الإبادة الجماعية في غزة والمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي
Auteur: 
Année de publication: 
Langue: 
Arabe
Anglais
Nombre de pages: 
12

كشفت الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل في هجومها على غزة عن النهج الفظ والمدروس لعملياتها العسكرية التي تستهدف على وجه التحديد البنية التحتية المدنية. وسلطت الأفكار التي عرضها مسؤولون سابقون في المخابرات الإسرائيلية ونشرتها مجلة "+972 ماغازين" الإلكترونية وموقع "لوكال كول" Local Call)) الإسرائيليان المستقلان الضوء على وجود نية استراتيجية لترويع المدنيين من خلال القصف الذي يستهدف المرافق المدنية الأساسية. وتحولت هذه الاستراتيجية، على حد تعبير أحد ضباط المخابرات السابقين، إلى "آلة للاغتيالات الجماعية"، مع التركيز على المناطق السكنية والمدارس والبنوك والمباني الحكومية، والتي تُعد جميعها "أهدافاً حيوية مهمة". وتسلط التقارير الضوء على التوظيف المتطور للذكاء الاصطناعي في الحرب، ولا سيما من خلال مشروع هبسورة "الإنجيل".[1]  تعمل هذه التكنولوجيا، من خلال تحليل بيانات المراقبة، على أتمتة عملية إنشاء قوائم الأهداف، ما يساهم في ارتفاع عدد القتلى المدنيين في غزة. ويمثل هذا التكتيك علامة فارقة في تطبيق الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية مع جعل غزة على نحو غير مسبوق موقعاً لمثل هذه الحملات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً بعد أول هجوم بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي في عام 2021.

تسلط هذه الإبادة الجماعية الضوء على تشابك النزعة العسكرية القومية الإسرائيلية، وتواطؤ الولايات المتحدة، واختبار الأسلحة الفتاكة، والمساعي الجيوسياسية، وكلها تتلاقى مع أهداف الحرب المستمرة والتوسع الاستعماري والاستئصال المنهجي للفلسطينيين. وهي تكشف على وجه الخصوص، مدى ارتباط وجود إسرائيل ووظيفتها، ككيان استعماري استيطاني، عضوياً بمجمع صناعي عسكري موسع ساهم بشكل أساسي في تشكيل مجتمعها وثقافتها واقتصادها وعلاقاتها السياسية الخارجية والدعم الخارجي الذي تتلقاه.

مهدت إقامة إسرائيل في عام 1948 الطريق لتطوير مجمع صناعي عسكري موسع ومحبوك ومتداخل في أطرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويمتد إلى ما هو أبعد من النطاق التقليدي للعمليات الدفاعية. ويتضمن هذا النظام المعقد مجموعة واسعة من القدرات، بما في ذلك تصنيع الأسلحة المتقدمة، وتطوير التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، والابتكارات الأمنية الخاصة، واستثمارات رأس المال الاستراتيجية واستراتيجيات التصدير والاستيراد المفصلة والمحددة. علاوة على ذلك، يوفر هذا النظام الكثير من فرص العمل في القطاعين العام والخاص.

تقود مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة هذه المصفوفة العسكرية، فتوسع تأثيرها إلى ما هو أبعد من حدود المجالات العسكرية والأمنية لتشمل مختلف الفاعلين الماليين. ويشمل ذلك المستثمرين والمقاولين وشركات التكنولوجيا ورأس المال اليهودي، وخصوصاً أولئك الآتين من المجال العسكري الأميركي والأوساط المالية. ويتغلغل تأثير المبادرات العسكرية الاقتصادية الإسرائيلية أيضاً في القطاعات غير العسكرية، وينشئ ارتباطات تعاونية مع المؤسسات الأكاديمية ومنظمات الرعاية الصحية والنقابات العمالية ومجتمعات البحث العلمي.

أدى هذا الخلط بين الأهداف العسكرية والحياة المدنية إلى تعزيز التكامل السلس بين المصالح العسكرية والاقتصادية عبر مختلف مكونات المجتمع الإسرائيلي. والنتيجة هي شبكة واسعة ومترابطة تكون فيها أجندات الكيانات العسكرية الاقتصادية متأصلة بعمق في المعتقدات الصهيونية، ما يؤثر في مجموعة واسعة من العمليات المجتمعية وعمليات صنع السياسات.

تسلط هذه المقالة الضوء على أربع ركائز أساسية تعزز نمو المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي:

1- النزعة العسكرية القومية المفرطة:

تتشابك المعتقدات المؤسِسة لإسرائيل بشكل عميق مع النزعة العسكرية والقومية، ما يخلق ميثاقاً عسكرياً متميزاً بين الدولة ومواطنيها. وهذا الرابط أكثر وضوحاً على نحو ملحوظ مما كانت عليه الحال في الدول الأُخرى التي نشأت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يضطلع الجيش الإسرائيلي بدور مركزي لا في المجالات الأمنية فحسب، بل يمتد نفوذه أيضاً إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن انتفاء الخطوط الفاصلة بوضوح بين القطاعين العسكري والمدني يتحدى التوقعات النظرية المدنية العسكرية التقليدية المتمثلة في الفصل الواضح في الأدوار والهويات.

في إسرائيل، لا يعد الجيش مجرد كيان دفاعي، بل يتصرف ويعمل بصفته مؤسسة محورية للتكامل الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية، ويؤثر في مجموعة واسعة من الجوانب المجتمعية، بما في ذلك التعليم، والعمليات القضائية، والإعلام، والمبادرات الاقتصادية، واستيعاب المهاجرين اليهود. ومثلما يقول باروخ كيمرلينغ، يمثل الجيش "المبدأ التنظيمي المركزي" الذي يتوغل عبر النسيج المجتمعي، ويشكل الهويات والقيم الجماعية.[2]  وهذه النزعة العسكرية المنتشرة ليست مجرد مرحلة عابرة، بل هي اعتقاد متأصل في العمق لدى أغلبية اليهود الإسرائيليين، ما يظهر أن النزعة العسكرية هي إحدى الأيديولوجيات الأساسية.[3]  وليس مستغرباً أن تكون إسرائيل هي الدولة الأكثر عسكرة في العالم.[4]

في إسرائيل، يعد التشابك عميقاً بين النزعة العسكرية والتعليم والأوساط الأكاديمية، إذ تعمل المؤسسات التعليمية على تعزيز المعايير العسكرية في سن مبكرة. ويتجلى ذلك في الطريقة التي تشارك فيها الجامعات على نحو نشيط في تطوير التكنولوجيا العسكرية ورعاية المواهب التي يتم توجيهها إلى قطاع الدفاع. وهذا ما تجسدُهُ برامج النخبة، مثل تلبيوت وهفاتسالوت (الزنابق)، من خلال تزويد الطلاب بالمهارات اللازمة لتولي أدوار في مؤسسات التكنولوجيا العسكرية والأمنية، وبالتالي تعزيز اقتصاد البلاد الحربي.

ويشكل قطاع التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلي، المتأثر إلى حد كبير بحاضنات الابتكار العسكري، حجر الزاوية في الاقتصاد الوطني، ويساهم بنسبة 18.1% في الناتج المحلي الإجمالي ويوظف نحو 14% من القوى العاملة.[5]  ويعتمد نمو هذا القطاع إلى حد كبير على تآزره مع المؤسسة العسكرية، من خلال العقود الحكومية، والمبادرات التعاونية، والاستثمارات التي تجتذبها قدرات الاستخدام المزدوج التي تتمتع بها هذه التكنولوجيا. وقد عززت مثل أوجه التعاون هذه نظام أعمال ديناميكياً للتكنولوجيا الفائقة حافلاً بالشركات الناشئة والشركات العسكرية والأمنية.

2 - الرعاية العسكرية الأميركية:

يمكن وصف العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل أساسي في إطار العلاقة بين الراعي والعميل، وفيه تنحاز إسرائيل إلى الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط في مقابل الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي الكبير الذي تتلقاه، وهو ما يؤدي إلى إنشاء وصاية متبادلة تحت-إمبريالية.

وفي صلب هذا التحالف تندرج المساعدة المالية التي تقدمها الولايات المتحدة، وتُعدُّ أساسية في تطوير القدرات العسكرية الإسرائيلية. ففي الفترة 1949 - 2022، حصلت إسرائيل على أكثر من 158 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأميركية. ويؤدي هذا الدعم المالي دوراً حاسماً في مخصصات ميزانية إسرائيل، ويمثل 3% من إجمالي ميزانية الدولة، ونحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي، و20% من نفقات الدفاع، و40% من ميزانية جيشها، والأغلبية العظمى من نفقات المشتريات. والجدير بالذكر أن هذه المساعدات تميل إلى الارتفاع خلال فترات الصراع، كما حدث خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحرب عام 2023 في غزة، ما يسلط الضوء على استجابتها للتحديات الأمنية التي تواجهها إسرائيل. وتُصرف المساعدات على نحو أساسي من خلال برنامج التمويل العسكري الأجنبي (FMF)، والمشاريع التعاونية التي تمولها وزارة الدفاع الأميركية. ومن السمات المميزة للمساعدات الأميركية لإسرائيل السماح باستخدام 25% إلى 30% من هذه الأموال في شراء الأسلحة محلياً، وهو ما يختلف عن الشرط المعتاد الذي يُلزم المستفيدين بشراء السلع العسكرية الأميركية الصنع حصرياً.

ويسلط تقرير صادر عن الكونغرس الضوء على التأثير الكبير لهذه المساعدة في الجيش الإسرائيلي، والتغيير الجوهري الناجم عنها، والتي بدونها لن يكون من الممكن له حيازة ترسانة عسكرية متقدمة.[6]  ويرتكز هذا الدعم في الأساس على التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل على خصومها الإقليميين، وهو ما يضمن استمرار تفوقها العسكري.

بدأت الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل عند إنشاء إسرائيل في عام 1948، لكن التحولات الجيوسياسية التي أعقبت حرب عام 1967 هي التي أدت إلى تكثيف التحالف بينهما إلى حد كبير. واعترافاً بإسرائيل، باعتبارها حصناً حاسماً في وجه صعود القومية العربية والنفوذ السوفياتي، كثفت إدارة نيكسون الدعم الأميركي، كما يتضح من الزيادة الكبيرة في المساعدات العسكرية من 360 مليون دولار في عام 1968 إلى نحو 2.2 مليار دولار بحلول عام 1973، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 800%، على أعتاب الحرب العربية الإسرائيلية.

وتعززت العلاقة أكثر في ظل إدارة ريغان التي صنفت إسرائيل على أنها "حليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)"، وهي خطوة عززت التعاون العسكري والتكنولوجي بين البلدين. وتميزت هذه الحقبة باستثمارات أميركية ملحوظة في القدرات الدفاعية الإسرائيلية من خلال جهود البحث والتطوير التعاونية، ما أدى إلى اندماج إسرائيل في التكنولوجيا العسكرية الأميركية واعتمادها عليها. ويُسلَّط الضوء على هذا الاعتماد من خلال مشاريع دفاعية مهمة مثل نظام صواريخ آرو، وطائرة لافي، ودبابة ميركافا، ونظام القبة الحديدية، وهي إمّا تضمنت مكونات أميركية، وإمّا طُوِّرت على نحو مشترك مع ضخ مبالغ مالية أميركية كبيرة.

وفي عام 2016، رفعت إدارة أوباما المساعدات العسكرية الأميركية إلى مستوى جديد من خلال اتفاق أدى إلى زيادة حزمة المساعدات السنوية لإسرائيل من 3.1 مليار دولار إلى 3.8 مليار دولار للفترة 2019-2028، ليصل إجماليها إلى 38 مليار دولار، ما جعلها أكبر التزام بتقديم مساعدات عسكرية بهذا الحجم على مستوى ثنائي في تاريخ الولايات المتحدة. وشكل هذا الاتفاق أكثر من 20% من ميزانية الدفاع الإسرائيلية.

لقد ساعد الاعتماد العميق على التكنولوجيا العسكرية الأميركية إلى حد كبير على إعطاء ميزة تنافسية لشركات الدفاع الإسرائيلية، ووضعها في المقام الأول بصفة مقاولين من الباطن في إنتاج المكونات المتخصصة للأنظمة الأميركية. وتشمل هذه التطورات في نظام تحديد المواقع والملاحة، والتدريب بالمحاكاة، والتقنيات البصرية، وتدابير الأمن السيبراني. وتؤكد هذه الديناميكية العلاقة التي يحدد فيها مقاولو الدفاع الأميركيون شروط الاشتباك إلى حد كبير، ما يوضح دور إسرائيل كمشارك ثانوي داخل المجمع الصناعي العسكري الأميركي الواسع.

3- تحويل فلسطين إلى مختبر:

أثبتت إسرائيل أهميتها في تطوير التكنولوجيات العسكرية المتقدمة وتوزيعها، مستفيدة من خبراتها العملياتية في غزة والضفة الغربية ولبنان وسورية لتسويق منتوجاتها على أساس أنها "اختُبرت في ميدان المعركة". ويشير هذا التصنيف إلى أن هذه التقنيات أثبتت فعاليتها من خلال الاستخدام القتالي الفعلي. ومع ذلك، فإن الحقيقة العارية هي أن هذه الفعالية يُبرهن عليها في أكثر الأحيان من خلال استخدام هذه التقنيات في أعمال متمادية في وحشيتها ضد السكان المدنيين إلى حد كبير.[7]

تبرز المركبات الجوية بدون طيار (UAVs) أو الطائرات بدون طيار التي باتت تُعرف بالمُسيَّرات (درونات)، كعنصر محوري في اقتصاد الحرب الإسرائيلي، إذ تعد إسرائيل قوة مهيمنة في تكنولوجيا المُسيَّرات وتستحوذ على أكثر من 60% من صادرات هذه المُسيَّرات في جميع أنحاء العالم اعتباراً من عام 2017.[8]

يعتمد التقدم والتحسين في تكنولوجيا المُسيَّرات الإسرائيلية بشكل كبير على انتشارها العملياتي في الأراضي الفلسطينية. وصارت المُسيَّرات عنصراً أساسياً في العمليات العسكرية الإسرائيلية، نظراً إلى أنها توفر لها القدرة على مراقبة غزة باستمرار. إن استخدام المُسيَّرات في الحروب ضد غزة يجري على نحو وحشي وعدواني، ما يؤدي إلى سلسلة من الهجمات المستهدفة، والضربات الصاروخية، وعمليات قتل بالجملة خارج نطاق القانون. وقد أدت هذه العمليات إلى خسائر في أرواح المدنيين وتدمير البنية التحتية المدنية على نطاق واسع.

وتخدم غزة غرضاً مزدوجاً في إطار المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي، فهي تحوّل أعمال العدوان الاستعماري إلى فرص للاختبار التشغيلي والعرض التجاري؛ فمن ناحية، برزت غزة كمختبر في الهواء الطلق لحرب المُسيَّرات ممهدة الطريق للتجربة السياسية الحيوية للتكنولوجيات الفتاكة الجديدة. ويلقي هذا الوضع بظلال قاتمة على تحويل مثل هذه التقنيات إلى سلعة، والمتجذر في ممارسات لا تمت بصلة إلى "الضرورة العسكرية" بل ترتبط بوحشية عديمة الرحمة. ومن ناحية أُخرى، توفر غزة خلفية واقعية لشركات الدفاع الإسرائيلية لعرض تقدمها التكنولوجي، ما يحوّل القطاع الفلسطيني المحاصر فعلياً إلى منصات تسويق للمعدات العسكرية.[9]

وفي كل هجوم عسكري إسرائيلي على غزة في الفترة من عام 2008 إلى عام 2023، كانت المُسيَّرات محورية في استراتيجيتها، وكانت نماذج من هذه المُسيَّرات، مثل هيرميس من شركة إلبيت سيستمز، وهيرون إيتان من الصناعات الجوية الإسرائيلية، المجهزة بميزات متقدمة مثل صواريخ سبايك ذاتية التوجيه، أساسية في هذه الهجمات. وكان كل هجوم على غزة بمثابة ساحة اختبار ومنصة تطوير لهذه المُسيَّرات، ما أدى إلى تحسينها وبيعها على نطاق تجاري.

تجارة الأسلحة كأداة للتطبيع

خلال السنوات الأخيرة، طرحت إسرائيل نفسها لاعباً مهماً في سوق الأسلحة العالمي مع توجيه 70% إلى 80% من إنتاجها العسكري نحو العملاء الدوليين. ويعد هذا الجانب التجاري محورياً في نظر إسرائيل، إذ تشكل صادرات الأسلحة نحو 25% من إجمالي إيرادات الصادرات الصناعية، وهذا يوضح الأهمية الحيوية للمبيعات العسكرية في استراتيجياتها الاقتصادية والتجارية. وخلال الفترة من عام 2014 إلى عام 2018، احتلت إسرائيل المرتبة الثامنة بين أكبر موردي الأسلحة على مستوى العالم، فساهمت بنسبة 3.1% من تجارة الأسلحة العالمية.[10]

وشهدت مبيعات الأسلحة الإسرائيلية نمواً ملحوظاً، وخصوصاً بعد اتفاقيات أبراهام عام 2020 التي فتحت أمامها فرصاً في أسواق دول عربية جديدة. وشهدت هذه الفترة ارتفاع الصادرات العسكرية الإسرائيلية إلى مستويات غير مسبوقة لتصل إيراداتها إلى 11.3 مليار دولار في عام 2021، وترتفع أكثر إلى 12.5 مليار دولار في عام 2022. ويُعزى جزء كبير من هذه الإيرادات إلى المبيعات في الدول العربية.[11]

ومع ذلك، فإن أهمية صادرات إسرائيل من الأسلحة تتجاوز مجرد المكاسب المالية، فهي تضطلع بدور حاسم في مواقفها وتوجهاتها الاستراتيجية الدولية وسياستها الخارجية. وتستغل إسرائيل، مبيعات الأسلحة التي يُطلق عليها اسم "دبلوماسية الأسلحة" لتحقيق هدفين رئيسيين، هما: تشجيع تطبيع العلاقات وتعزيز التحالفات.

أولاً، تشكل صادرات الأسلحة وسيلة استراتيجية لإسرائيل لتوسيع بصمتها الدبلوماسية العالمية، وخصوصاً مع الدول التي امتنعت تاريخياً من إقامة علاقات دبلوماسية رسمية معها. ومن الأمثلة الحديثة لهذا الاستخدام الاستراتيجي للصادرات العسكرية تعميق العلاقات بين إسرائيل وبعض دول الخليج العربية، وهي العلاقة التي انتقلت من التفاعلات السرية إلى التحالفات الرسمية بموجب اتفاقيات أبراهام. وسهلت هذه الاتفاقيات مستوى غير مسبوق من التعاون العسكري والأمني، إذ قامت إسرائيل بنقل تقنيات عسكرية وأمنية تبلغ قيمتها نحو 3 مليارات دولار إلى الإمارات والبحرين.[12]  ويمثل هذا التطور إعادة اصطفاف كبيرة في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، إذ تستفيد إسرائيل من قدراتها الدفاعية لإقامة علاقات دبلوماسية وتوسيع نفوذها في جميع أنحاء المنطقة.

ثانياً، تستخدم إسرائيل على نحو استراتيجي صادرات الأسلحة لدعم الأنظمة التي هي إمّا حليفة لها وإمّا تتقاسم مصالح استراتيجية مشتركة معها، وخصوصاً تلك التي تواجه اضطرابات داخلية أو هجوماً خارجياً. ولهذا النهج أسبقية تاريخية؛ فخلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كانت إسرائيل المورّد الرئيسي للمعدات العسكرية للحكومات العسكرية في أميركا اللاتينية والوسطى، حيث قدمت دعماً كبيراً لأنظمة كانت في أكثر الأحيان تمارس ممارسات قمعية.[13]  وخارج الأميركيتين، امتد التعاون العسكري الإسرائيلي إلى أنظمة مثيرة للجدل مثل جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، مع عروض شملت بيع القدرة على حيازة الأسلحة النووية. وتؤكد هذه الإجراءات استخدام إسرائيل للصادرات العسكرية ليس فقط بصفتها معاملات اقتصادية، بل كأدوات للاستراتيجية الجيوسياسية، ودعم الأنظمة التي تخدم مصالحها الأمنية الأوسع، حتى في الحالات التي ساهم فيها هذا الدعم في إدامة انتهاكات حقوق الإنسان. ومن خلال هذه الصادرات، لا تعمل إسرائيل على ترسيخ تحالفاتها القائمة فحسب، بل تسعى أيضاً إلى التأثير في ديناميكيات الأمن الإقليمي والعالمي لمصلحتها. وفي الحقبة التي تلت الحرب الباردة، وجدت إسرائيل صادراتها الدفاعية متشابكة مع مختلف الأزمات الدولية ووجهت لها اتهامات بتسهيل جرائم الحرب. ومن الجدير بالذكر أنه خلال الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، اتُهمت شركات الدفاع الإسرائيلية بتزويد الفصائل المسؤولة عن عمليات القتل الجماعي للتوتسي بالمعدات العسكرية - بما في ذلك أنظمة الرادار والمركبات والأسلحة النارية. وظهرت حالات مماثلة في عام 2013 في السودان، حين أفادت تقارير أن الأسلحة الإسرائيلية كانت في أيدي ميليشيات جنوب السودان المتورطة في تصفية المدنيين وتدمير القرى. وتجسّد محنة أقلية الروهينغا في ميانمار خلال الفترة 2016-2017 هذا الاتجاه، فجيش ميانمار يستخدم الأسلحة النارية والذخائر الإسرائيلية في عملياته. بالإضافة إلى ذلك، يمتد تصدير إسرائيل للتكنولوجيا العسكرية إلى عالم المراقبة والتحكم الرقمي، مع أدوات التجسس السيبراني التي طورتها إسرائيل، مثل برنامج بيغاسوس، التي تجد طريقها إلى أنظمة ذات سجلات مشكوك فيها في مجال حقوق الإنسان. وقد استخدمت أنظمة عربية، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، هذه التقنيات لمراقبة المعارضة وقمعها داخل حدودها وبين الجوالي الأجنبية.

خاتمة

إن أحداث الإبادة الجماعية في غزة هي مجرد تذكير بدائرة العنف والقمع الراسخة المتأصلة في المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. إن هذا الهجوم الأخير ليس حادثاً معزولاً، بل يمثل جزءاً من سلسلة من الأحداث التاريخية المتواصلة التي يعود تاريخها إلى نكبة عام 1948، واستمرت طوال العقود اللاحقة من الصراع والعنف الموجه ضد السكان الفلسطينيين. ويدعم هذا النمط من العدوان الدور الحاسم الذي يؤديه المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي، وهو جهاز متعدد الأوجه لا يسهِّل إدامة الاستعمار الاستيطاني فحسب، بل يستفيد منه أيضاً.

إن الآثار البعيدة المدى للمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي تمتد إلى ما هو أبعد من السياق المباشر لفلسطين. وتطرح تأثيراته المزعزعة للاستقرار تهديدات خطرة للسلام والأمن في المنطقة والعالم، وتتحدى بشكل أساسي مبادئ تقرير المصير والعدالة المنصوص عليها في القانون الدولي. وعلى هذا النحو، فإن رد المجتمع الدولي على الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والآليات التي يشن من خلالها القمع والحرب يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة ومنسقة متعددة الأطراف لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.

 

[1] Y. Abraham, “‘A mass assassination factory’: Inside Israel’s calculated bombing of Gaza”, +972 Magazine, 30/11/2023. 

[2] B. Kimmerling, “Patterns of militarism in Israel”, European Journal of Sociology/Archives Européennes de Sociologie, vol. 34, no. 2, pp. 196-223 (1993).

[3] H. Bresheeth-Zabner, An Army Like No Other: How the Israel Defense Forces Made a Nation, Verso Books, 2020.

[4] Global Militarization Index, BICC (2021).

[5]Israel Innovation Authority”, The state of high-tech (Annual report, 2023).

[6] J. M Sharp, “U.S. Foreign Aid to Israel”, Congressional Research Service, 16/11/2020.

[7] A. Loewenstein, The Palestine Laboratory: How Israel Exports the Technology of Occupation Around the World. Verso Books, 2023.

[8] Royal United Services Institute (RUSI), “Armed Drones in the Middle East”.

[9]T. Dana, “A cruel innovation: Israeli experiments on Gaza’s great march of return”, Sociology of Islam, vol. 8, no. 2, pp. 175-198 (2020).

[10] Pieter D.Wezeman, Aude Fleurant, Alexandra Kuimova, Nan Tian, and Siemon T. Wezeman, “Trends in International Arms Transfer, 2018”, SIPRI Fact Sheet (March 2019).

[11]Israel reports record $12.5 billion defence exports, 24% of them to Arab partners”, Reuters, 13/6/2023.

[12] Abdelraouf Arna'out, “Israel signs $3 billion arms deals since normalization accords”, Anadolu Agency, 7/7/2022.

[13] Bishara Bahbah and Linda Butler, Israel and Latin America: The Military Connection, London: Palgrave Macmillan, 1986.

1
À PROPOS DE L’AUTEUR:: 

طارق دعنا: أستاذ مشارك في دراسات الصراع والدراسات الإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا، ومستشار السياسات في شبكة السياسات الفلسطينية (الشبكة).