"ضاع شادي
والتلج إجا وراح التلج
عشرين مرة إجا وراح التلج
وأنا صرت إكبر وشادي بعده صغير
عم يلعب عالتلج
عالتلج"
بينما كانت المطربة الفلسطينية أمل مرقص، التي جاءت لتقديم واجب العزاء، تردد بصوتها كلمات أغنية فيروز، انفطرت قلوب الأمهات المكسورة أصلاً إلى شظايا صغيرة في حزن وألم لم تشهده قلوبنا في حياتنا من قبل. فقبل ثلاثة أيام، في مرتفعات الجولان المحتل، وتحديداً في 27 تموز/يوليو، حلت كارثة في بلدتنا مجدل شمس.
أطفال يندبون وفاة الشهداء الاثني عشر، الذين كانوا من أصدقائهم وأقاربهم، خلال حفل تأبين أقيم في 31 تموز/يوليو 2024. (تصوير: ناجي الصفدي)
انطلقت صافرات الإنذار الإسرائيلية بعد فوات الأوان، ففي غضون خمس ثوانٍ فقط، هز انفجار ناري قوي ملعب كرة القدم الذي يتردد إليه يومياً الأطفال، الذين لم يكن الوقت حليفهم لمعرفة ما الذي عليهم فعله. وعلى الفور، هرع المئات إلى مكان الحادث، منهم من كان يركض، وذلك الذي كان على دراجته الهوائية، وذلك الذي في سيارته. ووصل المسعف أدهم الصفدي ليجد ابنته فينيس جثة هامدة، فقام بتغطيتها وواصل البحث عن ناجين. وامتزجت أصوات صفارات سيارات الإسعاف بأصوات البكاء والصراخ، وكان الجرحى والقتلى يُنقلون إلى مركز المجمع الطبي، حيث كان الأطباء والممرضون يبذلون قصارى جهدهم. وأخبرني أدهم لاحقاً أن الأطباء فعلوا "المعجزات"، وكانوا كخلية نحل، وأن "كل من يكتب عما حدث، يجب عليه أن يذكرهم".
وقفت بلدة مجدل شمس في حالة صدمة وذهول وخوف شديدة! فكل الأطفال في مجدل شمس اعتادوا اللعب في ملعب كرة القدم هذا أو ساحة اللعب المجاورة له. فتدافعنا بسرعة أنا وعائلتي للاتصال بأحبائنا، وكنا ننتظر على أحر من الجمر كل ثانية كي يجيبوا على الهاتف، وبدأت في الوقت نفسه قناة الأخبار على التلفاز تعرض صوراً لبلدتنا، وتتبعها مكالمة تلو الأُخرى، فسمعنا اسم شهيد آخر، وجميعهم كانوا أطفالاً، وكان الشعور الذي انتابني في تلك اللحظات سريالياً إلى درجة أنني لا أزال عاجزاً حتى اللحظة عن وصفه بالكلمات.
وديع ابراهيم يحمل صورة ابنه جوني وهو يمشي أمام نعشه خلال تشييع جنازة الشهيدين في وسط البلدة في 28 تموز/يوليو 2024 (تصوير: ناجي الصفدي)
في مجتمعنا، تربطنا أواصر قوية جداً، وكل طفل في العائلة الواحدة نعتبره طفلنا جميعاً، فلسنا غرباء بعضنا عن البعض الآخر. ولذلك، وفي أحلك الساعات التي عايشها المجتمع الجولاني، فقد استطعنا أن نقدم صورة لمعنى التعاضد، وتوحدنا في فيض جماعي من الدموع والألم والحب والتضامن. وتجلى ذلك يوم الأحد صباحاً عندما شيّع الآلاف ممن اتشحوا بالسواد جثامين الضحايا، وقدّم كل واحد منهم تعازيه الحارة إلى العائلات المفجوعة، ورُفع أحد عشر كفناً ملفوفاً باللون الأبيض فوق ظهور أمواج من الناس الذين كانوا يرددون: "جولان دموعه سخايا.. عالشباب وعالصبايا.. الأم بتصرخ وين ابني.. لا تقولو بين الضحايا." أمّا الشهيد الثاني عشر جيفارا، فقد كان لا يزال مفقوداً حينها، وحاولت عائلته مدعومة بعدد لا يحصى من المتطوعين البحث عنه في كل مكان إلى أن وُجد يوم الأحد مساءً، إذ حطمت فحوصات الحمض النووي آمالنا في عودته، وفي صباح يوم الاثنين، قمنا بتشييعه.
إضاءة الشموع على أرواح الشهداء في نصب تذكاري في وسط المدينة في 28 تموز/يوليو 2024. (تصوير: ناجي الصفدي)
في الجولان، لا يمكنك أن تحزن وحدك، فهناك مراسم حزن يومية تُقام لمدة أسبوع كامل، يحضرها الناس مراراً وتكراراً ليؤازر بعضهم البعض الآخر، فيزورون بيت كل عائلة مكلومة، ويضيئون الشموع أمام النصب التذكارية التي تحمل صور الشهداء وتزيّن ساحاتنا، ويرفعون الأعلام السوداء في شوارعنا، ويرددون أسماء الضحايا الأطفال وقصصهم: ألما، وميلار، وفينيس، وجيفارا، وإيزيل، ويزن، وجوني، وأمير، وناجي، وفجر، وحازم، وناظم، ويتم مشاركتها على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، واعدين أنفسنا بألاّ ننساهم أبداً. ومن خارج الجولان، تلقينا آلاف رسائل التضامن من الناس في الجوار، ومن بقية العالم، كما جاءت حافلات محملة بالفلسطينيين والإسرائيليين شخصياً للتعبير عن تعاطفهم. وفي الوقت الذي نقدّر فيه كل لفتة تضامنية، فإنه لا يمكننا أن ننسى كل هؤلاء الذي لا يرمش لهم جفن على أطفال فلسطين ولبنان.
والد جيفارا وأصدقاء جيفارا في 31 تموز/يوليو 2024. (الصورة: ناجي الصفدي)
إن مأساتنا الإنسانية سياسية بامتياز؛ فإسرائيل وحزب الله يتبادلان اللوم في الضربة، ولا يوجد دليل قاطع، وفي المقابل على أرض الواقع، تنتشر شائعات كثيرة يتداولها البعض، وفحواها أنه كان صاروخ قبة حديدية تم إطلاقه بالخطأ، أو حتى ضربة إسرائيلية محسوبة تعطي ذريعة لمهاجمة لبنان، والبعض الآخر مقتنع بأن حزب الله كان يحاول ضرب هدف عسكري لكنه أخطأ الهدف. وفي نهاية المطاف، لا أحد يعرف حقيقة ما حدث، لكن حتى أولئك الذين يتهمون حزب الله، هم غاضبون من إسرائيل، ليس فقط لأن صفارات الإنذار والقبة الحديدية فشلتا، بل أيضاً لأنه لولا الحرب الإسرائيلية المروعة على غزة لما كانت هناك صواريخ. باختصار، لقد مات أطفالنا لأن إسرائيل تقتل أطفال غزة.
أقيم احتفال في مركّز الشام وسط البلدة في 3 آب/أغسطس 2024، بمناسبة مرور أسبوع على الكارثة. أمهات حزينات يحملن صور أطفالهن. (تصوير: ناجي الصفدي)
وفوق كل أوجاعنا وخساراتنا، لم يُسمح لنا حتى أن نحزن بسلام، وكان علينا أن نحارب من جديد للدفاع عن هويتنا، ففور وقوع الكارثة، بدأت المؤسسة العسكرية والإسرائيلية تحوم حولنا كالنسور، محاوِلة استغلال لحظة ضعفنا وألمنا عبر تصويرنا كمواطنين إسرائيليين، وفي المقابل، تصوير عنفها تجاه لبنان وفلسطين على أنه انتقام للدفاع عنا، وهذا ما نطق به المتحدث العسكري الإسرائيلي الذي وصف أطفالنا بـ "المواطنين الإسرائيليين" والجولان بـ "شمال إسرائيل"، ودان حزب الله لـ "استهدافه وقتله الأطفال"، ولم يكن أي من الشهداء مواطنين إسرائيليين، والجولان ليس إسرائيلياً، إنما هو أرض سورية محتلة، وقد استهدفت إسرائيل وقتلت أكثر من 15,000 طفل فلسطيني منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وبسبب هجوم مجدل شمس، أجّل نتنياهو سفر 150 طفلاً فلسطينياً مريضاً من غزة كانوا ينتظرون بفارغ الصبر نقلهم إلى الإمارات العربية المتحدة للعلاج، كانتقام لأطفال الجولان، وتوعد أيضاً بالانتقام من لبنان. لقد فهمنا بسرعة ألاعيب إسرائيل واستغلالها للأوضاع، ونعلم أنها لا تكترث لنا. في السنة الماضية، عندما خرجت الاحتجاجات ضد مشروع بناء توربينات الرياح الإسرائيلية على أراضي مجدل شمس الزراعية، اعتدت الشرطة الإسرائيلية على المحتجين بوحشية وقامت بقمعهم. وعلى مدى عقود، انتهك الاحتلال الاستعماري الاستيطاني القانون الدولي، ومارس التمييز ضدنا، كما وثّق المرصد. والآن، يدّعون بجرأة أن أطفالنا هم أطفالهم لتبرير ارتكابهم مزيداً من المجازر.
مشيعون يحيطون بتمثال سلطان الأطرش، القائد الدرزي السوري لثورة 1925 خلال الجنازة التي أقيمت للشهداء في 28 تموز/يوليو 2024. (تصوير: ناجي الصفدي)
وتكريماً لكل ذلك التاريخ الذي نحمله في المقاومة ضد الاستيطان، والمتجذر في الثورة السورية ضد الفرنسيين سنة 1925، وإضراب 1982 ضد الضم والتجنيس الإسرائيلي، قررنا ألاّ نقف مكتوفي الأيدي. كان من المقرر في البداية أن تقام مراسم التشييع يوم الأحد جزئياً في أكبر مساحة مفتوحة في مجدل شمس، وهي ملعب كرة القدم الكبير بجانب الملعب الأصغر الذي تم استهدافه، وسهر المتطوعون طوال الليل وهم يجلبون آلاف الكراسي البلاستيكية وقوارير المياه والمظلات الشمسية لترتيب المكان. لكن خلال الليل، انتشرت شائعات فحواها أن المسؤولين الإسرائيليين أرادوا حضور الجنازة، وحينها تَقَرَّرَ نقل الجنازة إلى الشوارع الضيقة المحمية في وسط البلدة، وبعدها، قام الوزير اليميني المتطرف سموتريتش - المولود في مستوطنة غير شرعية في الجولان - بزيارة ملعب كرة القدم، وقام الناس بطرده من هناك، متهمين إياه بـ "الرقص على دماء أطفالنا"، ولاحقاً حاول نتنياهو تنظيم لقاء مع العائلات المكلومة، ورفضوا ذلك أيضاً، ومع ذلك، وصلتنا أخبار يوم الاثنين بعد الجنازة الثانية عن قرب وصوله إلى مجدل شمس، وطبعاً لم نستطع أن نحزن بسلام، فتجمّع المئات بسرعة، وقلوبنا تفيض ألماً وحزناً، ودماؤنا تغلي غضباً، وهتف المتظاهرون خارج المبنى الذي كان يجتمع فيه نتنياهو بأعضاء المجلس المحلي: "يا صهيوني ارحل ارحل، الأرض العربية حرة"، وأضافوا: "ارحل يا صهيوني: مجرم، مجرم، قاتل، فاشي".
لافتة احتجاج علقت خلال مظاهرة أمام القاعة الرياضية الواقعة بالقرب من ملعب كرة القدم الذي تعرض للقصف في مجدل شمس. نُظمت المظاهرة بعد ساعات قليلة من الجنازة الثانية التي أقيمت في البلدة للطفل جيفارا، في 29 تموز/ يوليو 2024. واستخدمت القاعة من قبل المجلس المحلي للاجتماع مع نتنياهو. كُتب على اللافتة باللغة العربية ”12 شمعة، أنت القاتل... المجرم“. (تصوير: ناجي الصفدي)
والأهم من ذلك أننا رفعنا أصواتنا العالية لبث رسالة سلام، رداً على استغلال إسرائيل لآلامنا، وبعد زيارة نتنياهو، أصدر قادة المجتمع الجولاني المتدينين والعلمانيين بياناً مشتركاً يرفضون فيه "إراقة ولو قطرة دم واحدة بحجة الثأر لأبنائنا"، وطالب إبراهيم إبراهيم، الذي فقد ابنه جيفارا، بوقف الحرب. أمّا مايا الدين، التي فقدت ابنة عمها ألما، فقد حثت العالم على "ألاّ يعتبر حزننا علامة على التصعيد، إنما دعوة إلى السلام." وفي الأمسية التي أُقيمت بمناسبة مرور أسبوع على الكارثة، أطلق الأطفال الحمامات في السماء للدعوة إلى السلام، ونشر الآلاف من الجولانيين قصصاً على "إنستغرام" معلنين الموقف نفسه.
وعلى الرغم من مناشداتنا ودعواتنا، فقد قصفت إسرائيل يوم الثلاثاء 30 تموز/يوليو 2024 مبنى سكنياً في منطقة مكتظة بالسكان في الضاحية الجنوبية في بيروت، مستهدفةً القائد اللبناني الذي تتهمه بتنفيذ هجوم الجولان، وهو ما أدى إلى مقتل 5 مدنيين، بينهم طفلان. وأدت غارة جوية إسرائيلية أُخرى في جنوب لبنان يوم الخميس 1 آب/أغسطس 2024 إلى مقتل 4 سوريين. إن أهالي الجولان لا يتحملون هذه الجرائم، وإذا استخلصتم شيئاً واحداً فقط من قراءة كلماتي هذه، فليكن الألم الذي نشعر به، لأننا حتى نحن أنفسنا لا نستطيع استيعابه، ولتكن رسالتنا: لا للقتل باسم أطفالنا!
* ترجمة: لبنى طه.
أصدقاء وأقارب الشهداء يحملون الزهور في حفل تأبين أقيم في 31 تموز/يوليو 2024. (تصوير: ناجي الصفدي)
طفل يبكي وفاة ابن عمه يزن خلال حفل تأبين الشهداء في 31 تموز/يوليو 2024. فقد ثلاثة من أبناء عمومته في الغارة على ملعب كرة القدم. (تصوير: ناجي الصفدي)
حفرة سقوط الصاروخ في ملعب كرة القدم، 31 تموز/يوليو 2024. (تصوير: ناجي الصفدي)