كنت أشتري ترمساً من بسطة عند باب مستشفى شهداء الأقصى، فلفتتني امرأة خمسينية، مبتورة يدها اليسرى، وتستند إلى عكاز تحمله في يدها اليمنى، بسبب إصابة في قدمها اليمنى، وكانت تشتري الترمس أيضاً. تعجبت لأمرها، وتساءلت في نفسي: "لماذا تشتري بنفسها وهي في هذا الحال؟!"، فقلت لها: "دعيني أوصلك يا خالة إلى مكان نزوحك"، فابتسمت وقالت لي: "الله يرضى عليكِ يا بنيتي"، ثم قالت ضاحكة: "سأستغلك لأشتري بعض الخضار وتوصليني بها"، فقلت مبتسمة: "حسناً."
فسِرنا معاً لنتوجه إلى بسطة الخضروات، وأثارني فضولي لأعرف قصتها، فسألتها بتردد: "لماذا تتبضعين بنفسك يا خالتي؟ لمَ لا ترسلين أحد أبنائك ليشتري لك ما تحتاجين إليه؟"، فأجابت بحسرة: "لدي خمسة شباب، وكنا قبل ثلاثة أشهر في بيتنا في رفح، وكان البيت يحوي ما يقارب 75 نازحاً من مدينتَي غزة وخان يونس، وجلّهم من الأقارب والأصدقاء، وكنا نتشارك ونتعاون في كل شيء، ويعين بعضنا البعض الآخر في جلب الطعام وطبخه، وكانت الأمور تسير على ما يرام. كانت مساحة بيتي واسعة، ويتسع لألف من الأحباب، إذ كنا ميسوري الحال، لأن زوجي كان يعمل دكتوراً في إحدى الجامعات، وابني البكر حمزة، عمره 29 عاماً، خريج هندسة زراعية، وكان موظفاً لدى وزارة الزراعة، وهو متزوج وله طفلان. أمّا ابني حسن، فعمره 25 عاماً، وهو خريج إدارة أعمال، وكنت أبحث له عن عروس، لكن حلّت الحرب، وأفسدت كل شيء، ولدي توأم؛ محمد ويوسف، يدرسان الصيدلة في المستوى الخامس في جامعة فلسطين، وأصغرهم بلال في المستوى الثاني يدرس قانون..."، ثم قطعت الخالة أم حمزة حديثها معي وقالت لبائع الخضار: "ضع لي كيلو من البصل وكيلو من الطماطم."
وحملت لها كيسَي البصل والطماطم وسرنا، ثم طلبت منها أن تكمل، فقالت: "كنت ملكة في بيتي، فكان زوجي يحسن معاملتي، وكان أبنائي بارين بي وبأبيهم، وكنت دائماً أحمد الله الذي أعانني على حسن تربيتهم."
وملأت الدموع عينيها، وغلب على صوتها الألم، وقالت: "لكن سرعان ما تنتهي الأيام الجميلة؛ ففي أول جمعة من رمضان الماضي، في 15 آذار/مارس، عقدنا النية أنا وزوجي أبو حمزة لطبخ مفتول للنازحين في بيتنا، وخصوصاً مع توفر الدجاج في الأسواق الذي لم يتوفر منذ أكثر من شهر، فذهب هو لشرائه من السوق، وبدأت أنا التجهيز للمفتول بمساعدة النساء الموجودات في البيت، وبدأ الشباب إشعال الحطب. ذهبت يومها إلى بيت صديقتي أم حسام، الذي لا يبعد عن بيتي مسافة كبيرة لأطلب منها وعاء طبخ كبيراً يتسع لطبخ كمية كبيرة من المفتول، وأخذت معي حفيدَيَّ، نادر وزين، وعندما وصلت إلى هناك، سمعت صوت انفجار عالٍ جداً، وملأ الدخان المكان، فتركت عندها نادر وزين، وهرعت إلى بيتي، لأجد أبو حمزة ملقى عند باب البيت، ملطخاً بالدماء وإلى جانبه 3 أكياس من الدجاج مملوءة بدمائه، وقال لي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: ʾالأولاد، أسرعي إلى الأولاد، ربما يكون أحدهم حياً.ʿ فهرعت أصرخ إلى البيت لأبحث عن أبنائي وأرى ما جرى لهم، وبمجرد دخولي بيتي المدمر، سقط صاروخ آخر يستهدف البيت مرة أُخرى، فسقطت على الأرض مغشياً عليّ، واستيقظت على سرير في المستشفى، فوجدت يدي اليسرى مبتورة، وقدمي اليمنى لا أستطيع تحريكها من الألم، وقلبي ينتفض من الألم والحزن والقلق على أبنائي، فسألت إحدى الممرضات عن أبنائي: ʾهل هم بخير؟ هل يوجد أحد منهم على قيد الحياة؟!ʿ، لكن لم تجب الممرضة، لأنها لا تعلم. وبعد ساعات، قامت صديقتي أم حسام بزيارتي لتخبرني بما أحسه قلبي؛ إذ استشهد أبنائي وكل النازحين الذين كانوا في البيت وهم صائمون. استشهد زوجي وأبنائي ودُفنوا قبل أن أودعهم، وتسلل الحزن إلى حياتي من دون استئذان، وغمرتني لحظات من العجز والضعف.
وبعد خروجي من المستشفى، استضافتني صديقتي أم حسام في بيت أقاربها الكائن في دير البلح، وعاملوني أحسن معاملة، لكنني غادرته بعد شهر لكي لا أصبح عالة عليهم، فأنا ضيفة ضيفتهم!"
ثم تابعت: "ما يعينني على تحمُل هذا الألم إيماني بالله وقدره، وكون هذه الحياة قصيرة، فلقائي زوجي وأبنائي قريب في الجنة بإذن الله."
وصلت مع خالتي أم حمزة إلى مكان نزوحها، وهو عبارة عن خيمة صغيرة معتمة، ودرجة الحرارة فيها عالية جداً، وتقيم بها مع طفلين صغيرين.
ثم قالت: "إن الله عطاياه كثيرة؛ فقد ألهمني الصبر والرضا على البلاء، وأهداني حفيديّ، نادر (3 أعوام) وزين (4 أعوام)، فهم هدية من الله لأعيلهم وأكفلهم، وربما يكونان سبب دخولي الجنة."
فسألتها كيف تعيل هذين الطفلين، فأجابت: "أبناء الحلال كثر، ويوجد شابة أرملة نازحة في الخيمة المجاورة، تساعدني في كل شيء هي وابنها معاذ البالغ من العمر 13 عاماً، الذي يذهب إلى السوق ليشتري لي كل ما أحتاج إليه، ويجلب إليّ الماء من محطات المياه. وكنت أحتفظ بمبلغ من المال، استثمرته في شراء البضائع المتوفرة في السوق بسعر الجملة، كالإندومي والعصير وغيرهما، ومعاذ يبيعها للأطفال، ويأخذ جزءاً من الربح أجراً له، لكنه ذهب مع أمه صباح اليوم لزيارة أبيها في المستشفى بعد إصابته بوعكة صحية مفاجئة، لذلك اضطررت إلى النزول إلى التسوق وحدي."
فقلت لها: "من حسن حظي أن ألتقي بك." وأصرت الخالة على أن تشتري لي الشاي، وودعتها مع وعدي لها بزيارتها قريباً.
تمثل أم حمزة، بعزيمتها وقوة إرادتها المرأة الفلسطينية المكافحة التي يصعب كسرها بسهولة، لأنها تملك قدرة كبيرة على التحمل والصبر في مواجهة الصعوبات والتحديات، وكفاح المرأة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال.