في هذه الفترة التي يعيشها الشعب الفلسطيني أمام الإبادة الممنهجة التي يقوم بها المستعمر الإسرائيلي، نجد الفن أكثر تصادمية وبلا مواربات، وقد ظهر ذلك عبر عدة معارض فنية أُقيمت مؤخراً، وأخص بالذِكر معرض "المفقودون" للفنان الفلسطيني تيسير بركات، والذي تم عرضه في المتحف الفلسطيني مؤخراً.
وبركات هو من مواليد مخيم جباليا للاجئين في قطاع غزة، وقد وُلد سنة 1959، وحصل على شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة حلوان في القاهرة، وانتقل إلى رام الله بعد تخرُجه إلى غاية اليوم. وبدأ مسيرته الفنية مبكراً، واستخدم العديد من الوسائط الفنية، وترتكز أعماله بصورة عامة على الهوية والتراث الفلسطينيَين، وقد كانت له عدة معارض، بالإضافة إلى المشاركات المحلية والدولية، ويُضاف ذلك إلى إرثه الفني، كونه من مؤسسي مركز الواسطي للفنون في القدس، وقاعة الحلاّج في رام الله.
ركزت أعماله الفنية في معرض "المفقودون" على الظلال التي تبقت من أجساد المفقودين أو المنتظَرين، وعلى الطيور في دلالة إلى فعل التنقل والهجرة المستمرة، بالإضافة إلى بعض الكتابات والرموز، كأنما يشير إلى مرارة الفقد الدائمة التي تسبب الهشاشة في أرواحنا، كما أن فعل الانتظار والترقب الدائم هو أكثر ما يحضر في أعماله، وهذا ما أشار إليه بركات في حوارنا معه، وقد أجاب عن بعض التساؤلات الأُخرى المتعلقة بسياقات متعددة، منها معرضه الأخير الذي جاء في فترة محمّلة بالقهر والموت والدمار. وقد سألتُه:
على أي شيء تركز في أعمالك الفنية؟
هناك موضوعات متعددة، لكن أغلب أعمالي، بصورة عامة، تدور بشأن تاريخ المنطقة وحضارتها، وخصوصاً فلسطين التي مر عليها كثير من الاحتلالات والمآسي، لذا، فنحن نجد كثيراً من البصمات المتنوعة. وبصورة خاصة، أتناول موضوعات قريبة من واقعنا الفلسطيني والعربي، فعلى سبيل المثال، هناك فترة أقمتُ خلالها معرضاً اسمه "بحر بلا شطآن"، يتحدث عن المهاجرين الذين يغرقون ويموتون في البحار، وفي الفترة الأخيرة، كان تركيزي على المفقودين قبل الأحداث، ولا يزال مستمراً، فأجدني في هذا المكان كثيراً في هذه الأوقات، وخصوصاً أن الواقع بات محمّلاً بالمفقودين.
متى ترسم؟ وما هي لحظة ميلاد العمل الفني؟
أُفضل الرسم في الصباح، أمّا عن لحظة ميلاد أي عمل فني، فهي غير مرتبطة بتوقيت زمني بالنسبة إليّ، لكن في أغلب الأوقات تكون في الصباح، وربما أحتاج إلى مراحل طويلة من التأمل في السطح، حيث أقوم بتحضيرات معينة مرتبطة بالألوان، وبعد ذلك، أبدأ الفكرة عبر النظر إلى العمل الفني، كنوع من اليوغا بيني وبين السطح، إلى أن يخرج العمل الفني.
إلى أي حد أنت قادر على الإنتاج الفني في هذه الفترة بصورة خاصة؟ وهل اختلف شكل الإنتاج قبل الإبادة وأثناءها؟
ما زلت أعمل في هذه الفترة الصعبة، ولم أتوقف عن الإنتاج، وبالتأكيد صار هناك اختلاف في شكل الإنتاج وكثافته إلى حد ما، لكن الموضوع بقي عن المفقودين قبل الحرب، ولا يزال كذلك.
من أين جاء عنوان المعرض "المفقودون"؟
بدأت علاقتي بالفقدان منذ صغري وأنا اسمع قصصاً عن عمي، وكتبتُ نصاً عنه بعنوان "عمي وجدتي والصندوق"، وجاء فيه: "كنتُ في الخامسة من عمري عندما ألححتُ بالسؤال على أبي، ليش ستي كل يوم بتطلع الصبح وبتقعد على طرف شارع المخيم (مخيم جباليا) وبتضل للمغرب وبتروح يابا؟ وبعد إلحاح انسابت قصة غياب عمي في ليل فلسطين الطويل، وكلما كبرت كان يكبر السؤال، وعلمت أن عمي التحق بالفدائيين بعد الهجرة سنة 1948. كان ينطلق عمي كل فترة مع مجموعة من المقاومين من غزة إلى داخل فلسطين، وفي السادس من يونيو سنة 1956 ذهب عمي وتناثر في حقول برتقال فلسطين وصار غيمة ولون السماء بألوان قوس قزح، لم أره منذ طفولتي وأراه الآن في وجوه كل المقاومين للظلم وفي وجوه كل أحرار العالم. ظلت جدتي تنتظر عمي يومياً من الصباح إلى مغيب الشمس حتى وفاتها سنة 1981." واستمر هذا الفقد حولي وفي كل مكان، فمنطقة الشرق الأوسط، وكثير من المناطق في العالم، فيها مفقودون، فتشهد من الحين إلى الآخر تظاهرات لأناس يحملون صور أولادهم المفقودين، سواء في دمشق وبيروت أم في كثير من دول العالم، وكان لذلك أثر عظيم في نفسي، وعن طريق ذاكرتي المحملة بالفقد، تبلور عنوان المعرض.
كم عملاً فنياً تم عرضه في المعرض؟ وماذا يعني لك هذا المعرض في هذه الفترة المؤلمة التي يمر بها الشعب الفلسطيني؟
أنتجتُ 19 عملاً فنياً، عُرض منها 16 عملاً بسبب ضيق المساحة. وهذا المعرض يعني لي الكثير، فالإحساس بالعجز صعب جداً عليّ كفنان، وهذا أقل شيء من الممكن أن أقدمه في هذه الفترة الصعبة والقاسية من حياتنا. إن كل فردٍ منا يقوم بما يستطيع، وأنا كفنان شعرت بأن ما يجري من إبادة ثقيل وظالم وقاهر، ويجب عليّ أن أعبّر عنه، وأوصله إلى العالم قدر استطاعتي.
كونك فلسطيني من غزة، هل تعتبر معرضك أو فنك فعلاً مقاوماً؟ وما دور الفنان الفلسطيني في وسط الإبادة؟
كلٌّ بإبداعه وطريقته الخاصة عليه أن يوثق هذه المرحلة، ويقوم بعمل شيء عنها، ويوصلها قدر المستطاع، سواء أكان عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، أم عبر طرق أُخرى. فالفلاح الذي يحرث الأرض هو مقاوم، والمعلم الذي يعلّم طلبته بصورة صحيحة هو مقاوم، والطالب الذي يدرس ويجتهد في جامعته هو مقاوم، والشاعر الذي يكتب بعمق وصدق هو مقاوم؛ فكل عمل يقوم به أي فلسطيني في هذه المرحلة والمراحل القادمة، ويجيده ويتقنه، هو فعل مقاوم. بكل تأكيد، كفنان، إذا قمتُ بإنتاج أعمال ذات قيمة لها بُعد إنساني، ومتطورة تواكب العصر، فهذا فعل مقاوم، بمعنى أن إحنا مش زياده بالحياة ونستطيع أن نقود كفلسطينيين، ولذلك، تجد الفلسطينيين منهم العباقرة والشعراء والفلاسفة؛ كإدوارد سعيد، ومحمود درويش، وكثيرين غيرهما من الفنانين الفلسطينيين الذين أبرزوا قضيتنا الفلسطينية، إذ إن معرفة شعوب العالم بأمر فلسطين ليست فقط عبر السياسيين، بل أيضاً بفضل المقاومة والأدب والفن والشعر والسينما، فجميعها عوامل ساعدت في إيصال رسالة وقصة وجُرْح فلسطين إلى جميع أنحاء العالم.
إلى أي حد أثرت خسارة المكان والأشخاص في أعمالك الفنية؟
لا شك في أن هذه الخسارات التي لا تُقدر بثمن أثرت فينا جميعاً، ومن الطبيعي أن تؤثر في إنتاجي الفني. وفي الحقيقة، لدي في هذه المرحلة غزارة في الإنتاج، على الرغم من الوضع الصعب، وكأنه نوع من محاولة إنشاء التوازن، لأن كمية الوجع والألم التي أشعر، ونشعر، بها تفوق الخيال والقدرة على التحمل، كما أن هذا الإنتاج أقل شيء يمكن نقوم به نحن الفنانين بشكل أو بآخر.
هل المعارض والأعمال الفنية التي ينتجها الفنان أو تنتجها أنت كافية لمقاومة الواقع؟
الفنان هو نقطة في بحر، أو جزء من النسيج الذي ذكرْته سابقاً، وكذلك الأستاذ والطالب والنجار والحداد والمزارع..الخ. جميعنا نستطيع القيام بفعل مقاوم عن طريق التشبث بالأرض وتعليم أولادنا بطريقة صحيحة، واستصلاح الأراضي. كل هذه أعمال مقاومة، وعلى الرغم من الشك في كفايتها من عدمه، فإنها تصنع لنا البقاء في هذه الأرض، والتي نستحق الوجود فيها، وبالتالي، فالفنان جزء من هذا النسيج، ويقوم بدوره بإنتاجه أعمالاً فنية مستواها مرتفع، وفيها رؤية وإبداع.
هل ترى الفن الفلسطيني يرتقي إلى كونه فناًّ مقاوماً؟
نعم، كما فعلنا نحن الفنانين الفلسطينيين؛ إذ لم تتبقَ بقعة في العالم إلاّ وأقمنا فيها معارض فنية كانت نوعاً من إيصال رسالة، وهي القصة الفلسطينية، إلى شعوب العالم، عبر اللوحة التي هي عمل بصري ولغة بصرية عالمية، بمعنى أن الكل يمكن له أن يفهمها.
ماذا يعني لك الحيز الخاص (المرسم)، والحيز العام (المجتمع)؟
الحيز الخاص هو عالمي، ومنطقتي، وروحي موجودة فيه، فمنه تخرج الأعمال الفنية، ومنه أقوم بالتأمل والتفكير والسرح مع نفسي في عالمي الخاص، أمّا المحيط، فهو المكان الذي أتواجد فيه، والذي يهمني تفاعلي معه وتفاعله معي، سواء أكان المحيط المتمثل في المجتمع الفلسطيني، أم العربي، أم العالمي، وهو يعني لي مدى قدرة أعمالي الفنية على النفاذ إلى أرواح الناس وأذواقهم، وما إذا كانوا استطاعوا استيعاب ما يجول في فكري وقلبي، فالفنان هو عبارة عن مرآة لمجتمعه وحضارته وتاريخه، لأنه يلخص بشكل أو بآخر تاريخ المنطقة في حال كان فناناً حقيقياً مبدعاً وقادراً على النفاذ إلى بواطن الأشياء وأسرارها، وهذه تحتاج إلى قراءة عميقة وأمل وتخيُل ودخول عميق إلى أسرار المكان وتاريخه والحضارات والأذواق التي مرت بهذا المكان.
في أي حيز أنت أقوى، الخاص أم العام؟ وهل تفصل الحيز الاجتماعي عن عالمك ومرسمك؟
أنا أقوى في الحيز الخاص الذي هو عالمي، لكن نحن كفنانين فلسطينيين تعوّدنا على أن نواجه جمهوراً متنوعاً، سواء أكان محلياً أم عالمياً وعربياً، وقد أقمنا كثيراً من المعارض، داخل البلد وخارجه، وكنا نضطر إلى إلقاء كثير من الخطابات، ونتحدث عن قصتنا الفلسطينية، وأعمالنا الفنية، أي أصبح لدينا نوع من القوة، وأنا كنت أستاذاً للفن، وامتلكتُ بعض القدرة على مخاطبة الناس.
بالنسبة إلى الشخوص الهامشية ذات المعالم غير الواضحة، والتي تراقب من بعيد، والأطياف التي تظهر في أعمالك، ماذا تمثل بالنسبة إليك؟ وهل هي مقصودة في هذه الفترة؟ وهل توحي إلى الضياع والعجز أو الفشل في طريقة تعاملنا مع حدث الإبادة؟
الشخوص التي هي بلا ملامح من الممكن أن تشبه واقعنا المؤلم، فنحن بقعة مهمة في الحياة أضافت الكثير إلى الحضارة الإنسانية، ولدينا حضارة، وكان لدينا مطار وسينما ومسرح في الأربعينيات، ولم تكن لنا دولة، وكنا نعيش أوضاعاً صعبة، بينما كانت هناك دول كبيرة لم تقم بما قمنا به، فربما الشخوص هي تعبير عن هذا الغياب والضباب، وعن عدم وجود شيء ممسوك... ربما، أنا لا أعرف. ربما يمكن للآخرين قراءة هذا الشيء، أمّا أنا، فعندما أرسم، لا أفكر بعقلي في أثناء العمل، وهذا نوع من التلقائية التي تخرج من دون وعي أو تخطيط مسبق، وفي كثير من الأحيان لا أعرف ما هي المعاني في العمل الفني. صحيح أنني أعرف المكان، وأقرأ، وأرى، لكن في أثناء الإنتاج، أتحول إلى طفل بتلقائية بلا تخطيط، وبالتالي، فإن قراءة هذه الأشكال تعكس قراءات متعددة، فمن الممكن لكِ أنت أو أي ناقد أو متلقٍ أن تقرؤوها بطريقة أفضل مني.
ما هو مخيالك للمستقبل الفلسطيني؟ وهل ترى بصيص أمل كونك عايشت لحظات مفصلية كثيرة ومؤلمة من التاريخ الفلسطيني؟
أنا شخص متفائل، ومتأكد من أن الإسرائيليين "عابرون في كلام عابر" كما قال درويش. كما أن المستقبل لنا، والظلم لا يستمر، وهذه فترة قاسية وصعبة في تاريخ شعبنا الفلسطيني، لكنني متأكد من أن المستقبل لأطفال غزة والضفة وشبابنا المهجرين في العالم، وأنا متفائل بأننا يوماً ما، وليس ببعيد، ستكون لنا دولة. أشعر بأنني بدأت أقرأ ملامحها.
هل هناك صوت محدد أردت أن يصل إلى المتلقي في معرض "المفقودون"؟
معرض "المفقودون" هو كشمعة أضيئها لشهدائنا تحت الركام، وللمفقودين في سجون الاحتلال، والأمهات المفقودات، وأتمنى أن تضيء طريقنا إلى مستقبل أفضل، وإلى دولة نعيش فيها بحرّية وسلامة.
إن مشهد الفقدان الذي رافق بركات منذ نعومة أظفاره هو إحساس جمعي يشترك فيه جميع الفلسطينيين، فمنهم من فَقَد منزله وأحباءه وذكرياته. وقد حاول بركات، ولا يزال يحاول، نقل إحساسات معينة عاشها هو وغيره، وهي نتاجات القهر والموت والإحساس بالفقد الذي عاشه، وما زال يعيشه الفلسطيني. وإن فعل النقل هذا أو التوثيق الناتج من عنف المستعمر وهيمنته مختلف من شخص إلى آخر، لكنه أقل ما يمكن أن يقوم به الفلسطيني في ظل هذه الإبادة.
تم تنظيم معرض "المفقودون" في المتحف الفلسطيني من 11 شباط/فبراير 2024 حتى 3 نيسان/أبريل 2024.