(جميع أحداث القصة واقعية)
16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023
_ولك كنو أبو نصار مطلعش من داره.
_آه والله، مظنيش بعرف.
_ترجع تحكيله؟
_يلا.
دار هذا الحوار بين أبو سلمى وابنه في مركز الإيواء بعد وصولهم إليه بأعجوبة. آليات الموت الإسرائيلية اقتربت من الحي عصراً، والجميع لجأ إلى قرار فوري بالهروب حين صدح شاب بكل ما فيه من لهاث: الدبابات ورانا...
أصوات القذائف التي تتطاير من فوق الرؤوس كانت أخف وطأة من الحمم التي تتطاير منها لتفقأ أرواح الناس وأحلامهم، ورغماً عن ذلك، أصر أبو سلمى وابنه على الوصول إلى أبو نصار.
الشوارع مكتظة بالموت، وأينما يممت وجهك سيأخذك حتماً شطر الموت والدمار، شِلو هنا، ودم هناك. الناس يهربون في كل الجهات، ولا جهة للنجاة، حتى السماء، كانت مكتظة بالموت والطائرات.
وصل أبو سلمى وابنه إلى بيت أبو نصار وتأكدا فعلاً من أنه لم يخرج من بيته بعد. أبو نصار رجل طيب ومحب للجميع، يعمل ممرضاً في أحد المستشفيات ونادراً ما تسمع له صوتاً بين ضجيج الحارة وأهلها.
يلا يابا بصوت واحد: أبو نصار، اخلي الدار يا أبو نصار.
وبعد لحظات كان أبو نصار وعائلته المكونة من زوجته وثلاثة صبيان وطفلة صغيرة خارج المنزل.
_إيش صاير؟
_الدبابات شوية وحيصيروا في الحارة، يلا عالمدرسة.
مركز الإيواء هو عبارة عن مدرسة تابعة لوكالة الغوث (الأونروا) كانت تبعد عن البيت شارعين يفصل بينهما مفترق، ذلك المفترق الذي حين وصلوا إليه سقطت بجانبهم قذيفة!
لو أن الموت لا يأتي على عجل لجهّز البشر أنفسهم للرحيل، لفضّلوا الموت في أماكن يحبونها، كشرفة المنزل مثلاً، يحملون كوب شاي في كفة وقلبهم في كفة أُخرى، لكن الأمر في غزة يختلف، فكل فرصة للحياة هي فرصة للموت أيضاً.
كأن الزمن قد توقف، والرؤية قد انعدمت، حتى أزال كل واحد يديه عن عينيه. لماذا نغطي وجهنا عند الخطر؟ لماذا لا نحمي قلبنا مثلاً، لماذا لا نحب أن نرى الحياة في أشد لحظاتها قسوة؟
في لحظات قليلة، تحسس الكل وجوده، لكن محمود صاحب الاثني عشر عاماً، كان مليئاً بالصراخ، بعدما أصابته شظية في رأسه.
_ الله أكبر، الله أكبر.
كبّر أبو سلمى.
حمل أبو نصار ابنه إلى مركز الإيواء، محاولاً تضميد دمائه بلا جدوى، وما إن وصلوا إلى هناك دخل غرفة الطوارئ المليئة بالجراح والشخير والوداع.
كانت غرفة الطوارئ في مركز الإيواء مجهزة بإمكانات بسيطة أقل مما يستوعبه الأمر، فوضع أبو نصار ابنه على البلاط، وبحث في الغرفة عن أي مستلزمات يمكن أن تفيده في توقيف نزف ابنه، فلم يجد سوى ضمادات بسيطة. خلع أبو نصار قميصه حينها، وربطه على الجرح، مدركاً ألاّ جدوى من كل هذا الأمر، فابنه يعاني من نزيف داخلي.
أبو سلمى كان ملازماً للحدث، ويحاول مساعدة أبو نصار من جهة، وتهدئة الأهل والأطفال من جهة أُخرى، لكنه وقع في دهشته حين قال له أبو نصار: الولد معاه نزيف داخلي، ومحتاج مستشفى، وإنت شايف الوضع، خلينا ننقذ ما يمكن إنقاذه.
_إيش قصدك؟
_يعني نروح نعالج الإصابات اللي ممكن نعالجها برا، ابني قاعد بموت، وروحه ممكن تكون مع كل واحد بقدر أساعده.
لم يصدق أبو سلمى ما سمعه للتو، لم يدرك كيف يمكن لأب أن يترك ابنه هكذا ليساعد أبناء شعبه، غطى أبو نصار وجه ابنه، ومضى في مهمته.
ماذا فعل الغزي ليلاقي كل هذا الوجع؟
ما ذنب الصغار الذين لا يعرفون الأحمر إلاّ في الجوري وملابس العيد؟ لماذا تلطخت أجسادهم بالدماء؟
كانت تلك الأسئلة تزاحم رأس أبو نصار كلما حاول معالجة طفل أو رجل أو امرأة.
عاد أبو نصار إلى ابنه النائم على البلاط بسكون، كان يلتقط أنفاسه الأخيرة من حياته القصيرة، كم كان إدراك الحياة شكاً، وإدراك الموت حتمياً جداً.
لو أن القذائف توقفت قليلاً، لو أنها قليلاً توقفت عن مس الرعب فينا، لكان هناك وقت للحزن، لكان هناك وقت للبكاء. لم يبك أبو نصار، فالموت ما زال قائماً وفي عنقه أربع أرواح، ولا بد من ثغرة للنجاة.
كان يعتقد أبو سلمى أن وجودهم في مدرسة تابعة لوكالة الغوث أمان لا بد منه، وأن أي تهديد سيقع على المدرسة سيُسبق باتصال تحذير، لكن القذائف تقترب منهم أكثر فأكثر، حتى سقطت في ساحة المدرسة.
لا أعرف كيف يتحول المرء فينا إلى أشلاء، لا أعرف كيف تخون أجسادنا نفسها، وتتطاير في الهواء، صعب حين تجد يداً تسأل عن صاحبها بعد ذلك.
لا أعرف إن انتهت هذه الحرب يوماً كيف سيعود الطفل إلى المدرسة ذاتها التي ماتت فيها أمه أو مات فيها أخوه، هل سيركض في ساحة المدرسة، أم ستعلق الذكرى في قدمه، ويسقط؟
الموت أصبح حتمياً في مركز اللجوء. وبعد فترة من توقف القذائف، هرع أبو نصار إلى أبو سلمى طالباً منه الخروج من المدرسة نحو الجنوب.
_ أنا معك، بس إيش بدك تعمل في الولد؟
تلفت أبو نصار حوله، كان الموت طاغياً، والجثث ملقاة على الأرض مضرجة بالوجع، ولم يجد الواحد فيهم جهة للنجاة غير الموت.
حينها كان قد بدأ الناس بجمع الجثث على العربات لدفنها فيما بعد في إحدى الأراضي الفارغة التي يتبرع بها صاحبها لتصير مقبرة جماعية، ومن دون أن ينبس ببنت شفه، حمل أبو نصار ابنه، ووضعه على العربة.
_:إيش بتعمل، يقول أبو سلمى.
ظل أبو نصار غارقاً في صمته؛ وضع ابنه على العربة وقال: يلا عالجنوب.
حين لا تعرف لحبيبك قبراً، ستراه مع كل زرع يخرج من الأرض ويخضرّ، ستحلم أن كل الغيوم التي تمطر لا بد أنها تمطر لأجله.
وهكذا ترك أبو نصار ابنه على عربة الجثث؛ ومضى.
لن يغيب أبو نصار عن ابنه أبداً، لكنه كم أجّل من البكاء حين انتهاء الحرب!