قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، احتوت الأعمال الفنية التي قدمها الفنانون التشكيليون في غزة على مضامين السفر والحصار والحياة الاجتماعية والمرأة، لكن بعد عملية طوفان الأقصى، أصبحت تحمل مضامين إضافية ومستجدة نتيجة شراسة حرب الإبادة التي أدت إلى تهجير السكان ونزوحهم من بيوتهم مراراً وتكراراً، واستهداف الأماكن الآمنة، وفظاعة الجرائم بحق المدنيين، وما إلى ذلك من أعمال تنكيل مخالفة للقانون الدولي الإنساني.
وتفرض الحرب شروطاً استثنائية، ليس على الفنان فقط، بل أيضاً على مجمل بيئة الحياة، فالفنان يمكن أن يجد نفسه في أوضاع لا تتيح له سوى البحث عن كوب ماء أو تلبية حاجات مَن يقاسمونه الحياة، وعلى الرغم من ذلك، فقد عمل كثير من الفنانين على رسم صورة جمالية متناغمة، تحاكي ما يعايشونه، وهناك آخرون لم تتح لهم أوضاعهم ممارسة الفن، والمسألة هنا نسبية وتخضع لشروط أوضاع الحرب ونهجها.[1]
وقد سجل العديد من التشكيليين الذين عايشوا الحرب وصفاً لتفاصيل الحياة من وسط الخيام المحترقة وحالات النزوح المتكررة، فتشابكت المضامين الفنية مع طبيعة الواقع لتجسد الخيمة والمفتاح الذي تطور شكله ليعكس واقعاً جديداً. وقد وثّق بعض الفنانين أعمالهم على منصات التواصل الاجتماعي خلال الحرب، ليعلنوا أنهم على قيد الحياة، كلما رسموا لوحة جديدة، ومنهم الفنان ميسرة بارود، الذي يرسم بالأبيض والأسود بعنوان "لا زلت حياً" باحثاً عن الأمان بين الخطوط والتكوينات الفنية، فمنح أعماله خطوطاً سوداء حادة تعبر فوق المساحات البيضاء لتنقل قوة الألم، وكذلك الفنان رائد عيسى، بعد أن فقد كل أحلامه ومرسمه، فجعل خيمته مرسماً ينقله معه كلما نزح من مكان إلى آخر ليختصره في حقيبة تحمل معاني الهوية. كما عمل الفنان أحمد مهنا، المقيم بمدينة دير البلح، على رسم قسوة حياة النازحين على صناديق الكرتون الخاصة بالمساعدات الإنسانية، مستخدماً الفحم النباتي، وذلك بعد أن استنفد الأوراق البيضاء والألوان في محاولة لتوثيق المخزون البصري لذاكرة المعاناة.
استهداف المراسم
كان الفنانون قبل الحرب يمارسون عملهم الفني في مراسمهم الخاصة، وهو ما يمنحهم الأمن النسبي ويجعلهم على تواصل مستمر مع عالمهم وأدواتهم، وأكثر انسجاماً مع أفكارهم، فالاستقرار أمر ضروري، لأن المكان مبعث إلهام وتوازن روحي للعملية الإبداعية، وهذا أمر مختلف عن القلق الذي يدفع إلى السعي الدائم والمستمر لاصطياد اللحظة المواتية للإبداع والابتكار، فالبعد عن المرسم هو كسقوط الفرع عن جذعه كما وصفه الفنان فايز السرساوي.
ونتيجة لأهمية الإنتاج الإبداعي ودوره في توثيق الأحداث التاريخية، يستهدف الاحتلال المعارض والمراسم الفنية في قطاع غزة الخاصة والعامة منها، كما تعرّض محترف شبابيك للتدمير الكامل، وكذلك معرض قرية الفنون والحرف التابع لبلدية غزة، بينما تعرض جاليري التقاء لتدمير جزئي.
وتُعتبر أماكن العرض العامة حاضنة للفنانين والمتدربين، إذ عمل محترف شبابيك على احتضان أكثر من 100 معرض وعشرات الورش التدريبية، وقدم 21 إقامة فنية، و30 منحة إنتاجية إلى الفنانين في غزة، وقد فقد الفنان شريف سرحان والفنان باسل المقوسي معظم أعمالهم مع تدمير محترف شبابيك، بالإضافة إلى العديد من أعمال الطلبة التي تنوعت بين المنحوتات والأعمال التركيبية، والصور المطبوعة واللوحات الزيتية، وتقدَر الأعمال الفنية المدمرة بأكثر من 15,000 عمل فني، وتم توثيق بعض منها إلكترونياً.[2]
كما تعرض جاليري التقاء للفنون البصرية المعاصرة - تم افتتاحه سنة 2009 - للتدمير الجزئي، وهو يُعتبر مكان عرض دائم للفنون البصرية وللتعليم، والتدريب والحوار الثقافي، وهو ما أدى إلى فقدان العديد من أعمال الطلبة التركيبية والنحتية، وكذلك أعمال المشرفين على المعرض. أمّا قرية الفنون والحرف التابعة لبلدية غزة، التي تأسست سنة 1998، فهي مكان عرض يجسد التراث الفلسطيني، فقد تدمرت بالكامل بما تحتويه من مقتنيات التراث الفلسطيني.[3]
كما فقد العديد من الفنانين مراسمهم الخاصة، وبيوتهم، وأغلب أعمالهم الفنية، ومنهم: ميسرة بارود، ومحمد الضابوس، ورائد عيسى، ومحمد الحاج، ومحمد الحواجري، وأشرف سحويل، وأيمن الحصري، وتهاني سكيك، وغيرهم. ومن الصعب رصد كل الخسائر التي تعرض لها الفنانون في ظل استمرار الحرب.
تحويل الخيام إلى مراسم
لم يتوقف العديد من الفنانين الغزيين عن الرسم، إنما جعلوا من خيامهم مراسم لهم، لكن الألوان غادرت لوحات الفنانين التي امتلأت باللون الأسود؛ لون الفقد والصدمة، ولون الألم في التنقل من دون معرفة ماهية المحطة القادمة. عادة يرسم الفنانون في قطاع غزة تعبيراً جمالياً يزهو بالألوان، كأعمال الفنانين ماجد شلا، ومحمد أبو حشيش، ومحمد الكرنز، وباسل المقوسي، وغانم الدن، والفنانات تهاني سكيك، ورقية اللولو، ودينا مطر، ورفيدة سحويل، وغيرهم الكثير. لكن هل تغيرت نظرتهم إلى الألوان بعد فقدانهم لأدواتهم وأماكنهم؟
كان الفنانون الفلسطينيون قد عبّروا عن معارفهم بأعمال فنية تنوعت بين المجسمات التركيبية والأعمال النحتية في الفضاء العام واللوحات الزيتية والفيديو آرت وغيرها من أعمال كانت تمتاز قبل حرب الإبادة بألوانها الزاهية المتنوعة. لكن أغلبية الإنتاج الفني في الحرب غادرتها الألوان، ومن الأسباب كذلك نفاد المواد الخام. ويلجأ الكثير منهم لاستخدام أقلام الفحم النباتي وأقلام الحبر، وبعضهم زهد بالألوان تعبيراً عن حالة الخوف والألم التي يعايشها في التفاصيل، وحالة التناقض التي عبّر عنها الفنان باسل المقوسي بقوله:" أنا فنان يهوى الألوان المشرقة، لكن الحالة النفسية تقف عائقاً بيني وبينها."
وتمتاز الأعمال الفنية في أثناء الحرب بالبساطة، والخطوط المضطربة والسريعة نتيجة التفكير المستمر في توفير الحماية للفنان وعائلته، ولذا، فقد أصبح دورهم يرتكز على توثيق سردية الحالة اليومية باستخدام خامات محدودة من البيئة، وجعل الأعمال تمتاز بالبساطة في التكوين الفني، وغياب القيم اللونية، وإيحاءات الضوء والظل من دون تطوير للإنتاج الفني مقارنة بهول ما يجري، بعد أن امتازت الأعمال الفنية قبل الحرب بالتطور والتنوع وابتكار مفردات فنية جديدة.[4] ويبقى الخطاب البصري في الإنتاج الفني يشكل تفاصيل القضية، ويوثق همجية الاحتلال من دون البحث عن تعقيدات التكوينات الجمالية اللونية، إنما يعتمد على معانٍ مباشرة أثقلتها الهموم اليومية، ومشحونة عاطفياً بتأثيرات الحرب النفسية والجسدية.
دور الفنان في الدعم النفسي
يتمثل دور الفنان في أثناء الحرب في تقديم الدعم النفسي، وعلاج الصدمة لكل فئات المجتمع، وخصوصاً النساء والأطفال، عبر الرسم بما توفر من ألوان، إلى جانب دوره في التوثيق اليومي لأهوال الحرب، ويعمل على المحاكاة الزمنية السريعة للحدث.
وتزيد الحرب من شراستها وتعقيداتها، وتعمل على تدمير أوسع للموروث الفني، وهو ما يتناقض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية، واتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 واتفاقية لاهاي لسنة 1954 الخاصة بحماية الأملاك الثقافية في أثناء النزاع المسلح. وتبقى الحاجة إلى معرفة معمقة أكثر عن دور الاتحاد الدولي للفنانين في حمايتهم وحماية والموروث الثقافي، إذ غيّب الحصار والقصف عدداً من الفنانين الغزيين ومنهم: الفنان فتحي غبن، والذي وافته المنيّة وهو في انتظار تصريح للسفر للحصول على العلاج. ومنهم من غاب عن المشهد الفني بسبب الاستهداف المباشر وهم: إلهام أبو جياب، وعريب الريس، وعبد الحميد حمد، وإياد الصوالحي، ومحمد الزمر، وأحمد بارود محمد أبو شعيرة، وهيثم عيد، ومارندا المغاري، وأمير أبو عيشة، وهبة الخطيب، وثائر الطويل، وهبة زقوت، ونسمة أبو شعيرة، وحليمة الكحلوت، ومحمد سامي قريقع. وهناك من الفنانين من غادر قطاع غزة، ومنهم محمد الحواجري، ودينا مطر، ومحمد أبو سل، وأيمن عيسى، ومها الداية، وفايز السرساوي، وباسل العكلوك، وهناك من كان مسافراً قبل الحرب وأصبح عالقاً في الخارج، كشريف سرحان.
تستمر الحرب في إبادة الجمال والقيم الإنسانية، ويبقى العمل الفني إبداعاً مستمراً لإعلان البقاء والصمود.
[1] مقابلة هاتفية مع الفنان فايز السرساوي، تموز/يوليو 2024.
[2] مقابلة هاتفية مع الفنان شريف سرحان، تموز/يوليو 2024.
[3] "التقرير الأولي الثاني حول أضرار القطاع الثقافي الحرب على قطاع غزة"، وزارة الثقافة، 2023.
[4] مقابلة هاتفية غانم الدن، تموز/يوليو 2024.