يرتبط الاستعمار الاستيطاني بالإبادة والتطهير العرقي، وكان لدى العالم وَهْمٌ فحواه أن هذه الفظاعات البغيضة دُفنت مع اندثار الاستعمار وولادة الأمم المتحدة وصوغ القانون الدولي الحديث بالتزامه الجدي حقوقَ الإنسان، لكن الاحتلال الاستيطاني بقي في فلسطين، إذ احتلت إسرائيل الجزء الأكبر من أرض فلسطين، متسببةً بتهجير الفلسطينيين بالكامل، أو ما عُرف بـ "النكبة"، لكن لم تستطع القضاء على الفلسطينيين الذين تمسّكوا بهويتهم الوطنية، وبقوا مثابرين في نضالهم الطويل لإنهاء الاستعمار.
ويتحمّل الإمبرياليون والنيو-كولونياليون المسؤولية الأساسية عن ولادة هذه الدولة الاستعمارية والتمييز العنصري، إذ واصلوا دعمها وتقويتها، ولم يسائلوها أبداً بسبب تصاعُد قمْعها وانتهاكاتها للقانون الدولي. واليوم، هم يدعمون طموحات الصهيونيين بضم كل فلسطين التاريخية، فضلاً عن المجازر المرافقة. لقد فهم العالم جيداً تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وهم يفاخرون بإبادة شعب غزة، وسَمِعَ نتنياهو وهو يقول: "هذه حرب الاستقلال الثانية"، ومن المفارقات أن تحارب قوة احتلال لاستقلالها ضد الشعب الذي تحتله!
لا نستطيع أن نفهم كيف أن الملايين قُتلوا في أوروبا من أجل هزْم الفاشية ووقْف التهديد الذي تمثّله للبشرية، بينما اليوم يدعم الإمبرياليون دولة وحشية وفاشية، ويصادقون على فظاعاتها الرهيبة في عصرنا الحديث. إن أكثر من 33,000 مدني، بما في ذلك كثير من الأطفال، قد قُتلوا، ودُفن آلاف غيرهم تحت الركام، وهناك آلاف آخرون مصابون ومبتورو الأطراف. ولا نستطيع أن نفهم السبب؛ هل غزة تشكّل تهديداً لأمنهم وسيطرتهم وقوتهم؟ أَمَا من منطق أو أخلاق توجّه سياستهم؟ أم أن كل ذلك من أجل تعزيز الصناعات الحربية؟ لماذا يمنحون إسرائيل حصانة لتمحو غزة وتعيدها إلى العصر الحجري وتستهدف وتقتل آلاف المدنيين وتقصف عشوائياً بهدف تهجير وتجويع الشعب الأكثر معاناة في العالم؟
هذه الكارثة الفريدة على كل المستويات تشهد كيف أن نظامنا العالمي ينهار، فالولايات المتحدة تتحدى، بصورة فظة، ملايين الناس، وأكثر البلاد المطالبة بوقف إطلاق نار دائم. إن رفْضها يصفع العالم كله، عبر قبولها انتهاك إسرائيل الصارخ للقانون الدولي، والذي كانت أساسية في وضعه، بحيث تصبح هذه القوانين معطلة تقريباً.
وتمتد مساعدات النيو-كولونيالية العسكرية والسياسية والاقتصادية لإسرائيل إلى الإعلام والثقافة، كجزء من السيطرة والإخضاع. فشبكات الإعلام الأساسية أصبحت اليوم أكثر من السابق، وهي الوسيلة الأساسية للذين يتبنّون السردية الإسرائيلية، ناشرين عن طريقها أكاذيب بغيضة، ومشوهين السردية الفلسطينية. هذا الإعلام يقدّم الأخبار من دون سياقها وخلفيتها، وفي كثير من الأحيان، لا يغطي مطالب ملايين الناس المتظاهرين دعماً لغزة وفلسطين. إن السيطرة على الثقافة تبلغ ذروتها مع الانحدار المخزي لكثير من الجامعات المهمة التي تعطي المال والسلطة الأولوية، وكذلك تتم ممارسة الضغط على المؤسسات والمناسبات الثقافية لإقصاء الفلسطينيين ومناصريهم. أليست هذه آخر حلقات الحضارة الغربية المترنحة؟
نظرة سريعة إلى سرديتنا
لماذا نُتهم؟
تمت نكبة الفلسطينيين نتيجة مجازر وحشية عنصرية وإجراءات ظالمة لتثبيت دولتهم الاستعمارية الاستيطانية، وقد تم ارتكاب مجازر كثيرة وجرائم قتْل على نطاق واسع لاقتلاع أكثر من 800,000 فلسطيني، وتدمير أكثر من 450 قرية بصورة ممنهجة. لقد دمر الصهيونيون بوحشية كثيراً من المعالم القديمة التاريخية والأركيولوجية، محاولين تغيير تراث مدن عربية كثيرة ومحوها.. وتم ذلك بمساعدة تامة من الاستعمار البريطاني، بدءاً بوعد بلفور، ولاحقاً بتبنّيه من جانب الولايات المتحدة الأميركية لضمان اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل. وكانت إسرائيل تسعى لأن يكون الفلسطينيون غير مرئيين إلى الأبد عبْر التنبه لإجهاض أي نضال فلسطيني لاستعادة أرضهم.
الثورة الفلسطينية من أجل إنهاء الاستعمار
في حزيران/يونيو سنة 1967، أطلقت الحرب العربية الإسرائيلية شرارة الثورة الفلسطينية بعد 20 عاماً من التهجير والتهميش، وأطلق الفلسطينيون النداء للكفاح المسلح ضد عدوّهم الجبار، واحتُضنت الثورة بدفء من جانب ملايين الفلسطينيين والعرب، وعبّرت عن طموح الفلسطينيين في الانعتاق من أعدائهم الثلاثة؛ الإمبريالية، والصهيونية، والقوى الرجعية العربية. كما نالت أيضاً دعماً قوياً من حركات التحرر العالمية، وتم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة سنة 1974.
وقررت إسرائيل القضاء على الثورة الفلسطينية، فتعاونت مع القوى العربية الرجعية، لكن كل هذا فشل، على الرغم من الفظاعات الرهيبة التي ارتُكبت، وكان على إسرائيل إنهاء المهمة، فاجتاحت لبنان سنة 1982، بذريعة إخضاع وقَتْلِ الفلسطينيين "الإرهابيين"، الذين كانوا أساساً من "حركة فتح المقاومة" وفصائل أُخرى من منظمة التحرير الفلسطينية. واليوم، يتخذون الذريعة نفسها مع سردية مشابهة تصحبها جرائم فظيعة.
وكان عدوان إسرائيل على لبنان دموياً ومروعاً، ودُمرت قرى لبنانية بصورة كبيرة، وسُويت عدة مخيمات للاّجئين الفلسطينيين بالأرض، ووصل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت بعد بضعة أيام، وواجه فيها مقاومة بطولية، وكان من المستحيل له اجتياح المدينة، ففرض عليها حصاراً قوياً، مانعاً المياه والطعام والكهرباء لمدة 70 يوماً، وكان هناك قصف بربري من الجو والبحر والأرض، وتم قتْل آلاف المدنيين، وتدمير أجزاء كبيرة من بيروت، لكن المدينة لم تستسلم، وكانت بطولة المقاتلين اللبنانيين والفلسطينيين وصمود الشعبَين أمراً مميزاً.
وعقدت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقاً مع الولايات المتحدة لسحْب مقاتليها وكادراتها من لبنان شرط أن يضمنوا سلامة الفلسطينيين في مخيمات اللجوء، لكن الولايات المتحدة لم تحترم ضماناتها، فاستمر الرعب، وبلغ أوجهُ في المجزرة الشنيعة في مخيمات صبرا وشاتيلا.
وانقسمت منظمة التحرير الفلسطينية وضعفت بعد أن فقدت القاعدة العسكرية، ولم تتمكن لسنوات من القيام بأي عمل عسكري مؤثر.
الانتفاضة الفلسطينية
على الرغم من إقرار كل أعضاء مجلس الأمن القرار رقم 242، الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من كل الأراضي الفلسطينية التي احتُلت في حرب 1967، فإن هذا القرار لم يُطبَّق أبداً. وعلاوة على ذلك، فقد كانت لإسرائيل حصانة كاملة حتى تاريخه؛ فلم يتم فرض أي إجراءات فاعلة لإيقاف انتهاكاتها للقانون الدولي والإنساني، ولمنْع جرائمها ضد الفلسطينيين.
وفي سنة 1987، فاجأ الشعب الفلسطيني أعداءه والعالم الأوسع باندلاع الانتفاضة الكبيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسُميت "انتفاضة الحجارة"، إذ كانت مبنية على مشاركة الشباب والمقاومة السلمية. واعتقد الفلسطينيون ومحبو السلام حول العالم أن الانتفاضة، التي استمرت لنحو 5 سنوات، فرصة كبيرة لحل سلمي عادل للقضية الفلسطينية. وخلال الفترة نفسها، تأسست "حماس".
وفي سنة 1993، تم توقيع اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد ضمنتها الولايات المتحدة، وتنص على إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة بحلول سنة 2000. وقد عارض الشعب الفلسطيني ومعظم المنظمات هذه الاتفاقات، فهي لا تضمن الحقوق الوطنية الأساسية للفلسطينيين. وها قد أثبتت 30 سنة من أوسلو أنها مأساوية؛ إذ ثبّتت الاحتلال تحت راية السلام، وأعفته من واجباته، ومكّنته من التحكم بكل وجوه الاقتصاد والموارد الطبيعية، ومن تقييد حرّية الفلسطينيين. واستمرت الولايات المتحدة وكثير من البلاد الأوروبية في دعم إسرائيل، والتغاضي عن التصعيد الهائل في بناء المستوطنات والانتهاكات الهائلة لكل اتفاقيات جنيف الأربع!
نضال تحرري لا ينثني!
لطالما كانت غزة شوكة في خاصرة الصهيونيين، وقد قال رئيس الحكومة الإسرائيلي، يتسحاق رابين، سنة 1992: "أتمنى لو أصحو يوماً وأجد أن غزة قد ابتلعها البحر."
ومع صعود المقاومة ضد الاحتلال، فكّكت إسرائيل مستوطناتها، وانسحبت من غزة سنة 2005، لكن إجراءات سيطرة الاحتلال استمرت، وساء الوضع مع حصار خانق سنة 2007، بعد فوز "حماس" في غزة في انتخابات تمت الدعوة إليها تحت اتفاقات أوسلو في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكانت الولايات المتحدة والنيو-كولونياليون والسلطة الوطنية الفلسطينية غير راضين، فـ "حماس" كانت ضد أوسلو، وتؤمن بالمقاومة المسلحة، كأغلبية المنظمات الفلسطينية الأُخرى، وقد أرادت إسرائيل سيطرة تامة من دون تحدٍّ في تحضيرها لضم كل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي سنة 2008، بدأت إسرائيل اعتداءاتها الدموية ضد غزة، وتبع ذلك 5 اعتداءات وحشية، قُتل فيها آلاف المدنيين، ودُمرت بيوت ومؤسسات كثيرة في القطاع..
وتمكنت "حماس" وفصائل فلسطينية أُخرى، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، من اقتحام حاجز الأمن بين إسرائيل وغزة، وهو "خليط متطور تكنولوجياً من سياج بطول 20 قدماً، وأنظمة رادار وأجهزة تحسُس تحت الأرض." وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فقد كانت تلك بطولة ومقاومة، إذ اقتحم المقاومون جزءاً من الأرض المحتلة التي كان قد اقتُلع منها معظم اللاجئين في غزة، وكان الهدف من تجاوُز الحاجز اعتقال بعض الضباط لمبادلتهم بآلاف المعتقَلين الفلسطينيين الذين كانوا معتقَلين لسنوات طويلة في أوضاع مروعة في السجون الإسرائيلية. كانت العملية واضحة المعالم نوعاً ما، لكنها تحولت إلى فوضى شارك فيها بعض المدنيين العاديين، بمن فيهم شباب، اندفعوا إلى الأمام غير مصدقين أنهم يرون أرضهم المسلوبة للمرة الأولى! وكان ذلك فشلاً أمنياً لإسرائيل.
إن تفاصيل ما جرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر ليست معروفة بالكامل بعد، فقد بدأ الإسرائيليون ينشرون أكاذيب كريهة وتلفيقات عُرف فوراً أنها محاولات صهيونية لتبرير مجازرهم. ولحُسن الحظ، فقد تم تحدّي هذه الأكاذيب عبر الحقائق التي تم جمْعها يومها من جانب بعض الصحافيين الاستقصائيين الصادقين. ومعظم الفلسطينيين انتقدوا وتفاجأوا باعتقال المدنيين، لكن ليس لاعتقال العسكريين؛ إذ إنه إذا حدث أي انتهاك، فإنه يجب التعامل معه بحسب القانون الدولي، لكن هذا لم يُطبَّق على إسرائيل التي توغلت بالمجازر، ولم يتم تحميلها مسؤولية جدية أو معاقبتها على النكبة أو أي من جرائمها الفظيعة.
ولم تقع أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر من فراغ، ويجب أن يُنظر إليها في ضوء واقع الاحتلال والاقتلاع لشعب يعيش في أكبر سجن في العالم. كان هدف إسرائيل الواضح هو شيطنة الفلسطينيين عبر شيطنة "حماس" والمقاتلين الآخرين وتصنيفهم كـ "إرهابيين" ومنظمات عديمة الرحمة، لتبرير المجزرة في غزة والتطهير العرقي وإعادة القطاع إلى العصر الحجري.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا يعرفون الواقع الحقيقي، فإنهم دعموا فوراً ادعاء إسرائيل الدفاع عن النفس والإيحاء بأنها حرب بين قوتَين متساويتَين، وأعطوا المجرم والفاشي نتنياهو الدعم الكامل و"رخصة للقتل".
من المعروف أن إسرائيل هي رابع أقوى قوة عسكرية في العالم، مدعومة من جانب الولايات المتحدة، وكثير من البلاد الأوروبية، بالأسلحة الأكثر تطوراً، التي تُجرَّب من دون خجل على الفلسطينيين. وفي المقابل، فإن "حماس" وفصائل المقاومة الأُخرى ليست لديها طائرات ولا صواريخ متطورة، فصواريخهم بدائية نوعاً ما، وتأثيرها محدود. وعلاوة على ذلك، فإن شعب غزة ليس مسلحاً كميليشيا، إنما فقط منظمات المقاومة تستخدم أسلحة بسيطة، وقوّتها تكمن في إيمانها القوي بقضية التحرر الوطني، وهُم يحاربون ببطولة الجيش الإسرائيلي الجبار، ويكبّدونه الخسائر بأجسادهم وأسلحتهم الفردية.
وتشكّل "حماس" والفصائل الأُخرى حركة مقاومة كَبُرَت بسبب الاحتلال والقمع، وستستمر المقاومة تحت أسماء متعددة ما دام الاحتلال مستمراً. فكيف لإسرائيل أن تهزمها؟ أَمَا من دروس من التاريخ؟ والبعض يصورون "حماس" كقوة متساوية، ويسمونها "حرب إسرائيل و’حماس‘". كيف تفسرون أنهم غير قادرين على كسر الحصار، وتوفير المساعدة الإنسانية الملحّة من دواء ومياه وطعام لشعبهم؟ هنا يكمن التواطؤ والنفاق، ولو كانت أوكرانيا مكان غزة، واقعة كضحية، لناديتم كل الخبراء العسكريين والاستراتيجيين لتحليل الوضع لإنهاء الإبادة الإسرائيلية وكذبة أنهم يحاربون "حماس" ولا يقومون بمحو غزة وشعبها. إن الخبراء الصادقين كانوا لِيُحللوا الوضع ويطالبوا بوقف إطلاق النار ونهاية الإبادة، وكانوا لِيقولوا أيضاً إنه ليس هناك أي تهديد جدّي حالياً لإسرائيل إذا كان حاجز الأمن محروساً ومحمياً جيداً.
اليوم، نُزع القناع عن الصهيونية، والناس حول العالم يرون حقيقتها الاستعمارية والعنصرية، ولتحقيق العدالة والسلام للفلسطينيين، يجب تفكيك الصهيونية، كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. المستقبل هو لفلسطين حرة ديمقراطية، يكون فيها المسلمون والمسيحيون واليهود مواطنين متساوين، "من النهر إلى البحر".
المتظاهرون حول العالم، بمن فيهم آلاف اليهود المعارضين للصهيونية، يقولون إن فلسطين "تُحَرِّرُنَا"، ويرون أن مسائل العدالة مرتبطة، والعدالة لفلسطين هي في الصدارة!
* المقال نُشر في الأصل باللغة الإنكليزية في:
The Spokesman, the journal of the Bertrand Russell Peace Foundation.No.157.