منّانة الصيداوي المقدسية المتمردة، 1880-1941
Date:
16 août 2024
Auteur: 
Thématique: 

في مطلع كانون الثاني/ يناير 1908 كتب خليل السكاكيني رسالة إلى صديقه داود الصيداوي يشكو إليه حالة البؤس التي يعيشها في غربته الأميركية، ثم عّرج على وضع الجالية العربية في نيويورك وحالها الثقافي والأخلاقي: "الشعب السوري [يقصد الشامي] هنا على الإجمال منحط جداً في أخلاقه ومبادئه. ولا أحضر مجلساً من مجالسهم الاّ كان لي صدر المحل، لا يستطيع شاب أن يجري ذكر النساء أمامي. كم أحب لو كانت لهم جمعية أدبية أرفع فيها صوتي وأدعو إلى مبادئي في الآداب والثقافة."[1]  ثم يضيف:

"مساكين! ما رأيك لو ظهرت بينهم الآنسة منّانة؟ لست أبالغ إن قلت إنك لا تحب حتى بين الأمريكيات من يضاهيها في الآداب والثقافة."[2]

 

منانة وداود الصيداوي، القدس 1885، من المجموعة الخاصة بمنى حلبي

 

من هي منّانة إذن التي انفرد السكاكيني في التغني بثقافتها فوق جميع فتيات فلسطين؟

 ولدت مناّنة الصيداوي عام 1880 في البلدة القديمة في عائلة مقدسية من الكاثوليك الملكيين، وتعمدت في 12 أيار/ مايو 1880 باسم مريم الصيداوي، أمّا مناّنة فهو الاسم الذي أطلقه عليها أبيها تحبباً والتزمت به في كتاباتها الأدبية.[3]  انتسبت في سن مبكرة إلى جمعية الآداب الزاهرة التي أنشأها أخوها داود الصيداوي في القدس عام 1898، وكان من نشطائها البارزين عيسى العيسى، وفرج فرج الله، وأفتيم شبك، وشبلي الجمل، وجميل الخالدي، وخليل السكاكيني.[4] 

 

منانة وعفيفة الصيداوي، القدس 1906، تصوير خليل رعد. من مجموعة منى حلبي

 

كانت جمعية الآداب ترى في نفسها جزءاً من النهضة الثقافية العربية التي تبلورت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت تدعو إلى "نبذ الطائفية وتعزيز الأخوة الوطنية ونشر التعليم الوطني وتحرير المرأة."  ونعلم من عبد اللطيف الطيباوي أيضاً أن جمعية الآداب الزاهرة تطورت، بعد الوفاة المفاجئة لداود الصيداوي عام 1907، إلى جمعية الآداب العربية، وبعدها إلى جمعية العلماء.[5]  وفي عام 1908 أصبحت منّانة مديرة المدرسة المأمونية للبنات في البلدة القديمة التي أنشأها حاكم سورية جمال باشا، وبذلك تكون من رواد تعليم البنات على المستوى الثانوي خارج الإطار الديني التبشيري.

ونعلم أيضاً من مذكرات السكاكيني أن مناّنة كانت عاكفة على إنشاء "جمعية للبنات" في يافا والقدس بالتعاون مع حنة العيسى، شقيقة الصحافي حنا العيسى، صاحب "الأصمعي". كما جاء في يوميات السكاكيني:

"قالت الآنسة حنة [العيسى]: عزمت مع الآنسة مناّنة أن ننشىء جمعية للبنات وسنجتمع غداً للنظر في ذلك. فقلت لهما أحب أن أتطفل عليكما بالحضور لعلي أستطيع أن أساعدكما في ذلك."[6]  ويبدو أن تطفل السكاكيني كان زائداً لدرجة أنه لم نعد نسمع عن هذه الجمعية!

لا يوجد لدينا مادة منشورة لكتابات مناّنة الصيداوي سوى مجموعة "فتاة القدس" التي نُشرت تباعاً في أول مجلة سياسية ثقافية ظهرت في فلسطين (1908 – 1910) بعد تبني الدستور العثماني، والتي أصبحت الآن في متناول الباحث بعد أن تمت رقمنتها.

"فتاة القدس" تعكس روحاً متمردة نسوية تعالج وضع المرأة في فلسطين، وتتبنى مواقف جريئة لتلك الفترة ضد طغيان القمع والجهل والإقصاء الذي تعاني جراءه فتيات مدن بلاد الشام.

ويبدو أن السكاكيني كان قد شجع منّانة على هذه الكتابة المنعتقة بعد عودته من الولايات المتحدة، وبعد أن توفى أخوها داود، صديقه الحميم، بالكوليرا عام 1907، وكان قد أصبح المحرر الشريك للعيسى في تحرير "الأصمعي". وفي اليوميات يذكر أن مناّنة سلمته 3 مسودات من "فتاة القدس".[7]

 

العدد الثاني من "الأصمعي": أول مجلة أدبية تصدر في فلسطين، ماتت بوفاة صاحبها حنا العيسى عام 1909

 

في مقدمة "فتاة القدس" كتب حنا العيسى: "فتاة القدس – مقالة مؤلفة من عدة حلقات جادت بها براعة حضرة الكاتبة الأديبة الآنسة منّانة صيداوي شقيقة فقيد الشهامة والفضيلة والآداب المأسوف عليه داود صيداوي. توخت فيها الكاتبة حث بنات جنسها على الاجتهاد في طلب الرقي والكمالات [كذا] وقد قسمتها إلى حلقات تنشر تباعاً على صفحات الأصمعي."[8]  وعلى الرغم من هذه الديباجة، فإنه لم يصدر عن "الأصمعي" إلاّ ثلاث حلقات من "فتاة القدس"، وقد يكون السبب أن العيسى اضطر إلى أن يسافر إلى الآستانة في مهمة، ثم توفي فجأة، وتوقفت بعدها "الأصمعي" عن الصدور. 

 

داود الصيداوي، شقيق منّانة عند إنشاء جمعية الآداب الزاهرة، القدس 1909، مجموعة منى الحلبي

 

ممارسة قمع الذات ودعوة إلى التمرد

تبدأ منّانة مداخلتها في "الأصمعي" بتحية نساء القدس وجهادهن بمناسبة انطلاق الثورة الدستورية لعام 1908 (ثورة الحرية):

"اليوم تبددت غياهيب الظلام عن أعين إخوتك الرجال. فقاموا يطالبون بحقوقهم بقلب شجاع وأفكار حرة. مصوبين آمالهم نحو مستقبل عظيم. وبصوت واحد يصرخون لتحيا الحرية. وإني أشاركهم بصوتي الضعيف قائلة لتحيا الحرية لتحيا القدس. لا شك أن للرجل الآن دوراً مهماً على مرسح [مسرح] الحرية. ولكن الدور الأهم منوط بك أيتها الأخت المحبوبة. لا تعجبي من كلامي ولا تمزجي صوتك باللطف والاستهزاء قائلة ما هو دورنا نحن الضعيفات؟ لا تخلطي بين ضعفك الحسي وضعفك المعنوي فإن لك عقلاً وذكاء تحسدك عليهما أخواتك الغربيات ولا ألومك إذا كنتِ إلى الآن لم تنتبهي لذلك. دورك لا يلجئك للذهاب إلى المنتديات وإلقاء الخطابات. وإنما دورك في إنارة عقلك المظلم وفي تهذيب أخلاقك التي أخلفها الأسر والاستبداد." ثم تضيف: "من الشرق يبزغ نور القمر ومن الشرق تنبعث أنوار الشمس الساطعة، ولكن لا نور في الشرق ما دمت أيتها الأخت المحبوبة جاهلة رازحة تحت نير العبودية."[9]

في الحلقة التالية من "فتاة القدس" تتعرض الصيداوي لأسباب ضعف وتخلف الفتاة الفلسطينية، وتقارن بين حرية التحرك عند الأطفال الذكور وقمع حركة البنات: "حين تكون البنت ملازمة البيت مضغوطاً عليها لا تتحرك ولا ترفع صوتها وفوق ذلك تتلقى الانتهارات المتوالية مما يضعف جسدها ونفسها ثم لا تكاد تبلغ السنة الثالثة حتى ترسلها أمها مع أختها إلى المدرسة تخلصاً منها وناهيك عن حالة مدارس البنات وجهل المعلمات بالتربية والتعليم." وتأتي أهمية هذه الملاحظة في ضوء اعتلاء منّانة مديرية المدرسة المأمونية عام 1910، أي بعد عامين من هذه الملاحظات حين حاولت أن تدخل الإصلاحات على وضع مدارس البنات.

 تعالج بقية المقالة سيكولوجية التمييز ضد البنات داخل الأسرة، وتحويلها في سن مبكرة إلى سلعة تحضيراً لزواجها: "وإنما ألوم الجهل الذي يعدّ البنت مصيبة تخلق فيزدري بها .... تخلق البنت صحيحة معافاة فلا تمضي عليها بضع سنوات حتى تضعف للأسباب التي ذكرناها ثم يلقون بها في معترك الحياة الهائل نحيفة ضعيفة جاهلة وربما ماتت شهيدة العوائد الثقيلة والآداب الجافة. يستقبلونها كمصيبة وتعيش كصنم وتموت غير مأسوف عليها لأنها بنت."[10]

 

منّانة الصيداوي 1912، مديرة المدرسة المأمونية للبنات،البلدة القديمة، تصوير م. سافيدس، من مجموعة منى حلبي

 

في الحلقة الثالثة تعالج مناّنة ما تسميه أسباب ونتائج الضعف المعنوي في مقابل الضعف الحسي: "تموت إرادة الطفلة واستقلالها في التفكير نتيجة تنشئتها على ʾالطاعة العمياءʿ." وتعالج الكاتبة ما تسمية ابتزاز المديح، وهي الظاهرة التي يتم من خلالها خداع الفتاة عن طريق الإطراء: "ولو علمت ما وراء ذلك كله من وخيم الطاقة لبكت على حالها بكاء مرّاً – النتيجة أن تمارس الفتاة قمع الذات. فهي تحجم عن إبداء أفكارها ولو كانت صحيحة صائبة خوفاً من أن يستخف بها القريب أو البعيد وتتعود على السكوت في كل شيء. فتصغر نفسها وتضعف إرادتها وتموت قواها الأدبية، وتنصرف إلى المكر والطيش لتسلي نفسها ولا تهتم الاّ بالأشياء الخارجية."[11]  تنهي منّانة مقالتها الثالثة بدعوة الفتاة إلى القتال: "أمّا أنت أيتها الفتاة فعلى ماذا تستندين إذا لم يوجد فيك إرادة قوية. العالم في حرب مستمرة لا سيما نحوك. فكيف تنتصرين إذا جردت نفسك من هذه القوة؟ أنت كثيرة التخيل لذلك تعتقدين بأن سعادتك ونجاحك متوقف على جمالك أو على ذكائك وتفننك. فاسمحي لي أن اقول لك بأن هذا الاعتقاد ضعيف واهن الأساس ولا يخلو من خطر على مستقبلك."[12]

لا شك في أن مقالات الصيداوي تتسم بسذاجة مثاليه من زاوية الرؤيا الاسترجاعية، إلاّ إنها تأتي هنا في سياق جرأة تكاد تكون غير مسبوقة في الأدبيات النسائية المعاصرة.

توقفت مقالات منّانة الصيداوي بسبب توقف "الأصمعي" عن الصدور بعد سفر صاحبها الى الآستانة للدفاع عن القضية الأرثوذكسية، ولا ندري مصير بقية هذه المقالات حتى اليوم.

يستشف القارئ في كتابة منّانة الصيداوي روحاً نسوية راديكالية تتعدى المعالجة الأخلاقية التي اتسمت بها كتابات المساهمات النسوية الأولى، من أمثال هدى الشعراوي وماري طعمة. كما تتسم بمعالجة نفسية لآليات القمع نجدها في الأدبيات النسائية الأوروبية في بداية القرن، ولعل أقرب الكتابات العربية في هذا المجال موجودة في رسائل مي زيادة خلال محنتها في القاهرة وبيروت.

أبناء وأحفاد مناّنة يختارون ديانتهم عند سن الرشد

نتابع حياة منّانة الفكري في صفحات "يوميات السكاكيني" حيث تظهر في خمسة من المجلدات الثمانية، كان أهمها حديثه حول غرامها وزواجها من صديقه عادل جبر الذي خالفها في الدين، ثم نزاعها مع السلطة التعليمية العثمانية حين تم تعيينها في منصب معلمة، ثم مديرة لأهم مدرسة إناث في فلسطين حينذاك (المأمونية)، وخلافها مع محمد الصالح، صاحب دار المعارف، لأسباب غير واضحة. ويتكهن السكاكيني أن منّانة اعترضت على تعيين قريبة محمد الصالح في منصب معلمة.[13]

لعل أحد أهم مبادرات منّانة الطلائعية والمثيرة للجدل أنها اختارت أن توفر لأبنائها وأحفادها حرية اختيار انتمائهم الديني. وقد قامت بذلك بالاتفاق مع زوجها عادل جبر؛ فقد اتخذوا موقفاً يكاد يكون فريداً في تاريخ العالم العربي، وهو إتاحة القرار لأبنائهم الثلاثة أن يختاروا انتماءهم الديني عند بلوغ سن الرشد، كما حصلوا على وعد من أبنائهم بأن يحافظوا على هذا التراث لأحفادهم وأبناء أحفادهم.[14]  وماذا كانت النتيجة؛ أن الأبناء في الجيل الأول، والأبناء والبنات في الجيلين الثاني والثالث اختاروا المسيحية والإسلام تباعاً، وبذلك حافظوا على تراث الانفتاح المذهبي في زمن الاحتراب الطائفي الذي اجتاح جبل لبنان وسورية في القرن التاسع عشر، والعراق وسورية ولبنان مرة أُخرى في نهاية القرن العشرين، وبقيت فلسطين في منأى عنه حتى اليوم.[15]

 

[1]  "يوميات السكاكيني"، المجلد الأول، 1/1/1908، ص 48.

[2]  المصدر نفسه، ص 85.

[3] لقاء مع حفيدة منّانة الكاتبة منى حلبي، 21/7/2024.

[4] يعقوب العودات، "أعلام الفكر والأدب في فلسطين"، الطبعة الثالثة (القدس، 1992)، ص 275.

[5] عبد اللطيف الطيباوي، "مجمع اللغة العربية"، المجلد 2، عدد 5 (1968)، ص 870.

[6]  "يوميات السكاكيني"، المجلد الأول، ص 333.

[7] راجع "يوميات السكاكيني"، المجلد الأول، ص 324، 332،340، 22/11/1908.

[8]  "الأصمعي"، العدد 5، 15/11/1908.

[9] "فتاة القدس"، 1/11/1908 (التشديد مضاف).

[10] منّانة الصيداوي، "فتاة القدس"، في "الأصمعي"، السنة الأولى، 15/11/1908.

[11]  "فتاة القدس نقمة الحركة السكانية"، في "الأصمعي"، العدد 8، السنة الأولى، 15/12/1908.

[12]  "الأصمعي"، العدد 8، 15/12/1908.

[13]  راجع: "يوميات السكاكيني"، الكتاب الثاني، ص. 1912.

[14] مقابلة مع حفيدة منّانة الكاتبة منى حلبي، في 21/7/2024، مصدر سبق ذكره.

[15]  المصدر نفسه.