أنس قاطرجي: سوري في قطاع غزة
Date:
18 juillet 2024
Thématique: 

لم يكن صعباً الوصول إلى سوري في قطاع غزة، وهذه الجملة تبدو غريبة، لكنها حدثت. كنت قد قرأتُ معلومة منذ سنوات تفيد بأن سوريين قد ذهبوا إلى قطاع غزة بعد الأزمة السورية، فتذكرتُ الأمر، وتأكدتُ منه، فقد وصل إلى قطاع غزة في سنة 2013 نحو 36 عائلة سورية، وبدأتُ البحث عمن تبقّى منهم، بين أكثر من مليونَي فلسطيني في القطاع، والمفاجأة هي أن كل من سألتهم أشاروا إلى شخص واحد، اسمه أنس قاطرجي، وبسرعة وصلني رقمه، فكل من سألته يعرفه، فهو يعيش في قطاع غزة منذ 11 سنة وشهرَين، ومعروف كصاحب مطعم شهير في القطاع، وكمذيع قدّم برنامجاً على شاشة "تلفزيون فلسطين" الرسمي.

فراسلتُه، وعرّفته بنفسي، وأخبرته برغبتي في كتابة مقالة عن السوريين في قطاع غزة عبر حوار معه، فتحادثنا قليلاً، ووجدته يعرف جيداً عن تاريخ فلسطين الحديث والقديم، ويعرف عن الشخصيات الفلسطينية النضالية، وما ساعد في كسْر الجليد فيما بيننا أنه وجدني أعرف عن الدكتورة بيان الحوت، وكتابها "صبرا وشاتيلا.. أيلول 1982"، وأحب مذكرات زوجها شفيق الحوت.

أرسلتُ إليه عدة أسئلة، فأجابني بعد أيام، وبدأ بالتعريف بنفسه: "أنس الأمير قاطرجي، سوري من حلب، عمري 37 عاماً، وأعمل في مجال السياحة والمطاعم."

عاش أنس معظم حياته في حلب، وعمل هناك في المقاولات، وتحديداً في ترميم منازل حلب القديمة ومحلاتها، كما أن عائلته كانت تملك فندقاً ومطعماً، لذا، فقد تشكّلت لديه خبرة طويلة في مجال السياحة، بدأت سنة 2006. لكن كما يقول: "مع اشتداد الأزمة السورية، خرجتُ من سورية لأبحث عن فرصة في الخارج، فوصلت إلى الأردن، ومن هناك إلى مصر، إلى القاهرة تحديداً، وبدأت العمل في المطاعم."

وخلال عمله في القاهرة، كلّمه شاب فلسطيني من قطاع غزة، وأخبره بأن لديه مطعماً في غزة، اسمه "إزمير"، لكن الشاب لم تكن لديه خبرة في تشغيل المطاعم، "لذا، فقد اتفق معي ومع صديقي، وريف حميدو، على الانتقال إلى غزة لتشغيل المطعم، فوافقت، وبالنسبة إليّ، كان الأمر مرتبطاً بأمر آخر، وهو رغبتي القديمة في زيارة فلسطين لِمَا تشكّله عندي من ضمير وقيمة وحياة، ولا سيما أن فلسطين بالنسبة إلى السوريين أمر آخر، يمثل القضية التي نؤمن بها. لم أصدق نفسي أني سأكون في فلسطين."

إلى غزة

انتقل أنس وصديقه وريف إلى غزة سنة 2013، "لكننا للأسف دخلنا بطريقة غير شرعية. وبمجرد وصولي إلى فلسطين، لم أعرف شعوري تماماً، فبكيت، وكانت اللحظات جميلة وشاعرية، فلأول مرة أكون على تراب فلسطين، وأمامي بحرها، والمدن التي لطالما سمعنا بها. صُدمت بجمال مدينة غزة، وخصوصاً أنها المدينة التي كثيراً ما سمعنا وعايشنا الحروب عليها." وفي الأيام الأولى لوصوله، قضاها سائحاً في القطاع، يتعرف على المدن والمخيمات، ويلتقي الناس هناك، "أهل غزة علّقوني بالمكان، فأحببتهم، وأحبوني، وكان استقبالهم هائلاً لمجرد معرفة أحدهم أنني وصديقي من سورية، فَهُم يحبون بلدنا، وفي ذاكرتهم، فإن عز الدين القسام الذي أتى إلى فلسطين هو من منطقة جبلة السوريّة، وكذلك السوريون الذين عادوا مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وقد قابلت بعضهم. في الحقيقة، لم أجد فوارق كبيرة بين المجتمع السوري والمجتمع الفلسطيني، فلم أشعر بغربة." ولمّا أخبر أهله بوصوله إلى غزة، لم يصدقوه فـ "أكدتُ لهم بصورة من أمام ميناء غزة البحري، وكانت هناك لافتة ترحب بالقادمين، فأسعد الأمر أمي، ورأت أنه أمر عظيم أن يطأ أحد أولادها هذه الأرض المقدسة."

العمل في غزة

بدأ عمله في المطعم في منطقة الرمال، في أيار/مايو 2013، فقدّم مع صديقه مأكولات من المطبخ الحلبي الذائع الصيت، فلفت المطعم نظر وسائل الإعلام المتعددة العاملة في غزة، كما يوضح أنس، ويضيف: "السوريون انتشروا حول العالم، لكن وجودهم في غزة جديد، بالإضافة إلى أنهم يعملون في مجال عادة ما يكون محلياً"، وهذا الاهتمام ساعد في تعريف الناس بالمطعم، فبات رواده يأتون من كل أنحاء القطاع لتناوُل الطعام، ورؤية الشاب السوري الذي يعمل باللباس الحلبي الشعبي.

وبقيت الأمور في تحسُن بالنسبة إلى أنس وصديقَيه، السوري والفلسطيني صاحب المطعم، إلى أن اندلعت حرب 2014: "كانت أول حرب أحضرها في القطاع، وكانت صعبة جداً، وحينها أدركتُ المقارنة، ففي سورية، حين اندلعت الأحداث، كانت الأمور أسهل، فأنا أعرف الناس كلها في حلب، ولي أقرباء، ويمكنني النزوح عندهم، أمّا هنا، فلم أعرف تماماً ما الذي عليّ فعْله، فلجأتُ إلى أماكن تجمُّع الصحافيين والأجانب في الفنادق، وكانت الحرب قاسية على جميع مَن في القطاع؛ على الفلسطينيين بالتأكيد، وعلينا نحن السوريين."

وبعد أن توقفت الحرب، لم يعد أنس وصديقه وريف إلى عملهما، فصديقهما الفلسطيني لم يعد يريد فتْح المطعم، وظلا على هذه الحال لنحو سنة، ومن أجل حَلِّ المشكلة، "افتتحت مطعماً جديداً مع صديقي السوري وشريك ثالث في منطقة غير حيوية، فلم تنجح التجربة كما يجب."

لكنه لم يسمح لليأس بأن يسيطر عليه، فافتتح مطعماً جديداً في النصيرات، سمّاه "جار القلعة 2"، كما يقول: "سميته على اسم مطعمنا في حلب، وصممته ليحاكي المطعم الأول، ونجح نجاحاً باهراً."

ومرة أُخرى، اجتذب المطعم والحالة السورية فيه وسائل الإعلام، وضِمنها تلفزيون فلسطين الرسمي، لكن هذه المرة، أتى إلى أنس اقتراح لم يكن يتوقعه؛ "اقترحت عليَّ إدارة تلفزيون فلسطين في غزة، بِشَخْصِ الأستاذ محمد الوحيدي، أن أعد وأقدّم برنامجاً على الشاشة الرسمية، فكان برنامج ʾأرض الديارʿ الذي استضفت فيه عدداً من السوريين في قطاع غزة، أو من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون بسورية في وقت من الأوقات، ولا سيما أولئك الذين كانوا ضمن فصائل الثورة الفلسطينية. وكان ضِمن الضيوف الممكنين للبرنامج رئيس السلطة، محمود عباس، باعتباره عاش ودرس في سورية، وعائلته ما زالت هناك، لكن الحلقة لم تتم، وبسبب الحروب المتعاقبة على القطاع، لم ننتج موسماً آخر."

جمعية للسوريين في غزة

اليوم، لم يعد هناك في قطاع غزة أكثر من تسع عائلات، بعد أن كانوا، سنة 2015، نحو 36 عائلة، وهي عائلات، كما يوضح أنس، "إمّا رب الأسرة سوري وزوجته سورية، وإمّا الزوج فلسطيني سوري والزوجة فلسطينية سورية، وإمّا الزوج سوري والزوجة فلسطينية وبالعكس."

وشكّل هؤلاء جمعية لتمثيلهم، وإيصال صوتهم، من أجل معالجة شؤون متعددة تخصهم، كالوضع القانوني، فهم يحملون بطاقة تعريف صادرة عن السلطات المحلية، للتعريف بهم داخل القطاع.

وتولى أنس مهمة المتحدث باسمهم، فتواصلت الجمعية مع المنظمات الدولية، كالأونروا ومفوضية اللاجئين: "ولقد تم تسجيلنا في المفوضية، وبعضنا تمت إعادة توطينهم في أوروبا وغيرها. أمّا أنا شخصياً، فلم يصل دوري." وفي مرة أُخرى، ناشدت الجمعية رئاسة السلطة الفلسطينية في رام الله، فاستجابت لهم، فـ "منحتنا مساعدة مالية، وتأميناً صحياً مدى الحياة، وكذلك جوازات سفر فلسطينية مصفرة، لكن للأسف، لم تتعامل الحكومة المصرية مع جواز السفر، لأن الشرط أن يكون لدى حَمَلَة الجواز الهوية الفلسطينية، وهذا ما لم نكن نحوزه. واليوم، لم تعد جوازات السفر لدينا صالحة، فقد انتهت مدتها."

حياة غزة

يصف أنس حياته في غزة بالسعيدة، ويعتبر أنها في مقام حلب لديه، لكنه يقول أيضاً: "غزة هي المكان الذي فيه حياة لا تشبه الحياة، فهي بلد فيها حرب كل يوم، وإن لم تكن الحرب بالقصف، فالحصار موجود، وهناك حرب الكهرباء والماء والمواد الغذائية وانقطاع الغاز والسولار وغلاء الأسعار. هذا المكان يتأثر بكل ما يحدث في العالم، لكن على مستوى البشر في غزة، فليس هناك أنقى أو أطيب أو أطهر من قلوب أهل القطاع، لكن القلوب قست من كثرة ما عايشوا وشاهدوا من مآسٍ وآلام، ومع ذلك، فإن هذا شعب الجبارين، وشعب المنكسرين في الوقت نفسه؛ فهو الشعب القوي الضعيف في الوقت نفسه. إنه شعب لا نظير له، فقد استضافنا كل هذا الوقت، ولم نشعر بأننا غرباء، وشخصياً لم أشعر ولو لمرة بالممل، ولم أندم على مجيئي إلى غزة، على الرغم من الذي يحدث. غزة وطني، وصحيح ليس لي إخوة هنا، وليس لدي أولاد، لكن أصحابي في غزة هُم إخوتي وأهلي وأولادي. لذلك، فأنا أشعر بالانتماء إلى غزة وفلسطين كما أشعر بالانتماء إلى حلب وسورية."

أشهر الحرب

في ذكرى اليوم الأول للحرب، عاش أنس مشاعر الناس في القطاع، فكان مستيقظاً في صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وشاهد وسمع كل ما حدث في ذلك اليوم، وظل في بيته في مدينة غزة حتى نهاية الأسبوع الأول: "لمّا طلب الاحتلال إخلاء غزة والشمال، خرجنا إلى رفح. وجلستُ وزوجتي الغزّيّة في بيت شقيقتها، وهي واحدة من سبعة غيرها، وفي رفح بيت خالها، فتوزعنا على بيتَين. وقد قُصف بيت خال زوجتي، وأصيبت شقيقتها وأولادها، فانتقل الجميع إلى بيت شقيقة زوجتي في حي السعودي، فكنا نحو 55 شخصاً في البيت، ولم نسمع تأففاً أو انزعاجاً من أصحاب البيت، وبالعكس، فقد كانوا كرماء، وهذه شيم أهل غزة. وبقينا في رفح إلى أن بدأ اجتياحها قبل نحو شهر ونصف الشهر، وتشتت العائلة هذه المرة، فبعضنا ذهب إلى الخيام، وبعضنا استأجر بيتاً، أمّا أنا، فآواني أحد الأصدقاء في النصيرات. صحيح لم أعش مأساة الخيمة حتى الآن، لكن أصدقاء كُثُراً وأحباباً عاشوها، وأعرف مأساتها، وأنا كذلك أعيش أوضاع النزوح بالكامل، وحالي كحال أهل غزة."

ويتذكر أنس ضمن ما يتذكره أصدقاء له استشهدوا في الأيام الأولى للحرب، ومنهم عدد من الصحافيين: "كل شهيد ارتقى، ترك في قلبي غصة كبيرة، فأنا أشعر بأنني أعرفهم جميعاً، وفعلياً، أعرف منهم الكثير، وخصوصاً الشهداء الصحافيين الأصدقاء سعيد الطويل ومحمد صبح وهشام النواجعة، الذين استشهدوا في 10/10/2023. وقد أثّر استشهادهم فيَّ كثيراً، فيوم قرأتُ الخبر، ذهبتُ إلى مستشفى الشفاء للبحث عنهم ضمن الجثامين، ولم أعرف سعيد بسبب هول الإصابة إلاّ من علامات معينة، فصلينا عليه، واستعدّينا لنقْله إلى رفح، وإذ بخبر استشهاد هشام يأتي، فذهبتُ إلى العناية المركزة، وكفنته وجهّزته مع الآخرين، ونقلناهم إلى رفح إلى مثواهم الأخير. هؤلاء أوائل أصدقائي الذين فقدتهم في هذه الحرب، وتوالت الأسماء؛ أبو السعدي، وهيثم، ومحمد النجار، وبعضهم عمل معي، وبعضهم الآخر عرفته في يوميات غزة."

سألته عن السوريين المتبقين في القطاع، وما إذا كان يعلم عن أحوالهم وأوضاعهم في هذه الحرب، فيقول: "نحن كأهالي قطاع غزة، نتعرض للقصف، فبعضنا أُصيب، ولم يستشهد منا أحد، وقد أصيب وريف في غزة، وأنا أُصبت في رفح، وعماد حسو نزح مع أولاده كالآخرين، وأنس أبو عجينة بقي في الشمال وأصيب هناك، والشيخ زهير، وعمره يتجاوز السبعين، وضعه صعب، ورضوان كفوري وضعه مأساوي مع أطفاله، وكان يسكن في خان يونس، وتدمَّر بيته، ومحمود مزيريب مثلهم."

ما فعلته الحرب

يرى أنس أن الحرب وإن انتهت، فإنها لن تنتهي، فهناك حرب أُخرى ستكون بعدها، ولن تكون بالسلاح، إنما بالمسكن والطعام والشراب، ويوضح: "تدمّرت غزة، والوضع مأساوي جداً، فحجم الدمار كبير بصورة لا يمكن وصفها، والاحتلال الإسرائيلي لم يترك مكاناً واقفاً، حتى الأماكن الواقفة لم تعد تصلح للسكن، وهناك آلاف الشهداء تحت الأنقاض."

ويصف الوضع اليومي في القطاع لدى معظم الناس: "نتحرك نهاراً لجمع الماء، وتأمين ما أمكن لاستمرار الحياة، وفي الليل، نذهب إلى الإيواء. الآن، هناك تجار يمصون دم الناس، وقطّاع طرق، ومؤسسات دولية لا تسأل عن أحد، ونشطاء على السوشال ميديا استفادوا من مأساة الناس." ويذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما يخص أسرته، فيقول: "زوجتي تعاني جرّاء مرض في الكلى، وتحتاج إلى علاج، وقبل يومين من الحرب، خرجت من المستشفى، وكانت تحتاج إلى استشفاء لأشهر، ولم نتمكن من ذلك بسبب الحرب. إنها تحتاج إلى أدوية مسكّنة، والدواء الوحيد المسموح لها بتناوله نشتريه الآن من السوق السوداء، الحبة بـ 30 شيكلاً، بينما كانت العلبة كاملة بـ 18 شيكلاً."

لكن أكثر ما يُحزنه ويحزن أهل غزة، بحسب قوله: "هو الشق الآخر من الوطن، فلا نرى منه تحرُكاً كبيراً يتناسب مع المأساة التي تحدث، وأكثر ما يغيظني، حين أشاهد إعلانات بعض المطاعم في الضفة عن العروض والوجبات، وكأنه ليس هناك شعب يباد." ويرى أنس أن المطلوب حالياً على الأقل بحسب تعبيره "أن يُسمع صوت غزة، ويجب أن تخرج الناس إلى الشوارع في الضفة في كل أنحاء فلسطين في الشتات في العالم العربي والإسلامي والعالم، وعلى الجميع أن يخرج لينتصر لغزة، وممنوع التذرع بالخوف من أمن وغير ذلك. اخرُجوا ولْيَضْرِبْكُمُ الأمن، هناك شعب يباد! ليس كافياً أن تكتب على السوشال ميديا، وهذا ليس أضعف الإيمان لمن يدّعي ذلك.. هذا لا ينفع، ولا يغير في الواقع، العمل والفعل هو الذي يغير."

هل سيغادر غزة؟

"إن بقيت على قيد الحياة بعد هذه الحرب، فسأعود إلى سورية، وسأعيش هناك مع زوجتي، لكن من الممكن أن أبقى هنا، لكن سأخرج لزيارة عائلتي، وسأعود."

"أطفال غزيين داخل مركز لإيواء النازحين في احدى مدارس قطاع غزة، 11 أبريل/ نيسان 2024، قطاع غزة/ فلسطين" تصوير " apaimages ،Omar Ashtawy"
Razan al-Haj
فلسطينيون يسيرون أمام أنقاض المباني السكنية التي دمرتها الغارات الإسرائيلية خلال حرب الإبادة، قطاع غزة/ فلسطين، 24 أبريل/نيسان 2024. (تصوير خالد داوود، apaimages)
Sama Hassan
Yasser Manna
نجوم منتخب كرة الطائرة إبراهيم قصيعة (يمين) وحسن زعيتر (مواقع التواصل) استشهدا بقصف إسزائيلي على مخيم جباليا.
Ayham al-Sahli
Maher Charif
Uday al-Barghouthi