إن فقدان وتدمير الأرشيف في غزة هو نتيجة العدوان المستمر على القطاع على امتداد الأشهر الماضية. فقد دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية، أو أصابت بضرر فادح، ما يزيد على 200 موقع تاريخي مهم في قطاع غزة لتمحي وجود التراث الثقافي لشعب بأسره. وتتمثل سياسة إسرائيل في استهداف التراث المادي وغير المادي، بما في ذلك أرشيفات غزة، سعياً للحط من الهوية الجماعية للشعب الفلسطيني، وسلب هذا الشعب من تاريخه نهائياً.
وقد أدت هذه الأعمال البربرية إلى خسائر بشرية كبيرة جرى توثيقها جيداً منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. غير أن الضربات الإسرائيلية المتلاحقة لم تستهدف البشر فحسب، بل استهدفت أيضاً كل مظاهر تاريخ غزة وحياتها اليومية، وشمل هذا الأمر تدمير المباني التاريخية، والمساجد، والكنائس، والمؤسسات الثقافية، والجامعات والمكتبات، والمتاحف التي تضم أرشيفات تاريخية ووثائق تراثية.[1]
وقد تابعت دائرة الأرشيف والمكتبات في الجامعة العربية الأميركية، بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مسار هذا العدوان على غزة عن قرب، وذلك بعد انتهاء الهدنة التي استمرت ستة أيام، والتي بدأت في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر. ومن خلال التواصل المباشر مع بلدية غزة، تسلمت هذه الدائرة تقريراً مفصلاً عن الدمار الذي لحق بأرشيف البلدية المركزي.
ويتضمن هذا الأرشيف تاريخ البلدية والمدينة وسكانها وبُنيانها المدني، وهو مصدر لا غنى عنه للمعلومات الأساسية التي توثق الأحداث في الماضي وما آلت اليه، ومصدر له أهمية بالغة لفهم تطور المدينة عبر الزمن، ولتحليل القرارات التي اتُخذت في الماضي والحاضر والمستقبل. ويضم هذا الأرشيف أكثر من 110,000 ملف، بما يشمل مراسلات رسمية، وعقود ومعاملات مالية، وخرائط معمارية، ووثائق فوتوغرافية عن المدينة، وملفات رخص البناء، وكل ملفات الاشتراكات في المياه، وعقود التمليك عند المواطنين، وملفات رخص ممارسة المهن، وعقود الإيجارات.[2] ولم تنجُ مكتبة البلدية المركزية من عدوان إسرائيل، فقد تم قصفها خلال الغارات الجوية التي استهدفت غزة منذ نشوب الحرب في 7 أكتوبر المُنصرم. وهذه المكتبة المعروفة باسم "مبنى المكاتب الرسمية" والتابعة لبلدية غزة، هي أكبر مكتبة في المدينة. واستناداً إلى صفحة بلدية غزة على فيسبوك، فقد تأسست هذه المكتبة عام 1999 من خلال اتفاقية توأمة مع مدينة دنكرك الفرنسية بتمويل من البنك الدولي. وكانت المكتبة تشغل طبقتين وطبقة سفلية، وتضم عشرة آلاف مجلد باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية.[3] كذلك الأمر في مركز رشاد الشوا الثقافي، الذي حمل اسم المؤسس رشاد الشوا، رئيس البلدية السابق في الفترة 1971 - 1982. وقد تم إنشاء هذا المركز ليكون بمثابة محور ثقافي يستضيف نشاطات ثقافية يومية، ولقاءات اجتماعية، ومؤتمرات، بالإضافة إلى تعليم اللغات الأجنبية. وهذه النشاطات موثقة ومحفوظة في أرشيف المركز.
كما استضاف المركز اجتماعات ثقافية وتربوية ومعارض فنية وسينمائية وصولاً إلى حفلات تخرج مدرسية. أمّا مسرح هذا المركز فقد استضاف كوكبة من الأسماء اللامعة، منها رئيس جمهورية جنوب أفريقيا نلسون مانديلا، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، وتم توثيق زيارتيهما في أرشيف المركز الذي تم تدميره بشكل شبه كامل بغارة إسرائيلية.[4]
وهذا المركز الذي شهد اجتماعاً عُقد عام 1998[5] بين الرئيس الأميركي بيل كلنتون وياسر عرفات قبل 25 عاماً، أضحى ركاماً منذ بداية الحرب تقريباً. وفي مقابلة مع لويس بريهوني نُشرت على موقع شبكة "السردية الفلسطينية" عبّر الفنان الفلسطيني آسر السقا عن غضبه العارم وألمه الشديد الشخصي حيال ما لحق بمركز رشاد الشوا الثقافي، فقال: "شاهدتُ فيه برنامجاً لرقص الفلامينكو الإسباني، وʾهزليون بلا حدودʿ، وعروض سينمائية، ومسرحاً للدمى، ومسرحيات، ومعارض فنية، وغيرها الكثير. فقد كان بحق تحفة معمارية ورمزاً للهوية الوطنية."[6] وأضاف السقا أن هذا المركز كان قد نظم في عام 2009 مهرجاناً استمر ثلاثة أيام تخللته حلقات دراسية تستهدف صانعي الأفلام، أمّا مسرح المركز فقد استضاف أمسيات موسيقية وفنية.[7]
وكان خليل المزين وهو سينمائي من غزة قد استضاف في مركز رشاد الشوا أحد الأحداث البارزة التي كان لها وقع دولي عميق امتد أثره بعيداً خارج قطاع غزة، وهو مهرجان السجادة الحمراء لأفلام الحقوق الإنسانية. وتم افتتاح هذا المهرجان في 15 أيار/مايو 2016، وضم طيفاً واسعاً من الأعمال السينمائية، منها الأفلام القصصية القصيرة والطويلة، والأفلام الوثائقية، وأفلام الرسوم المتحركة، والتي تُبرز اهتمامات محلية وعالمية ذات طابع إنساني. وقد تم تأسيس هذا المهرجان كي يعمل كمنصة لزيادة الوعي بأهمية القضايا الاجتماعية العادلة، وللمطالبة بتغيير إيجابي في حياة غزة الثقافية.[8]
وأمضى الباحث والمؤرخ عبد اللطيف أبو هاشم عدة سنوات لوضع برنامج لما يحتويه الجامع العمري في غزة، وهو أقدم جوامعها، من مخطوطات. ويفهرس هذا البرنامج ما يقارب من 200 مخطوطة نادرة تعالج موضوعات إسلامية شتى، وكانت هذه المخطوطات محفوظة في مكتبة الجامع منذ عشرات السنين. وقد أكد أبو هاشم أهمية هذا الفهرس في تثبيت جذور التراث العربي الإسلامي في فلسطين المحتلة، إذ إن الفهرس يضم وصفاً لعدة مخطوطات يرجع تاريخها إلى العصور الإسلامية المبكرة.[9] وبالإضافة إلى هذه المخطوطات النادرة، وعددها نحو 200، تم توثيق وفهرسة بعض الكتب والمراجع التي يحتويها الجامع العمري بشكل دقيق. وهذه المخطوطات والمراجع، كما غيرها من النصوص والنُسخ والصور طبق الأصل، توثق بمجموعها تقدم فلسطين العلمي والثقافي.[10] كما أن هذه الوثائق تُبرز العلاقات القائمة بين علماء فلسطين في أرجائها كافة، كغزة ورام الله والقدس ونابلس وحيفا. ولقد أدى هؤلاء العلماء دوراً محورياً في نشر العلم والثقافة في جميع أنحاء فلسطين.[11]
وأعرب أبو هاشم عن قلقه البالغ حيال احتمال خسارة المخطوطات والمراجع في هذه المكتبة بعد أن قصفت القوات الإسرائيلية الجامع العمري، موضحاً أن المخطوطات تُحفظ في صناديق معدنية، وأضاف قائلاً: "غير أنه، وبسبب هذا العدوان المستمر، لم نستطع الوصول إلى الجامع للكشف عمّا يجري في المكتبة والمخطوطات ولتقدير حجم الدمار."[12]
كذلك، فقد تم تدمير أرشيفات خمس أو ست جامعات فلسطينية بشكل واسع من خلال قصف سجلات الطلاب والمعلومات المتعلقة بهم، ولا يوجد مخزن مركزي لأرشيفات الجامعات، والذي يحتوي على معلومات داخل نظام احتياطي، ولا يُعرف كيف تحافظ تك الجامعات على أرشيفها. وبسبب الأزمة المالية التي تعاني جراءها جامعات فلسطين، وخصوصاً غزة، فإن احتمال أن تكون هذه الجامعات قد وضعت أرشيفاتها على مخزن رقمي خارجي هو احتمال ضئيل للغاية بسبب الرسوم العالية التي يجب أن تدفعها الجامعات في كل عام. لذا، ومن أجل التعامل مع هذا الأمر، فإن معظم المعلومات تُختزن في "خوادم" محلية، والأمر ذاته ينطبق على المدارس وغيرها من المؤسسات التربوية.
وقد دانت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، على موقع شبكتها، الدمار عن عمد لمجمع المحاكم المعروف باسم قصر العدل في منطقة الزهراء وسط القطاع يوم الاثنين في 4 كانون الأول/ ديسمبر 2023، فلم يسلم هذا القصر من الاستهداف المباشر والهدم من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي. وهناك مقطع فيديو تم تسريبه على وسائل التواصل[13] يُظهر جيس الاحتلال وهو يفجر ويدمر مُجمّعاً بُني عام 2018 يضم أهم محاكم القطاع بما فيها الآلاف من الدعاوى. لذا فقد العديد من المواطنين سجلاتهم، بما في ذلك الحُجج والصكوك وعقود الملكيات، ما يجعل من الصعب عليهم فيما بعد أن يُثبتوا حقوقهم، وأن يحصلوا على الخدمات الضرورية.[14]
الأرشيفات الخاصة
"حين نشاهد بأم العين كيف يجري سلب وطننا، ونرى كيف انهار البرج ونحن لا نقوى على التدخل فهذا أمر صادم للغاية ويفطر القلوب. وحين نشاهد ذكرياتنا وصوراً من حياتنا الماضية وقد أضحت ركاماً على الأرض حينها نشعر بالعجز والأسى. وحين نفقد تفاصيل حياتنا وممتلكاتنا العزيزة على قلبنا وكُتبنا ووثائقنا الخاصة بنا كما والبعض من الأشياء ʾالأيقونيةʿ التي حافظنا عليها كي نورثها لأولادنا، نجد أن كل هذا قد تم تدميره في لحظة واحدة وأن حياتنا الخاصة وقصصنا قد دُفنت تحت الركام."[15]
واليوم فإن كل إنسان لا يزال على قيد الحياة في غزة يعاني جراء فقدان وثائق وسجلات وآثار فنية أو أشياء ملموسة قد حُفظت وجُمعت لإحياء ذكرى حادث ما، أو شخص ما، أو مجموعة ما. وهذه الأرشيفات غالباً ما يتم إنشاؤها لضمان التذكير بحادثة تاريخية ما أو بأشخاص معينين، وهي تُحفظ كي تدرسها الأجيال القادمة لتستذكر هويتها. وقد تم تهجير معظم سكان غزة بقوة السلاح من منازلهم وبشكل مفاجئ من دون أن يكون لديهم الوقت الكافي للتفكير في ممتلكاتهم، ومنها أرشيفاتهم الخاصة. وأبرز مثال لذلك ما حل بأرشيف مروان طرزي البالغ من العمر 60 عاماً والمعروف باسم "حارس أرشيف غزة"، و"حارس تاريخ غزة البصري" و"حارس صور غزة الفوتوغرافية"؛ استشهد مروان وزوجته، كما العديد من أفراد أسرته، حين قصف الجيش الإسرائيلي كنيسة القديس برفيريوس في غزة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.[16]
تملكت عائلة طرزي أول استديو في غزة، وهو استوديو كيغام للصور الفوتوغرافية، في ثمانينيات القرن الماضي بعد أن غادرت عائلة كيغام غزة واستقرت في مصر. فتح استوديو كيغام أبوابه في أوائل أربعينيات القرن الماضي، وكان كيغام جغليان، الذي فتح أول استوديو فوتوغرافي في غزة، قد وُلد في أرمينيا عام 1915، وهو أول مصور فوتوغرافي في غزة وثق صوراً تاريخية للنكبة، والتي شهدت على وصول عشرات الآلاف من اللاجئين إلى غزة ممن طردهم الصهاينة من بيوتهم، الأمر الذي أدى إلى تشكيل مخيمات اللاجئين. ووثق كيغام في صورة ما جرى من ترحيل لهؤلاء اللاجئين ونصب الخيم لإيوائهم.
وظهر طرزي في فيلم وثائقي بعنوان "ذاكرة غزة الفوتوغرافية" أخرجته السينمائية مروى جبارة الطيبي وأنتجته أفلام قناة "الجزيرة الوثائقية". وفي هذا الفيلم يلقي طرزي الضوء على سعيه للحفاظ على تراث كيغام، ويتحدث عن تاريخ غزة الغني، فيقول: "في الستينيات كان لدي أخ اسمه موريس، وكان موهوباً في فن التصوير الفوتوغرافي وتدرب على أيدي كيغام. ونشأت بينهما صداقة فأصبح كيغام يعامله كابن له فعلمه كل ما يحتاج إليه كي يصل بهذا الفن إلى أعلى المستويات. بدأ موريس العمل مع كيغام وكنتُ أنا أذهب لمساعدة أخي في تجفيف الصور بعد وفاة كيغام في عام 1980. وتملّك أخي موريس ذاك الستوديو في عام 1986."[17]
في أعقاب المجزرة التي حلت بالمستشفى الأهلي المعمداني من جانب القوات الإسرائيلية، استطاعت الباحثة الاتصال بسامي ابن مروان طرزي في الملجأ في الكنيسة الأرثوذكسية لسؤاله عن مصير أرشيف كيغام، والذي كان يُحفظ في منزل العائلة. وقال سامي إنه، وبسبب تصاعد العدوان العسكري على أهل غزة، فقد اضطروا إلى مغادرة منزلهم في منطقة تل الهوا في مدينة غزة بسبب خطر الموت الداهم، واللجوء إلى الكنيسة طلباً للنجاة، إذ لم يتوقعوا أن يكون الرد الإسرائيلي على ما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر على هذه الدرجة من الوحشية. وأضاف سامي أنهم عاجزون عن العودة إلى منزلهم للكشف عما حل بالأرشيف والصور الفوتوغرافية وأقراص الحاسوب والوثائق الأُخرى التي تركوها وراءهم. ولا يعرف ما إذا كانت هذه كلها قد سُرقت ضمن عمليات النهب الواسعة، أو استولى عليها الجنود الإسرائيليون، أو تُلفت بفعل الأمطار.
وثمة مثال آخر لفقدان الأرشيفات الخاصة، وهو ما حل بفادي عبد الهادي، وهو باحث وجامع للتراث الفلسطيني من أهل غزة، إذ نجح فادي في جمع الآلاف من المواد البصرية والسمعية خدمة لبحث مستفيض كان يقوم به منذ سنوات. وقد بدأ سعيه من خلال التنقيب عن الأرشيفات البصرية والسمعية والسينمائية كي يستخدمها في أبحاثه، غير أن مبادرته تلك تطورت فيما بعد لتُصبح أرشيفاً يتضمن الآلاف من هذه المواد، فقد جمع مواد مفصلة تختص بأعمال فنية عديدة، وبمسرحيات، وبمواد موسيقية وطنية، بالإضافة إلى الحفاظ على أفلام أنتجتها مؤسسة السينما الفلسطينية - قسم الأفلام الفلسطينية، والمواد العائدة لدائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية.
كان عبد الهادي على الدوام يقدم لي أجوبة دقيقة عن كل أسئلتي، وكان يوجه أي باحث إلى المكان الصحيح الذي يتضمن أرشيفات سينمائية. وتكلمت معه بعد مضي خمسة أسابيع على نشوب الحرب، ورجوته أن يحافظ على المواد السينمائية التي في حيازته فأجاب: "لا داعي للقلق، فقد وضعت كل الأقراص الصلبة والأسلاك في كيس واحد وقلت لزوجتي إن هذا الكيس أهم من ثيابنا، فإذا حل أمر ما ينبغي أن نعمد أولاً إلى أخذ هذا الكيس معنا." وفي رسالة ثانية إليه عبر "فيسبوك مسنجر" كتب إلي يقول: "تم تدمير منزلي والحاسوب المحمول حيث كانت تُحفظ الأفلام والشرائط"، وفي 7 كانون الثاني/ يناير 2024، نشر عبد الهادي على صفحته على فيسبوك صورة من عام 2023 وكتب ما يلي: "حل الدمار بمنزلي وبجزء من الأرشيف الذي أمضيت السنين الطوال في جمعه وترميمه والحفاظ عليه. وقبل السابع من أكتوبر لم يعد القرص الخارجي الصلب الذي يحتوي على المواد السينمائية يعمل. وبعد تدمير الحاسوب المحمول تكسر قرص صلب آخر وبعض أشرطة ʾبيتا كامʿ وʾبيتا ماكسʿ وجهازان آخران وكاميرا ومختلف أنواع الأغلفة السلكية."[18]
وفي نهاية أيلول/ سبتمبر 2023، اتصلت الباحثة بأشرف مشهراوي، صاحب شركة "ميديا تاون" للحصول على بعض المواد الأرشيفية عن فلسطين. والشركة هذه معروفة جيداً بإنتاجها الأفلام الوثائقية للمحطات الفضائية. وكان أرشيف هذه الشركة يُقسم الى قسمين: المجموعة الأولى وتضم مواد تتصل بأحداث تاريخية، كالنكبة والانتفاضة الأولى، والتي تم شراؤها من مصادر مختلفة. أمّا المجموعة الثانية فتضم أحداث الانتفاضة الثانية والحروب المستمرة على غزة بعد سيطرة "حماس" على القطاع على امتداد السنوات العشرين الأخيرة. وأكد لي مشهراوي أن هذا الأرشيف مُخزن باستخدام أنظمة LTO وكاسيتات رقمية، غير أن كل هذه المواد قد دُمرت تحت ركام البرج بعد استهدافه بقصف إسرائيلي مباشر.[19] وفي 7 تشرين الأول/ أكتوبر كان مشهراوي في تركيا ولم يستطع العودة إلى غزة. وبعد مضي أسبوعين، أعلم الباحثة بأنه حين كان خارج الوطن أصيب بدهشة عندما شاهد البرج الذي يضم شركته يصاب بالدمار خلال الأسبوع الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر بعد أن أغارت عليه طائرة إف 16.
وفي سياق آخر، كان الرسام والنحات الفلسطيني الشهير فايز السرساوي، وهو من سكان منطقة الشجاعية في غزة، قد حول الطبقة السفلية في منزله في تل الهوا إلى استوديو ومكان لعمله، وأمضى في المكان معظم وقته. وعلى امتداد 40 سنة، أنجز فايز مجموعة من الأعمال الفنية في تلك الطبقة السفلية. لكن ما إن استعرت تلك الحرب القاتلة، حتى اضطر إلى النزوح القسري من منزله في مدينة غزة واتجه نحو جنوب القطاع ومن ثم إلى مصر. وقال فايز: "تركت الاستوديو ومكتبتي الفنية وكل ما في ذلك المكان حين اضطررنا إلى الهروب ولجأنا إلى الجنوب. لم يسمح لنا الوقت أن نجلب معنا سوى أشياء خاصة خفيفة الحمل ووثائق رسمية ضرورية." وظلت مجموعة لا يستهان بها من أعماله الفنية ورسوماته ومنحوتاته، بالإضافة إلى أعمال فنية متنوعة، في منزله.
وحتى تاريخ هذه المقابلة معه ومن خلال بعض الانطباعات التي وصلت إليه من أصدقاء له، فإن جزءاً كبيراً من منزله أصابه دمار بالغ.[20]
وهو لا يزال حتى الآن يجهل مصير أعمال أفنى فيها 40 عاماً من عمره، وينتابه القلق إزاء ما إذا كانت هذه الأعمال قد نُهبت أو دُمرت.[21]
النتائج
من الصعوبة بمكان أن نحدد مصير أرشيف غزة ومكتباتها ومتاحفها، وذلك بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل، واستهداف الصحافيين، والانقطاع المستمر لوسائل التواصل، والدمار الهائل للبيئة. كذلك فقد تم ترحيل وتهجير خبراء الأرشيف والمكتبات، أو أُصيبوا بجروح، أو قُتلوا. وينوي الإسرائيليون التطهير العرقي من خلال استهداف كل دليل يثبت الوجود الفلسطيني على هذه الأرض، فما تقوم به إسرائيل من تدمير للتراث الثقافي غير المادي، والأرشيفات، والمكتبات، يتناقض مع المواثيق الدولية والمؤسسات التي تشترط الحفاظ على هذا التراث، وخصوصاً المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة وملحقيها الاثنين، واتفاقيات جنيف، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
أمّا الدمار، فقد بلغ حد جرائم حرب من دون أن تصدر أي إدانة صريحة من المؤسسات الدولية التي تدعو إلى حماية التراث الملموس، بما ذلك الأرشيفات، ومن هذه المؤسسات المجلس الدولي للأرشيف، ومنظمة بلو شيلد الدولية (Bule Sheild International)، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – اليونسكو.
وهذا العدوان الإسرائيلي البربري على التراث الملموس يرتبط، وبشكل وثيق، بخطة إسرائيل الكولونيالية الاستيطانية الهادفة إلى تكوين سردية جديدة تخدم أهداف الاستيطان، وتمحو كل ما يناقضه. لكن، وعلى الرغم من الاهتمام الفلسطيني العميق بالتراث وبالعديد من المشاريع التراثية التي أُنجزت، فإنه يبقى على المؤسسات الفلسطينية، حكومية كانت أم خاصة، واجب حماية الأرشيفات والحفاظ عليها، واتخاذ الخطوات والإجراءات الضرورية لمنع حدوث هذا القدر الهائل من التدمير.
كذلك فإن السلطة الفلسطينية تتحمل المسؤولية لأنها لم تتخذ التدابير اللازمة والسياسات التي تحد من ضياع الذاكرة الفلسطينية الجامعة، والتي نُهبت وصودرت ودُمرت.
[1] “ 2023-2024 HOSTILITIES AND ESCALATING VIOLENCE IN THE OPT | ACCOUNT OF EVENTS”, Diakonia, 12/1/2024.
[2] تقرير مكتوب من بلدية غزة، مقدم إلى رولا شهوان، 18/1/2024
[3] صفحة بلدية غزة على فيسبوك.
[4] “Red Carpet Human Rights Film Festival,11 August 2022 to 17 August 2022”.
[5] في 15 كانون الأول/ ديسمبر 1998، تجمع المئات من السياسيين الفلسطينيين وقادة الأحزاب والناشطين وأعضاء المجلس الوطني وأعضاء حركة التحرير الفلسطينية بحضور الرئيس كلينتون للتصويت على إزالة فقرات من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية التي دعت إلى تدمير إسرائيل. وكانت هذه الخطوة تمهيداً للقاء على حدود إيريز بين الرئيس السابق ياسر عرفات والرئيس كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
[6] Louis Brehony , “Two Palestinian Artists Condemn Israel’s Destruction of Gaza’s Iconic Theater”, 28/11/2023.
[7] Ibid.
[8] Ashleigh Stewart and Fady Hanona, “Rolling up the red carpet: Is this the end of Gaza's Red Carpet Human Rights Film Festival?”, 24/6/2019.
[9] "مؤرّخ فلسطيني يقوم بفهرسة أكثر من 200 مخطوطة نادرة كانت في مكتبة المسجد العمري الكبير"، "التلفزيون العربي، على موقع يوتيوب.
[10] مقابلة مع عبد اللطيف أبو هاشم، 5 كانون الأول/ ديسمبر 2023.
[11] "مؤرّخ فلسطيني يقوم بفهرسة أكثر من 200 مخطوطة نادرة كانت في مكتبة المسجد العمري الكبير"، مصدر سبق ذكره.
[12] مقابلة مع عبد اللطيف أبو هاشم، 29 كاون الأول/ ديسمبر 2023.
[13] "جيش الاحتلال يفجر مبنى قصر العدل في غزة فما هو الهدف من ذلك؟"، "صوت بيروت إنترشونال"، على موقع يوتيوب.
[14] "الهيئة المستقلة تدين تدمير جيش الاحتلال الإسرائيلي لمجمع المحاكم (قصر العدل) في قطاع غزة"، الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، 5/12/2023.
[15] صفحة هبة الشوا على فيسبوك.
[16] "مصورو غزة - 3 مصور غزة الأول.. كيغام جغليان"، "الجزيرة الوثائقية".
[17] المصدر نفسه.
[18] صفحة فادي عبد الهادي.
[19] Mashharawi, Ashraf, Interview, WhatsApp call.21/2/2024.
[20] مقابلة مع فايز السرساوي، 26/2/2024.
[21] “Israel’s demolition of educational institutions, cultural objects in Gaza is additional manifestation of genocide”, Euro-Med Human Rights Monitor.