مراجعة كتاب: حكاية سر السيف
Date:
30 juillet 2024

صدرت رواية "حكاية سر السيف" لوليد دقة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي سنة 2021، وأُطلقت في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2022 في مركز خليل السكاكيني. وقد أطلق وليد دقة الكتاب عبر رسالة مسجلة صوتياً، بوجود كل من الأستاذ عبد الرحيم الشيخ، وزوجة وليد سناء، وابنته ميلاد، وافتراضياً الكاتب اللبناني إلياس خوري. وتقع الحكاية التي كتبها دقة في سجن جلبوع في بيسان المحتلة سنة 2018، في 100 صفحة وصفحة، مقسمة إلى ستة فصول، وتُصنَف ضمن أدب اليافعين، وهي ضمن عمل يضم 3 حكايات عمل عليها وليد دقة، وهي: "حكاية سر الزيت"، و"حكاية سر السيف"، و"حكاية سر الطيف – الشهداء يعودون إلى رام الله"، وهي الجزء الأخير الذي لم يصدر بعد، وذلك بحسب ما وضح الأستاذ عبد الرحيم الشيخ خلال تقديمه إطلاق الحكاية في مركز خليل السكاكيني.

تقدم "حكاية سر السيف" قصة جود الذي سيذهب في مغامرة البحث عن سر السيف هو وأصدقاؤه، وذلك بعودتهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948، وتتمحور القصة بشأن علاقة جود بأهل قريته ودورهم في حماية جود المطارَد من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ تخرج فكرة قرار العودة بعد حديث جدتهم عن قريتها المهجرة، وإخبارها إياهم بالمخبأ السري الذي يحتوي على حجج وأملاك السكان الذين هُجروا من قراهم قسراً عقب حرب النكبة.

تقديم: دلالات الحكاية 

يقدم دقة في الحكاية، بدءاً من عنوانها، مجموعة من الدلالات التي ملأ بها سرده للقصة في محاولة للدفع في اتجاه الكشف عن هذا السر، والكامن في طرحه لـ "فعل الاسترداد"، فتحويل "السيف" إلى دلالة مادية متحققة عياناً إلى "سر"، يقدم المجادلة الأساسية للحكاية، والماثلة في افتراض الكشف عن المعنى الحقيقي للسيف والمضمر في سره؛ إنه استرداد الفعل والفاعلية الفلسطينية عبر استرداد السيف.

وسيستدرج دقة القارئ في اتجاه التساؤل عن آليات توظيف "السيف" في سياقاته الفلسطينية التي لا تنطلق من زمانية ومكانية فلسطينية فقط، بل أيضاً تمتد إلى تفحّص دلالاتها وتوظيفاتها الاستعمارية. فالسيف هو دلالة على توظيف العنف الاستعماري عبر مَلك أدواته التي تسعى دولة الاحتلال عبرها لفرض رقابة شمولية على حياة الفلسطينيين، ويتم تجسيد فكرة القوة بالسيف. ويتموضع السيف أيضاً في خانة القيمة الاستعمالية المزدوجة له بطرح إمكان توظيفه من جانب الخاضع للاستعمار أيضاً، في مقاربة سياقية فلسطينية لأطروحة فرانس فانون لتوظيف العنف بردّه إلى مصدره المنتَج له.

وهي في الوقت نفسه، تتقبل الأطروحة الفانونية غير المختزلة في أفعال عنف فردية، لكنها مندمجة ولا تتعارض مع الأبعاد والدلالات الرمزية للعنف عبر المشاركة المباشرة وغير المباشرة لجماهير الخاضعين للاستعمار، فحتى غير المنخرطين مباشرة في العمل العنفي المقاوم للاستعمار يقدمون بيئة تساهم في خلخلة الحضور العنيف والقوي للمستعمِر؛ إذ يقدم دقة مداخل فردية وجماهيرية في آن واحد لكسر هذا العنف، وعلى مستويين: المستوى المتحقق بفعل العنف الاستعماري المباشر، والآخر الماثل في العنف الممارس للرقابة والسيطرة على الفلسطينيين، وذلك عبر "فعل الاسترداد"، والذي هو قيمة مركزية في معظم أعمال دقة الفكرية والأدبية. ويتجسد "فعل الاسترداد" في "سر السيف" عبر حكاية جود المحبوكة في إطار سردي تُبنى فيه العلاقات الاجتماعية وتتوطد كلما توطد الاستحكام الاستعماري على حياة أهل القرية.

 فدقة يقدم جود عبر علاقته بقريته وأصدقائه، فهو المطارَد من الجيش، والذي حمى نفسه من الاعتقال عبر الحذر الأمني ضمن حاضنة مجتمعية قدمت إليه هذه الحماية، وهو ما يقود إلى تسلسل دلالات الحكاية بشأن مفهوم العمل الجماعي من ناحية، ومن ناحية ثانية، مواجهة منظومة الرقابة والسيطرة الاستعمارية التي في الإمكان خرقها عبر استرداد الوعي بفعالية الجسد خارج فعل التنميط الاستعماري له باعتباره جسداً خاملاً في الإمكان السيطرة عليه سيطرة مطلقة، بينما هو، من جهة أُخرى، يؤسس لمجموعة من المفاهيم التي تشكل البنية الناظمة لفعل الاسترداد.

استرداد قيمة الحرية باسترداد وسيلة التحرير: 

"لا حرية من دون تضحية، وأقول هنا، الحرية للفلسطينيين وليس تحرير فلسطين، فالحرية قيمة والتحرير وسيلة، كما أن الحرية بصفتها قيمة هي غير خاضعة لحسابات موازين القوى، ومن طبيعتها أنها غير قابلة للمساومة، فإمّا الحرية وإمّا العبودية، فلا يوجد نصف حرية أو ربع حرية، بينما تحرير الوطن خاضع لحسابات موازين قوى ومساومات، فكانت النتيجة أقل من ربع وطن افتراضي على الورق. وهي كقيمة عندنا الشرط الضروري للتحرير كي يتوافق مع روايتنا التاريخية، وإذا أخذنا بعض المساومات المشروعة، تبقى الحرية التناقض والانهيار لمشروعية هذه المساومات، وقد حان الوقت لأن تكون الحرية ثابتاً وطنياً لإسماع روايتنا التاريخية." [1]

تلك كانت بعضاً من جمل دقة خلال إطلاق "حكاية سر السيف"، والتي تُقرأ باعتبارها نصاً موازياً يُقرأ عن طريقه النص - الحكاية في حركة جدلية ينتج بها أحدهما الآخر، ويمكن التركيز في علاقة القيمة بالوسيلة، والمعنى وكيفية توظيفه بعيداً عن سياسات الخسارات التي استبدت بفعل الرسمية الفلسطينية. غير أن التنظير الأساسي الذي يمكن الاستدلال عليه واضحاً لدى دقة يبدو جلياً في أن تحقق القيمة، وإن تمثلت في وسيلة أساسية هي "السيف"، فإن للسيف معانٍ متعددة لا يمكن فهمها إلاّ في سياقاتها التاريخية التي تجعل من تعدد الوسائل، لا انعدامها، يؤدي في المحصلة إلى "السيف". لذلك، فقد اعتمد دقة تقنية الإظهار والإخفاء، بما هو إحالة فيه من الفكر الصوفي الشيء الكثير المبني على العلاقة التكاملية بين الظاهر والباطن، لينتج شبكة من العلاقات المتراكبة: علاقة القيمة بالوسيلة، والمكان بالجسد، والمستعمر بالمكان، والمستعمر بالخاضع للاستعمار، والعنف بالإخفاء، والعنف بالإظهار، وجميعها يؤدي إلى انكشاف القيمة الحقيقة بتحققها كحرية مطلقة.

وإن إحدى هذه العلاقات تظهر في بداية الحكاية، عندما يحاول دقة أن ينتج علاقة ظاهر المكان بحقيقته الباطنة المدفونة تحت فعل التدمير الممنهج للمكان، والتي لا يمكن الوصول إلى تحققها الأعلى إلاّ عبر تلك الحركة لإعادة علاقة الجسد الفلسطيني بمكانه. وسيختفي الجسد بدهنه بالزيت كي يظهر في المكان الأول الذي دُمر في العنف التأسيسي الظاهر للعيان في المدن والقرى المهجرة سنة 1948، لكنه أُخفي بفعل مَلْك المستعمر وسائل السيطرة على المكان وإعادة تشكيل مشهديته كمادية متعينة جديدة تشكل الظاهر منه لتحقق ملكه إياه.

ولأن موازين القوى لا تتيح لجود وأصدقائه تلك الحركة الفعلية الظاهرة للعلاقة بالمكان، فإن التخفي -الإخفاء يصبح الإمكان الوحيد لتحقق تلك العلاقة، ومن هنا، يطرح دقة الظرفية التاريخية كعامل موضوعي يعدل في آليات تحقق السيف غير المنعدمة، إنما الممكنة، عبر الإخفاء الآن والظهور لاحقاً في المكان الأول، ويختفي الجسد ليظهر المكان، ويختفي المكان إن لم يظهر الجسد، وعندما تتعدل علاقة الاختفاء بالظهور، بحيث لا تعود قيمة سالبة، بتحولها إلى علاقة موجبة، أي حضور الجسد بالحضور في المكان من دون اختفاء، حينها تكون قيمة الحرية قد تحققت، فتتحقق معها السردية التاريخية لعلاقة الفلسطيني بالمكان.

مفتاح العودة على شكل سيف: استرداد الأرض والذاكرة المسلوبة 

استعرض دقة خلال الحكاية المسار الجغرافي للوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948 في محاولة منه لتوضيح تداعيات الجغرافيات المجزأة والمقطعة التي كانت محصلة التقسيمات الاستعمارية لفلسطين التاريخية. فالطريق إلى القرى المهجرة في النكبة أصبح يمر عبر سلسلة من الانقطاعات المكانية عبر الحواجز العسكرية وجدار الفصل العنصري وسياسات التفتيش، غير أن السيف الذي سيتمتع بخاصية السرد، بفعل ملئه بزيت الإخفاء - الإظهار، سيعيد حكاية المكان إلى مسارها الصحيح. وستسرد الجدة حكايتها عن قريتها المهجرة قاقون، وإن كانت الجدة قد أصيبت بـ "مرض النسيان"، إلاّ إنها لم تنسَ، وسيعيد السيف استحضار حكاية الجدة صورة متعينة أمام جود وأصدقائه.

وبذلك، سيميز دقة بين نمطين من الذاكرة: الذاكرة الثقافية التي تتشكل منها هوية المجتمعات عبر القصص المؤسسة للذاكرة الجمعية، والذاكرة المصطنعة التي تشكلها السلطات التي تتحكم بتشكيل الذاكرة والتي تصطنعها هنا السلطة الاستعمارية من جهة والسلطة السياسية التي تتحكم بإدارة شؤون الذاكرة والنسيان على المستوى الفلسطيني الرسمي من جهة أُخرى. وسيكون فعل الاسترداد للذاكرة الجمعية الفلسطينية مستمداً من تراكبية علاقة التذكر بالنسيان، باعتبار أن أحدهما ضرورة لترتيب علاقة الحضور بالغياب. لذلك، سترى الجدة السيف على شكل مفتاح، وسيرى الجيل الحالي السيف بصيغته المادية سيفاً، لكن الذاكرة المستعادة للجدة على نصل السيف ستؤسس لفعل استرداد البيت باستخدام تقنيات روائية قائمة على الترميز، بحيث يصبح السيف هو المفتاح للحق التاريخي للفلسطيني في مكانه وجغرافيته.

ليس نص "سر السيف" إلاّ نصاً فلسفياً بامتياز، يمكن مراجعته من أكثر من زاوية قراءة، فهو نص يقوم على علاقة التبسيط بالتعقيد، فكل تعقيد يمكن تبسيطه، وكل تبسيط يمكن تعقيده، وتلك العلاقة المركبة لمن يمكنه إدراك سؤال الكيفية التي تؤدي إلى تحقق القيمة لا مغالبتها، وإنما تقوم على استدراك "فعل الاسترداد".

 

[1]  "إطلاقة رواية ’حكاية سرّ السيف‘ للأسير وليد دقة"، "يوتيوب"، 6/10/2022.