة، وكان يشعر بالحرج من تبادل الحديث مع باقي السجناء، على الرغم من أنهم كانوا يمرون بالتجربة نفسها.
وفي هذا السياق، يتبادر هذا السؤال إلى أذهاننا: كيف تتعامل إدارة السجون مع النساء المعتقلات؟ هل تتعرضن للتفتيش العاري مثلما يحدث مع الرجال؟
بمجرد أن يُطرح الحديث عن التحرش الجنسي، يصبح من الضروري أن تكون هناك شجاعة كبيرة، وخصوصاً في مجتمع يوصف بأنه محافظ. وعندما شاركني أحد الأسرى تجربته، كان صوته هادئاً ومنخفضاً، ثم ختم حديثه بعبارة: "ما تحكي لحدا".
التفتيش العاري يترافق أحياناً مع تحرش جنسي، الأمر الذي يخلق بيئة مليئة بالخوف والضعف، إذ يتعرض الأسرى لأنواع متعددة من التحرش، بما في ذلك اللمس الجسدي الجنسي، والاعتداءات اللفظية، والتهديدات بالعنف الجنسي. وتنجم عن هذه التجارب آثار نفسية وعاطفية مدمرة تؤثر في حالتهم النفسية، وتسبب لهم أضراراً نفسية عميقة يمكن أن تظل تلازمهم لفترة طويلة، حتى بعد الإفراج عنهم.
من الجدير ذكره أنه في ذروة التفتيش والضرب، وفي أجواء الخوف والصراخ والطرق على الأبواب، لا تستشعر ما تمر به، ولا تدرك الأحداث بمعناها الحقيقي، وكل ما يهمك هو انتهاء الحدث، لكن بعد ذلك، تبدأ بإدراك الأحداث بمعانيها الحقيقية، وتشعر بآثارها العميقة.
حدثني زاهر عن أغرب ما حدث معه منذ بداية الحرب قائلاً: "في وقت متأخر من الليل، دخلت وحدة اليماز (وحدة تفتيش تابعة لإدارة مصلحة السجون) إلى الغرفة وأمرونا بخلع كل ملابسنا والوقوف في جوار بعضنا. كنا عشرة أسرى تماماً، كما وُلدنا، كان السجان يمرر العصا على أعضائنا التناسلية، وبعد ذلك تعرضنا للضرب بلا رحمة. كانوا يستهزئون بأجسادنا ويضحكون علينا في هذه الحالة المذلة."
بعد سماعي للقصة، عدت إلى سريري وعادت ذاكرتي إلى أيام السجن في أبو غريب في العراق، وتخيلت الصور التي تسربت من داخل السجن، والأفعال الفاضحة التي ارتكبها الجيش الأميركي آنذاك. وتساءلت في نفسي: "هل نحن نعيش في أبو غريب الثاني؟" توجهت إلى زميلي الذي شاركني القصة وسألته بشكل مباشر: "هل كنت تخاف من الاغتصاب؟" لحظات، ورد بصوت متردد: "نعم، وبشدة".
بعد سماع تلك القصة، حاولت أن أستفز الأسرى لأستخرج منهم قصصاً مشابهة، لكن الأغلبية رفضوا الاعتراف بأن ما يحدث معهم في أثناء التفتيش يتجاوز الحدود إلى التحرش الجنسي، مُبررين ذلك بأنه جزء من إجراءات التفتيش العادية، إلاّ إنهم يتفقون على أن الأمر مهين.
على سبيل المثال، قال لي زياد، الذي يبلغ من العمر أكثر من 60 عاماً، وتعرض للاعتقال أكثر من مرة: "كان التفتيش اليدوي بين الأشياء التي كانت تسبب لي الإزعاج والإحباط بشدة. كان السجان يفحصني يدوياً على الرغم من علمه بأن ليس لدي شيء، وعندما يصل التفتيش إلى رجليّ، كان يفتحهما بشكل مفرط ويمارس الضغط على المنطقة الحساسة بطريقة تجبرني على الصراخ بصوت عالٍ."
لم أجد أحداً يوافقني على أن التهديد بالاغتصاب قد يتجاوز مرحلة التهديد فقط، إذ يعتقد معظم من ناقشتهم أن الأمر لن يتعدى حدود التهديدات. على سبيل المثال، يقول طارق: "أثناء إقامتي في سجن مجدو، تصاعدت الأمور حين صرختُ على أحد الحراس، وبعد مرور ربع ساعة جاء ضابط العدد وبدأ يسبني ويهاجم عائلتي بألفاظ بذيئة. ثم هددني بالاعتداء الجنسي أمام القسم بأكمله. هذا الواقع لن أنساه أبداً، حتى بعد الخروج من السجن، فهو يلازمني في كل تفكيري."
بعد سماع كثير من القصص من الأسرى، وصلت إلى استنتاج أن النساء أكثر جرأة من الرجال في هذا المقام.
في بداية الحرب توقعتُ أن تقوم إدارة السجون بمصادرة بعض المقتنيات، ولاسيما الأجهزة الكهربائية، كالتلفاز، والكمكم (جهاز لغلي الماء)، والبلاطة (أداة كهربائية للطبخ)، لكن مع مرور الوقت تبين أن الشاباص قرر مصادرة جميع مقتنياتنا.
كان كثيرون يبدون الاستغراب من طبيعة المصادرات، إذ كانت إدارة السجون تقوم يومياً بمصادرة ممتلكات متنوعة، بما في ذلك أشياء بسيطة، مثل القشاطة والملابس الداخلية. ورأى البعض في هذه الممارسات علامات على انهيار إسرائيل كونها تلاحق صغائر الأشياء، بينما اعتبرتها الأكثرية خطوة لزيادة الضغط على الأسرى وزيادة مستوى التوتر والإحباط لديهم. وفي أعقاب كل مصادرة كنا نخفف وطأة الحدث في نفوسنا بقولنا: "فداء المقاومة وفداء غزة.. ماذا يعني ذلك؟ من الممكن أن نعيش من دون تلفاز، ومن دون قهوة ودخان."
مصادرة ملابس الأسرى
من بين المصادرات برزت مصادرة ملابس الأسرى، وهي أكثر ما كانوا يحتاجون إليه، وخصوصاً الأسرى الجدد. فكان يتعين على الأسرى القدامى مشاركة ملابسهم معهم، إذ يتم سحب ملابسهم الشخصية واستبدالها بملابس سجن كبيرة الحجم، ما يعرضهم للإهانة والاستخفاف. وقد تتم هذه المصادرات في بعض الأحيان كوسيلة لزيادة الضغط على الأسرى أو كجزء من إجراءات انتقامية.
في سجن عوفر، تمت مصادرة الملابس بطريقة أقل عنفاً، حيث طُلب من الأسرى وضع ملابسهم في أكياس ومن ثم إخراجها من القسم، مع السماح لكل أسير بامتلاك صنفين من كل نوع من الملابس، مثل بنطالين، بما في ذلك الذي يرتديه، وبلوزتين وهكذا.
عندما كنت أضع ملابسي في الكيس المخصص، كنت أتأمل فيها بحزن، وكانت تتبادر إلى ذهني الصعوبات والمشقات التي تكبدتها لاقتنائها، والمعاناة التي تعرضت لها عائلتي لإحضارها، والانتظار في طابور طويل للتفتيش على أبواب الزيارة. كنت أطرح السؤال التالي بصوت عالٍ: "ماذا بعد؟ غداً ماذا سوف يصادرون؟"
أمّا في سجن النقب ومجدو فكانت الطريقة أكثر عنفاً ووحشية؛ حدثني ناصر، الذي عاش تلك التجربة في سجن النقب، عمّا حدث قائلاً: "مع بداية الأسبوع الثاني من الحرب كنت في سجن النقب، حيث اقتحمت وحدات السجن القسم وتعرضنا للضرب، ثم رموا جميع ملابسنا والمقتنيات الشخصية على الأرض، وسكبوا عليها الشامبو والماء والزيت والبهارات وما إلى ذلك، ما أدى إلى خلط كل شيء ببعضه. في اليوم التالي صادروا الكتب، ثم الكراسي والطاولات. بعد أسبوع، نُقلنا إلى قسم آخر كان فارغاً تماماً، فكانت الغرفة تحتوي على 10 أشخاص، ولا يوجد سوى 3 فرشات بدون أغطية، ولم نكن نملك شيئاً آخر."