خلال أسابيع ستنتهي العملية العسكرية في رفح، وهو ما يتم تداوُله نقلاً عن المستوى الأمني لدولة الاحتلال، وتتم الإشارة إليه باعتباره فرصة لتقليل الزخم العسكري والبشري في قطاع غزة،[1] وتركيزه في مناطق أُخرى.
لكن هذا التوجه يشير إلى أن الحرب على قطاع غزة ستتخذ أشكالاً مغايرة يمكن اعتبارها بداية لمرحلة تختفي فيها، "إسرائيلياً"، الحدود الفاصلة بين اللاحرب واللاهدنة، ويُصار إلى تنفيذ خطوات معيّنة على الأرض بنعومة جارحة لا تلفت أنظار العالم، ولا ترفع صراخ الفلسطيني إلى أكثر مما وصل إليه.
وتُعبّر قيادة الجيش عن هذه الخطوات بكونها وجوداً دائماً في القطاع، وحرب عصابات لا تتوقف، وإعادة تشكيل القطاع بما يخدم أمنها، ومن هنا، تبحث هذه الورقة عن تصور لتداعيات تخفيف حدة العمليات العسكرية وارتباط ذلك بمستقبل القطاع وفقاً لتجليات العسكر والسياسة والأرض فيما بينهما، بدءاً من الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع، ومن ثم الغياب السياسي الفلسطيني في القطاع، وأهميته في ملف إعادة الإعمار.
مسمار إسرائيلي دائم في جسد القطاع
بعد احتلال الجيش الإسرائيلي معبر رفح ومحور فيلادلفيا في 7 أيار/مايو المنصرم، واستمرار تواجُده على الرغم من الرفض المصري إعادة فتح المعبر في ظل غياب وجود فلسطيني،[2] فإن التمترس الإسرائيلي يزداد وضوحاً عند ربطه بوجود آخر في محور نتساريم المؤسَس على قاعدة عسكرية مؤمّنة بعتاد استخباراتي ودفاعي متكامل،[3] بالإضافة إلى تواجد آخر نشأ في ضوء المنطقة العازلة الجديدة، التي اقتطعت حتى الآن من مساحة القطاع ما نسبته 20%، بابتلاعها مساحات بعرض 595 متراً من السياج الحدودي، وبطول 58 كيلومتراً حول السياج.[4] وهذا التواجد المدروس يؤمّن لجيش الاحتلال عدداً من المنافع التي يغدو التنازل عنها على طاولة المفاوضات مجازفة مستقبلية، وورقة ضغط على المقاومة لا يُستهان بها،[5] بدءاً من البُعد اللوجستي للوجود العسكري الدائم في القطاع، والذي يضمن اختراقاً سريعاً لأي نقطة بمدى زمني لا يتجاوز 8 دقائق،[6] وهو ما يوفر عمليات استئصال سريعة ومباغتة لأي محاولة لترميم البنية العسكرية الفلسطينية، كما يضيف عبئاً إلى العمق النفسي والمادي للحرب بالنسبة إلى الفلسطينيين، باعتبارها لم تنتهِ، وذلك بالتحكم الإسرائيلي بمفاصل غزة الداخلية والخارجية.
وبينما تتُخذ الأنفاق ذريعة لاجتياح معبر رفح ومحور فيلادلفيا، فالمستوى السياسي لديه مبررات أُخرى لاستمرار السيطرة هناك، منها غياب الطرف "الموثوق والمناسب" لاستلامه، في إثر رفْض السلطة الفلسطينية تسلُم إدارة المعبر بصورة غير رسمية، ورفْض الجانب المصري فتح المعبر في وجه المساعدات في ظل غياب فلسطيني رسمي.[7]
وحتى حين خرج الإسرائيليون بمخططات، كتسلُّم "لجنة مدنية محلية" فلسطينية المعبر، أو "شركة أميركية"، فإن كلَيهما يعني استمراراً للوجود الأمني بصورته المباشرة أو الخفية، بينما لا تظهر حتى الآن أي بوادر سياسية إسرائيلية للانسحاب من محور فيلادلفيا، بل أيضاً تحاول المناورة على وجودها بِحَثِّ السلطة الفلسطينية على تولي إدارة القطاع بصورة غير رسمية، تتيح للجانب المصري ما يتوخاه من وجود فلسطيني، وللجانب الإسرائيلي ما يريده من هيمنة شبه مباشرة لا تختلف كثيراً عن هيمنته على مفاصل الضفة الغربية.
وبهذه المعطيات، يغدو الوجود الإسرائيلي في نتساريم وفيلادلفيا والمنطقة العازلة مرضياً ومحققاً للتوازن بين المعارضة واليمين المتطرف الذي يرى في أي وجودٍ حالي بذرةً لوجود أكبر في المستقبل، بينما تفضل المعارضة وجوداً أمنياً قادراً على الاختراق والحسم والتحكم في عملية مباغتة قليلة التكلفة والتبعات. وفي المحصلة، فإن توقُف الحرب في هذه المرحلة، حيث هي الآن، يؤسس لاعتبار الموقَّت من الوجود الإسرائيلي دائماً، متحللاً من أزمة إدارة القطاع وتحمُّل مسؤولية سكانه، ويتيح إعادة تدوير سلسلة للقوات العسكرية على الأرض من دون كثير من الضجيج، ويقدّم إجابة عن التساؤل الإسرائيلي المُلحّ "لماذا نحن في غزة؟"، بالقول إنه يكفي إضعاف المقاومة حالياً، وليس بالضرورة اجتثاثها للتأكد من عدم تكرار 7 تشرين الأول/أكتوبر.
فلسطينيون على قارعة التمثيل!
يظهر من تباطؤ وتيرة الحرب، من دون ارتباط ذلك بطاولة المفاوضات، توجُهاً إلى سحب أي إنجاز سياسي من يد الفلسطينيين، ويحيل قرار السلم والحرب إلى يد الجيش الإسرائيلي،[8] إذ يعزز إبقاء الوضع الحالي الذي يغيب فيه أي وجود سياسي للفلسطينيين بمعناه الرسمي التوافقي، وبقاء مكونات أولية شرطية لـ "حماس" لا يعترف المجتمع الدولي بأي دور لها في إدارة ملف المساعدات أو الإعمار، بينما يُتاح لإسرائيل ضرْبُها وجزّ نموها مراراً وتكراراً.
وفي ظل غياب لأي مظاهر أو مؤسسات حوكمة "بالمعنى الرسمي"، وفي ظل تقزيم الأونروا ومهاجمتها المتواصلة، فإن ذلك سيحيل الفلسطينيين في سعيهم لتنظيم شؤون حياتهم الرسمية، كالصحة والتعليم، إلى منظمات المساعدات الدولية والمعونات الإنسانية، أو إلى تواصل بعيد المدى مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية من دون وجود رسمي مباشر لها في القطاع، بما يشبه تواصلهم معها قبل الحرب، لكن بإهمال أعمق مبرَّر بضخامة حاجات القطاع في مقابل ضآلة إمكانات السلطة.
إن استمرار الوضع حالياً في هذا الأفق وهذه التركيبة يعني عدم توحيد الضفة وغزة تحت أي مظلة سياسية، وتعزُّز غياب أفق سياسي فلسطيني في إمكانه تمثيل الفلسطينيين وتنظيم أوجه حياتهم، ويحيل نهاية الحرب إلى اتجاه مفتوح يقف فيه فلسطينيو غزة بلا مظلة، ويجعل إمكان دخول قوات عربية تحت مظلة الدعم والمعونة أكثر تقبُّلاً، بل أيضاً إن الغياب السياسي للفلسطينيين يشجع المجتمع الدولي على تجاهل مطالبهم، ويحرمهم حقوقهم، بدءاً بمقاضاة مجرمي الحرب، وتحقيق إعادة إعمار سريع وفعّال يطوي جزءاً من أوجاع الحرب.
ففي 12 حزيران/يونيو الحالي، أقر مجلس النواب الأميركي تعديلاً على ميزانية وزارة الدفاع يمنعها من تخصيص أي تمويل للمساهمة في جهود إعمار قطاع غزة،[9] على الرغم من أن الولايات المتحدة تورّد 69% من الأسلحة المستوردة في إسرائيل،[10] وبالتالي، تتحمل مسؤولية كبيرة في تدمير القطاع ومسْح بنيته، لكنّ توجُّهها الحالي يمكن أن يدفع دولاً غربيةً أُخرى مشاركِة في تسليح الاحتلال[11] إلى الانسحاب من خطة إعادة الإعمار في ضوء التركيز على إعمار أوكرانيا، وتحت ذرائع عدم دعم "الإرهاب" الذي يمثله استمرار الميزان السياسي الفلسطيني في القطاع بوضعه الحالي.
ويتوافق التخلي الأميركي مع ثلاثة مساعٍ إسرائيلية يتم تطبيقها في خضم الحرب الحالية: الأول، هو "تمويت" إعادة الإعمار بما يضمن استمرار القطاع مكاناً غير صالحٍ للحياة لأطول مدة ممكنة، وبالتالي، رفْع مستوى التهجير، وثانياً، إبقاء ملف إعادة الإعمار نشيطاً كورقة ضاغطة على طاولة المفاوضات، وثالثاً، حاجة ملف إعادة الإعمار إلى طرف رسمي فلسطيني غير "حماس" يحظى بالقبول الدولي والإسرائيلي لتمرير جهود إعادة الإعمار، والتي تقوم المقاومة الفلسطينية بربطها حالياً بانسحاب إسرائيلي بالكامل من القطاع.
وفي ضوء هذه المعطيات، فإنه يبدو الوقوف الإسرائيلي على أعراف "اللاسلم واللاهدنة"، أو ما يطلق عليه الساسة الإسرائيليون "إيقاف الحرب لا يعني إيقاف القتال"،[12] حلاً مرناً ومناسباً، تزداد قيمة تجلياته نظراً إلى عدم تحقيق الأهداف الإسرائيلية المعلنة في غزة حتى الآن، وازدياد الضغط الداخلي على عنق الحكومة الحالية، والتوجه العام نحو جبهة جديدة في الشمال كفيلة بإحالة جبهة غزة إلى "المجمد" ريثما تكون الأوضاع مؤاتية أكثر لرياح السياسة والعسكر الإسرائيلية، من دون تحمُّل تكلفة سياسية، كاتفاق تفاوضي أو زعزعة ائتلاف حكومي، أو تكلفة عسكرية عبر انسحاب عسكري يستتبعه اجتياح بري واسع يشعل جبهات استنكار ومعاداة دولية جديدة ومتجددة ضد الكيان.
الرهان والحل
تُراهن إسرائيل على الوقت الذي في إمكانه أن يُنسي العالم ما يجري في قطاع غزة إذا انخفض عدد الضحايا، كما تراهن على انخفاض قيمة ورقة الأسرى الإسرائيليين بانخفاض أعداد الأحياء منهم، وبإشعال جبهة جديدة تلي عُنق العالم وشعبها نحو حرب أُخرى، كما تُراهن على خبرتها في جعل حياة الفلسطينيين أكثر مرارة، عبر إعادة رسم مستقبل القطاع والضفة لاحقاً، سياسياً وعسكرياً، بتروٍّ وتأنٍّ، وعلى نارٍ هادئة تُصار إليها تجربة الخيارات والإمكانات والخروج بأقل الأضرار.
وينتهي الحل هنا عند الفلسطينيين أنفسهم لإحياء ذواتهم سياسياً وميدانياً وتوافقياً بما لا يترك المجال إسرائيلياً أو عربياً أو دولياً لتجاهلهم أو صم الآذان عن أوجاعهم أو تطبيق خطط وخرائط تقفز عن وجودهم، وإن كان الميدان قد أثبت صلابتهم حتى الآن، فإن السياسية في حاجة إلى يد تجمعهم وجبهة توحدهم، فالميدان يحسم المعارك لا الحروب، وأمام الفلسطينيين اليوم مهمة عظيمة وواحدة، وهي إعادة تشكيل كينونتهم وفقاً لما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر وصداه، قبل أن تبتلعهم تجليات ما قبل اليوم التالي للحرب وما بعده.
[1] Steve Hendrix and Hajar Harb, “Israel says Rafah attack near completion, in potential shift for war”, The Washington post, 18/6/2024.
[2] “Egypt insists on complete Israeli withdrawal from Rafah crossing to reopen it: Source”, Ahram Online, 30/5/2024.
[3] يقع محور نتساريم على الطريق 749 الذي أسسه جيش الاحتلال بعد اجتياحه البرّي لقطاع غزة، ويمتد الطريق في عُمق القطاع شرقاً وغرباً، كما يفصل الشمال عن الجنوب، وتنطلق الآليات العسكرية في دخولها إليه من كيبوتس بئيري المتاخم للقطاع، وعلى امتداد يصل إلى 6.8 كيلومترات في اتجاه البحر الأبيض المتوسط، وقد عُبّد بما يوفر للآليات سرعة تصل إلى 70 كيلومتراً/ساعة، كما أنه مخصص للمركبات العادية، وتحتاج الآلية إلى 7 - 8 دقائق كي تقطعه بأكمله. للمزيد انظر:
Loveday Morris, Evan Hill, Samuel Granados & Hazem Balousha,“What Israel’s strategic corridor in Gaza reveals about its postwar plans”, The Washington post, 17/5/2024.
[4] سجود عوايص، "جغرافيا المكان: وجه غزة الجديد بسلاح الهندسة الإسرائيلي"، مدونة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 29/3/2024.
[5] تتوافق صفقة بايدن مع هذه الاستراتيجيا بطرحه انسحاب إسرائيلي من المناطق المأهولة في المرحلة الأولى من الاتفاق، وهو ما يمثل شرعنة للوجود العسكري في المناطق الأُخرى.
[6]“What Israel’s strategic corridor…”, The Washington post, op.cit.
[7] Barak Ravid, “Scoop: Israel says it won't let Palestinian Authority have Rafah crossing role”, Axios, 7/6/2024.
[8] يؤكد هذا القول ما ذهب إليه الجيش الإسرائيلي في صبيحة 16 حزيران/يونيو الحالي، حين أعلن المتحدث باسمه، أفيخاي أدرعي، عبر حسابه على منصة إكس، أنه "اعتباراً من صبيحة يوم السبت، ويومياً بين الساعة الثامنة صباحاً والسابعة مساء، سيتم تعليق الأنشطة العسكرية بصورة تكتيكية، لأغراض إنسانية في الطريق الواصل من كرم أبو سالم إلى شارع صلاح الدين وشماله"، وبينما فجر الإعلان خلافاً بين المستوى السياسي والعسكري، فإن الهدنة ما زالت جارية لتأمين دخول المساعدات الإنسانية. للمزيد انظر:
"خلاف في إسرائيل على ’هدنة تكتيكية‘ بغزة ونتنياهو يهاجم قيادة الجيش"، "الجزيرة"، 16/6/2024.
[9] Prem Thakker, “House Votes To Block U.S. Funding to Rebuild Gaza”, The Intercept, 12/6/2024.
[10] “Who are Israel’s main weapons suppliers and who has halted exports?”, Reuters, 10/5/2024.
[11] تعتبر الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات أُخرى أن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، عليها تحمُّل جزء من تكلفة إعادة الإعمار، لكن الأخيرة ترفض ذلك، بل أيضاً تحيله إلى دول أوروبية وخليجية، لكنها سنة 2010، قامت بدفع تعويضات إلى الأونروا بقيمة 10.5 مليون دولار لاستهدافها مبانيها، أمّا في هذه الحرب، فقد تحللت إسرائيل من ذلك بالكامل حين نزعت شرعية الأونروا.
[12] بلال ضاهر، "مسؤول إسرائيلي: الحرب لن تتوقف بعد انتهاء اجتياح رفح"، "عرب 48"، 18/6/2024.