في صيف سنة 1988، ترك الفتى ياسر المؤذن منزل والده نصرات في مخيم اليرموك جنوبي دمشق، وانتقل عبر طُرق "التهريب" إلى لبنان، وحط به الترحال في معسكر تدريب تابع لجبهة التحرير الفلسطينية، استدل عليه مع رفاقه من المخيم. ومرت عدة أشهر على تواجد الفدائي الصغير في المعسكر، حيث يتدرب على السلاح، ويمضي وقته منتشراً على التلال وبين الصخور في منطقة البقاع. وكانت الخشية من تنفيذ الطيران الحربي الإسرائيلي غاراته على المعسكر تلازم ابن الـ 17 عاماً طوال فصلَي الخريف والشتاء، إلى أن جاءه القرار؛ "عليك الانتقال فوراً إلى منطقة الجنوب اللبناني، إلى صيدا بصورة خاصة، فقد وقع عليك الاختيار لتنفيذ عملية مشتركة مع الرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مستعمرة المنارة في فلسطين المحتلة."
فتسلّم ثياباً مدنية جديدة، وانتقل برفقة أحد الأشخاص إلى صيدا، حيث كانت تنتظرهما سيارة يوجد داخلها 4 أشخاص، فحشر نفسه بينهم، وانطلقت بهم إلى أطراف إحدى القرى الجنوبية المطلة على وادي السلوقي، وهناك ترجَّل عناصر المجموعة من السيارة؛ اثنان من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وآخران من جبهة التحرير الفلسطينية.
وكانت الشمس قد شارفت على المغيب عندما وصلت سيارة أُخرى، فأفرغت حمولتها من بنادق الكلاشينكوف، بالإضافة إلى بضع قنابل يدوية. حينها تملّك ياسر شعور بالنضج، فأحس بأنه كبر في العمر ما إن أمسكت يده قبضة سلاحه، على الرغم من تلك القشعريرة التي تسللت إليه بسبب البرد الذي لم يكن قد غادر بَعْدُ ليل الجنوب في 28 أيار/مايو 1989. وكان أحد الأشخاص لبنانياً، فعرّف بنفسه بأنه "الدليل"، وتوجه بلغة حاسمة نحو الفدائيين قائلاً لهم: "عليكم أن تسيروا كما أسير، فإذا توقفت، توقفوا، وإذا انبطحت أرضاً، انبطحوا أرضاً. مهمتي هي إيصالكم إلى السياج الحدودي عند مستعمرة المطلة، والباقي عليكم." ومن ثم انطلقوا.
وكان السير في وداي السلوقي محفوفاً بالمخاطر، إذ غالباً ما كان الاحتلال ينفذ فيه كمائن متخفية. ولم يفكر ياسر في الأمر كثيراً، فقد كان كل همه أنه ذاهب إلى فلسطين التي وصل إليها بعد أكثر من 7 ساعات من السير الحذر.
وما إن وصلت المجموعة إلى مدخل وادٍ صغير يفصل قريتَي ميس الجبل وحولا عن بعضهما البعض، حتى قرر "الدليل" فجأة العودة، طالباً من المجموعة التوجه صوب اتجاه حدده لهم، قائلاً: "هناك الحدود، وهناك مستعمرة المطلة." لم يكن أمام الرفاق خيار، فقرروا متابعة المهمة، وصعدوا في الاتجاه الذي أشار إليه الدليل، واجتازوا الطريق العام الذي يربط القريتَين المحتلتَين، وما إن تقدموا عدة أمتار صوب الحدود مع مستعمرة المطلة، حتى فتحت قوات الاحتلال النار على المجموعة التي ردّت بالمثل، فسقط شهيد من الجبهة الشعبية، وآخر من جبهة التحرير الفلسطينية، بينما أُسر ياسر ورفيقه الآخر وهما مصابان بجروح جرّاء الاشتباك.
تحقيق وتعذيب
نُقل ياسر إلى مركز التحقيق التابع للاستخبارت العسكرية في منطقة الصرفند قرب تل أبيب، وكانت غاية المحقق في انتزاع المعلومات والاعترافات، من أجل تقديمها لاحقاً إلى المحكمة، مبررة لديه، بغض النظر عن وضع الأسير. وهذا ما طبّقه الجلاد بحرفيته على ياسر، الذي تعرض طوال 3 أشهر لأبشع أنواع التعذيب؛ فكان يُضرب في أماكن متعددة من جسده، بما فيها تلك المصابة. ومن المعروف أن فترة التحقيق لها سقف زمني، لا يقل عن 3 أشهر، ولا يزيد على 6 أشهر، وقد أمضى ياسر أكثر من نصف المدة بقليل في زنزانة لا يتجاوز طولها مترَين وعرضها متراً واحداً، قبل أن يُنقل إلى مركز التوقيف في سجن الجلمة التابع لشرطة مصلحة السجون الإسرائيلية. وقد أعفاه بلوغه 18 عاماً من عمره في أثناء التحقيق من التدرج كشبل يخوض التجربة مع أقرانه المعتقَلين من أطفال الحجارة، ونتيجة ذلك، تم نقله من سجن الجلمة إلى سجن الرملة المخصص لمن هم فوق 18 عاماً.
كبر الشبل ثانية
كان يرغب ياسر في كسر مراحل الاعتقال، لعله يلتقي سمير القنطار، وخصوصاً بعد أن حضرت لزيارته "أم الأسرى بالتبنّي"، الوالدة أم جبر وشاح، موفدة من سمير، فما إن لفظت أم جبر اسم سمير حتى ابتسم ياسر ابتسامته الطفولية المميزة، وعاد بذاكرته إلى معسكر التدريب، يتذكر كيف كانت صور الأسير سمير القنطار موزعة في كل مكان. صحيح أن سمير أُسر في عملية للتنظيم نفسه، لكن انتقال ياسر إلى سجن عسقلان المركزي بعد صدور الحكم من المحكمة العسكرية في اللد بسجنه 25 عاماً حال دون تحقيق أمنيته لقاء سمير، فالأخير كان معتقَلاً في سجن نفحة.
كرة السلة وطاولة النرد
في نظام الأَسر عُرْفٌ يقوم على المحظورات والممنوعات، وفيه قائمة طويلة تبدأ بمنع ارتداء البنطال القصير وتغيير الملابس إلاّ في الحمام، ومنْع التلفظ بعبارات سوقية، إلى درجة تُنْسِي المعتقل الكلمات النابية، والأمثال الشعبية المتصلة، وكان الشهيد وليد دقة كلما أراد إغاظة ياسر المؤذن يكرر على مسامعه مَثَلاً شعبياً يطال "مؤذن الجامع" بالسوء.
في سجن عسقلان، أعفى ياسر نفسه من حرق الوقت باللعب يوم الجمعة بـ "النرد"، فالأسرى في تنظيم حياتهم اليومية، حددوا هذا اليوم (أي الجمعة) يوم عطلة، وكانوا يسمحون لأنفسهم بلعب الطاولة، ويتناولون المكسرات من "كنتينة" السجن، ويرمون القشور على الأرض، ويمتنعون من القراءة الذاتية، ولا يشغلون أنفسهم بالتحضير لجلسة التثقيف المسائية والمحددة عادة لما بعد الانتهاء من التعداد اليومي الثالث للأسرى.
وكان يفضل ممارسة رياضة كرة السلة، فينزل إلى الساحة بكامل حماسته، فيختار فريقه، وكي لا يضيع على نفسه وقت اللعب، يتدخل في اختيار فريق الخصم. وفي يوم الجمعة أيضاً، يكون الوقت المخصص لـ "ساحة الشمس" 3 ساعات، تكون كافية ليقوم اللاعبون بإفراغ كبت الجلوس لفترات طويلة في الغرف عبر اللعب لساعة متواصلة، لا تزعج رواد السير حول نخلة تتوسط باحة سجن عسقلان.
وكان ينتهي ياسر من اللعب، ثم يصعد على الفور إلى الزنزانة، ويستغل "عدم وجود من يزاحمه على الدوش"، ثم يجلس على البرش (السرير الحديدي)، ويمسك بكراسات عبرية، ويشرع في القراءة والكتابة، فيتحول إلى طالب للغة العبرية التي أتقنها بامتياز.
وكانت قرقعة الطناجر الكبيرة عند مدخل القسم تقطع تركيز ياسر خلال إنهائه فروضه، فينزل عن "برشه"، ويقوم باستلام الأكل من عامل المردوان (أسير يقوم بخدمة الأسرى بين غرف القسم)، فيوزعه، ويقوم بترتيبه ريثما يصعد بقية زملائه إلى الغرفة.
"المقلوبة الفلسطينية" هي امتياز "يوم العطلة" أيضاً، إذ يقتصد عمال المطبخ من الأسرى طوال الأسبوع في استخدام "الأرز والخضار" في وجبات الطعام، ليقوموا باستخدام الكمية المدخرة في وجبة "مقلوبة يوم الجمعة".
وتتداخل الأصوات، فتضج الغرف بالنزلاء، يخترقها صوت فيلم عربي "يتيم" يُعرض كل أسبوع على تلفزيون القناة الأولى، ثم ينتهي وتنتهي معه وجبة "المقلوبة" ونهار عطلة الأسرى. حينها، يسحب ياسر كرسي البلاستيك ما إن ينتهي السجان من تعداد الأسرى، ويضعها أمام التلفاز مباشرة، إذ يحين في ذلك الوقت موعد نشرة الأخبار باللغة العبرية، فيصب كل اهتمامه على الأخبار التي تكون له درساً في الإصغاء.
غزة جسر العبور إلى اليرموك
سجّل ياسر اسمه بين الذين خاضوا أكثر من إضراب مفتوح عن الطعام، بعضها امتد إلى 15 يوماً، قبل أن تبدأ رحلته مع المرض في المسالك البولية، ولم تكن "الحبة الصغيرة" التي كان يهرع السجان لتسليمها إلى ياسر، عندما كان يصاب بنوبة الوجع، سوى تسكيناً قوياً للآلام، لكنها لم تكن علاجاً للمرض في جسده، وهذا ما عقّد الأمر مع مرور الوقت، فقضى الأشهر الأخيرة من سجنه متنقلاً بين سجن عسقلان ومستشفى سجن الرملة.
أُفرج عنه سنة 1999 بسبب وضعه الصحي بعد اعتقال دام 10 سنوات، واشترط الاحتلال انتقاله إلى غزة، حيث أمضى عدة أشهر في مستشفى المدينة توَّجَها تدخل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وإذعان العدو لمطلب نقل ياسر إلى سورية عن طريق القاهرة لمتابعة العلاج. وقد استُقبل الأسير المحرَر في دمشق استقبال الأبطال، ويومها، لم يذهب ياسر إلى اليرموك، إذ نُقل مباشرة من المطار إلى المستشفى حيث أُجريت له عملية زرع كلية بعد تضرُر كامل كليتيه.
في اليرموك، وعندما تماثل للشفاء، تفرّغ ياسر لمعركة من نوع آخر؛ فكان اكتسابه للغة العبرية قد مكّنه من افتتاح مركز لتعليم اللغة ومتابعة شؤون العدو، وهي مهمة أفضت به ليكون إحدى العيون الراصدة لكل ما يصدر عن الإسرائيلي.
لاجئ في الممات..
مع اندلاع الحرب في سورية، نزح ياسر مع زوجته هبة وولدَيه، نصرات ورؤى، إلى لبنان، واستقر به الترحال في قرية زوطر الشرقية في الجنوب اللبناني، ولم يجد صاحب الضحكة الطفولية صعوبة في انخراطه وعائلته في البيئة التي لطالما شكلت حاضنة لقضية فلسطين. وفي البداية، أقام بمنزل رفيق الأسر، كايد بندر، في قرية دير كيفا، إلاّ إن صعوبة التنقل لمتابعة العلاج في مستشفى النجدة الشعبية واضطراره إلى المرور على الحواجز، وخصوصاً أن كل ما يملكه من شرعية ثبوتية هي صفته كـ "فلسطيني محرر من السجون الإسرائيلية"، دفع برفاق الأسر إلى نقله إلى قرية زوطر.
وأمضى سنواته العشر يتردد إلى مستشفى النجدة الشعبية في النبطية ومستشفى غسان حمود في صيدا، ولم تتقاسم المدينتان فقط علاج ياسر، بل أيضاً تقاسم ترابهما قدمَيه، فعندما بُترت أول رجل بعد إصابته بمرض السكري، قام رفيقه بالأسر، أنور ياسين، بدفنها في صيدا، وعندما بُترت رجله الثانية، دُفنت في النبطية.
توزعت أطراف ياسر بين هاتين المدينتين، قبل أن تحمله انتكاسة سريعة تعرض لها في إثر كسر في فخذه المهشم أصلاً بسبب ترقرق العظام، فنُقل بحالة طارئة إلى المستشفى، أمضى يومين لم يتوقف فيهما عن الصراخ، وغاب عن الوعي من شدة الألم عدة مرات؛ إذ كان يغرق في الوجع فجأة، وربما كان يسحب نفسه إلى ساحة سجن عسقلان، فيستعيد صراخه عند المطالبة بتمرير الكرة إليه، على أمل أن يضعها في السلة فيفوز، لكنه كان يعود ويستيقظ على وجع أشد...
وفي النهاية، جاء صمت أبدي حرر ياسر من العذاب، وطمره مع بقية جسده في جبانة زوطر الشرقية، التي صارت تستضيف بين أهلها لاجئاً فلسطينياً.