مقدمة
مع السابع من أكتوبر، بدت الضغوط الدولية والإسرائيلية كبيرة على السلطة الوطنية لإعلان إدانة علنية ومباشرة لهجوم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وعمليتها في محيط قطاع غزة "طوفان الأقصى"، وجاءت هذه الضغوط كمحاولة هدفت، إسرائيلياً، إلى عزل "حماس" وتجذير "دعشنتها"، بينما هدفت، دولياً، إلى ضم السلطة إلى ائتلاف لـ "مكافحة الإرهاب" عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل واضح خلال زيارته "التضامنية" مع إسرائيل في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2023.[1] وتمثلت هذه الضغوط في التلويح بوقف المساعدات، وخصوصاً أوروبياً، إذ هدد العديد من الدول الأوروبية بوقف المساعدات إن لم تصدر إدانة واضحة من قبل السلطة، وأشار عدة مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، أبرزهم منسق السياسة الخارجية جوزيف بوريل ومفوض شؤون التوسع والجوار أوليفر فارهيلي، إلى مراجعة سياسات الدعم للسلطة الوطنية، مع تسريبات بتجميدها.[2]
في المقابل، حاولت إسرائيل استثمار عدم إدانة السابع من أكتوبر، وبنت عدة خطوات متتابعة لتهشيم السلطة وإنهاكها، وهو سلوك ممنهج عكفت عليه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خلال حقبة بنيامين نتنياهو الطويلة؛ فأشار وزيرا الأمن القومي والمالية الإسرائيليان، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، إلى أن السلطة الفلسطينية و"حماس" وجهان لعملة واحدة؛ ففي 17 كانون الأول/ديسمبر 2023، أعلن سموتريتش، من مستوطنة بسغوت على أطراف رام الله، أنه "لن يتم تحويل أي شيكل للسلطة...إذا ظن أحد أننا سنحول شيكلاً للنازيين في رام الله ليحولوه للنازيين في غزة فهو لا يعرف أين يسكن."[3]
في سياق هذا الضغط والحصار على قطاع غزة، وفي سياق حالة الهشاشة المتراكمة التي فرضت نفسها على بنية وقدرات السلطة الوطنية، جاء دورها محدوداً في بناء استجابات سياساتية للحرب على القطاع. لكن الحرب طرحت على الطاولة من جديد سؤال تشابكات السلطة والكيانية السياسية والمشروع الوطني، وخصوصاً مع نقاش "اليوم التالي".
يمكن تأطير فعل وفاعلية السلطة في هذه الحرب في ثلاثة أسئلة مركزية: سؤال المواقف وتحولاتها؛ سؤال الفعل ومساحاته؛ سؤال المستقبل والأدوار.
ففي سؤال المواقف وتحولاتها، من المهم رصد مواقف السلطة الوطنية، ومرتكزاتها، وأثرها، وتحولاتها. إن هذه المساحة سياسية، ترتبط بالأساس بتعريف السلطة وموقعها من منظمة التحرير - أو موقع المنظمة منها - ومساحتها الكيانية في ظل تمظهراتها الدولانية، وخصوصاً أن السلطة الوطنية اليوم، ليست هي السلطة التي أفرزتها اتفاقيات أوسلو ولا تحكم بضوابط الاتفاق، وإنما هي سلطة فرضتها تداعيات الأمر الواقع بعد سقوط مسار أوسلو عملياً. وفي ظل حكومة اليمين الإسرائيلي الحالية، تصاعد الضغط على السلطة لإفراغها مما تبقى من مساحتها "الكيانية" لصالح تقييد وظيفي مهندَس، ويخدم المشروع الاستعماري، ببعده الاستيطاني، في الضفة الغربية.
من هنا، يبرز سؤال الفعل ومساحاته، بناء على ثلاثة محددات أساسية: هوامش العمل المفروضة؛ الإرادة السياسية الذاتية للتغيير؛ المواقف الإقليمية والدولية. وهي محددات تنسحب أيضاً على سؤال المستقبل، في ظل رغبة الإقليم المعلنة في الخروج النهائي من مقاربة "إدارة الصراع" إلى "حل الصراع" بشكل جذري.
السلطة الوطنية: انكماش وتعريف ملتبس
تراكمت خلال العقود الثلاثة الماضية، التباسات التعريف والدور والمفهوم للسلطة الوطنية، وهي التباسات غير معزولة عن أزمة المشروع الوطني على مستوياته كافة، وهذا ما قاد إلى حوار من منطلقَين: الأول يرى في السلطة عائقاً أمام مشروع تحرر وطني جامع وشامل، والثاني يرى فيها مكتسباً وطنياً يشكل نواة للدولة الفلسطينية لا يمكن التفريط به.
وعلى الرغم من أن السلطة جاءت، وفق رؤية منظمة التحرير، كنواة للكيانية الفلسطينية والتي كان من المفترض أن تتحول إلى دولة مع انتهاء المرحلة الانتقالية عام 1999، فإن خروج إسرائيل عن الاتفاقيات وعدم التزامها بالمسار الانتقالي أدى إلى فشل ذلك، ما قاد إلى الانتفاضة الثانية التي فرضت مخرجاتها شكل السلطة المتجدد، وفق خريطة الطريق، وهذا ما قاد إلى حكم ذاتي محدود، لا يحمل أعباء ديموغرافية على إسرائيل.[4]
وعلى الرغم من التفاؤل الذي ساد في إبان الانتخابات التشريعية عام 2006، كمحطة لتجديد دماء النظام السياسي الفلسطيني، فإن الانقسام قاد إلى تشويه السلطة الوطنية بشكل خاص، وحصر ولايتها -المحدودة- في الضفة الغربية فقط، وهذا ما تواكب مع إدارة عملها وفق الأمر الواقع، في ظل غياب أي مسار سياسي.
وبالتدريج، انتزع الاحتلال أدوات السلطة، ووقف أمام تمكينها من ممارسة أدوارها الخدماتية – المقيدة أصلاً- من خلال تجفيف الموارد المالية وملاحقة المؤسسات الخدماتية -وخصوصاً في المناطق المصنفة ج- ومحاولة حصر دورها بالدور الأمني فقط، ما يقود إلى رأي فلسطيني جامع بأن وجود السلطة بهذا الشكل الذي تريده إسرائيل، كسلطة أمنية إدارية، مرفوض بشكل كامل، وهذا ما أكده رئيس الوزراء محمد اشتية.[5]
في المقابل، وعلى الرغم من هذا الواقع، فإن الوظائف التي تقوم بها السلطة، من حيث إدارة الحياة العامة بكل تفاصيلها، خلقت شبكات وترابطات معقدة يقع ضمنها المواطنون المستفيدون من الخدمات والمنافع العامة في التعليم والصحة والحكم المحلي والبنى التحتية والأمن الداخلي، وأكثر من 120 ألف موظف، ومئات آلاف المستفيدين من خدمات الرعاية الاجتماعية من الفئات الأقل حظاً، والقطاع الخاص المستفيد من آليات الإدارة والتنظيم والضبط. إن هذا الواقع يجعل من خيار حل السلطة غير واقعي،[6] وإن كان ممكناً في مراحل مبكرة من عمرها، ولا سيما مع الإشارة إلى أن هكذا حل لا يعني انتقال المسؤولية بشكل تلقائي إلى الاحتلال، وإنما قد يؤدي إلى خيارات محلية تقوم على الفوضى المدروسة.
وعلى الطرف الآخر، لم يعد من الممكن بقاء السلطة بوضعها الحالي في ظل الانكماش المتدحرج في حضورها وفعلها وفاعليتها، بفعل سياسات الاحتلال من جهة، وتآكل الشرعية من جهة أُخرى. فتآكل الشرعيات تراكم مع تعطل العملية الديمقراطية لأكثر من 17 عاماً، وغياب شرعية الإنجاز التنموي في ظل انكماش الموارد، ولا سيما على مستوى الدعم الخارجي.
في أيلول/سبتمبر 2023، قدم وزير المالية شكري بشارة مجموعة مطالب للمانحين، أهمها مجابهة الاقتطاعات الإسرائيلية التي وصلت إلى حوالي 800 مليون دولار في الفترة 2019 - 2023، واستئناف الدعم المالي الذي كان بمعدل 600 مليون دولار قبل عام 2016 وشكل 25% من النفقات العامة لكنه انكمش عام 2023 ليصل إلى حوالي 1.8% من النفقات، ووقف اقتحامات وإغلاق المدن، وإعادة فتح ملف اتفاقية باريس الاقتصادية التي منحت إسرائيل السيطرة على 65% من العائدات الفلسطينية.[7]
لكن السياقات الدولية والإقليمية فاقمت أزمة السلطة الوطنية، إذ تراجع موقع الملف الفلسطيني ضمن أولويات الإقليم بعد الثورات العربية، وهذا ما امتد دولياً أيضاً. وعلى الرغم من التفاؤل الفلسطيني الرسمي بوصول الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض بعد دونالد ترامب، فإن بايدن وخلال لقائه الرئيس محمود عباس في بيت لحم في تموز/يوليو 2022، وفي إثر مطالبة عباس بجهد أميركي أكبر لإنفاذ حل الدولتين وفتح مسار تفاوضي ووقف الاستيطان ورفع الضغوط الإسرائيلية عن الحياة اليومية، قال: "هذه أشياء تحتاج إلى السيد المسيح، صانع المعجزات كي يحققها."[8] ولم تقم الإدارة بالتراجع عن الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب تجاه السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، واكتفت بالحد الأدنى من الجهد لإدارة الصراع.
المواقف وتحولاتها: السياسة أولاً
بدت السلطة الوطنية في حالة صدمة، كما الجميع، في إثر السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وكان أبرز اجتماع للقيادة الفلسطينية -التي تضم قيادة السلطة والمنظمة والفصائل- هو الذي عُقد في 18 تشرين الأول/ أكتوبر، إذ أكد المجتمعون استمرار وقف التنسيق الأمني، واتخاذ سلسلة من الخطوات الدبلوماسية والقانونية على المستوى الدولي بهدف الضغط في ثلاثة اتجاهات: وقف العدوان، وإدخال المساعدات، ومنع التهجير.[9]
يشير رئيس الوزراء محمد اشتية إلى أن العديد من الدول كانت قد اتخذت مواقف معادية للسلطة مع السابع من أكتوبر، لكنها تراجعت عن تلك المواقف بالتدريج، كما يشير إلى جهود إسرائيل لتقويض السلطة ورفض وجود عنوان فلسطيني موحد للتمثيل والتعامل السياسي.[10]
وأبرز هذه الضغوط جاءت من أوروبا التي حاولت دفع السلطة الوطنية إلى إدانة السابع من أكتوبر، رابطة الموقف الفلسطيني بملف المساعدات، إذ أشار بوريل وفارهيلي إلى مراجعات وتعليق للمساعدات الأوروبية المقدمة للسلطة، قبل التراجع عن هذه المواقف.[11]
أمّا إسرائيلياً، فقد جاءت جهود تقويض السلطة ميدانياً من خلال الاقتطاع السياسي من أموال المقاصة لمنع السلطة من تحويل الأموال إلى غزة، والاقتحامات غير المسبوقة بنطاقها وحجمها، والمواقف السياسية الإسرائيلية الرسمية، وأبرزها تصريحات وزيري الأمن القومي والمالية في الحكومة الإسرائيلية، ومن خلفهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والتي اعتبرت السلطة شريكة في أحداث السابع من أكتوبر وداعمة لها، بينما ذهب سموتريتش إلى اعتبار التحويلات المالية من السلطة إلى غزة أموالاً تنتقل من "نازيي رام الله إلى نازيي غزة."[12]
هذه الضغوط واكبها حراك دولي متصاعد حمل عنوان "السلطة المتجددة"، ما وضع السلطة أمام تحدٍ سياسي جديد. إذ اقترح الرئيس الأميركي في مقال له نُشر في "واشنطن بوست" في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تجديد السلطة لتلبي متطلبات الوصول إلى حل الدولتين،[13] وهذه رسالة حملها وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إلى المنطقة ووضعها على طاولة الرئيس عباس، مقترحاً مساراً إصلاحياً شاملاً يبدأ من تغيير مراكز الثقل في النظام السياسي الفلسطيني وتوزيعها.[14]
لكن رئيس الوزراء، ورداً على المقترح الأميركي، أشار في جلسة لمجلس الوزراء في 18 كانون الأول/ديسمبر 2023، إلى أن "السلطة المتجددة التي تريدها إسرائيل وحلفاؤها ليست سلطتنا، فهي تريد سلطة أمنية وإدارية، نحن سلطة وطنية نناضل من أجل تجسيد الدولة على الأرض، وصولاً إلى الاستقلال وإنهاء الاحتلال، إسرائيل تريد سلطة بمنهاج مدرسي متعايش مع الاحتلال، نحن منهاجنا الوطني يقول عن القدس عاصمتنا، ويتحدث عن حق العودة، وهو منسجم مع المعايير الدولية، ومبني على العلم والتعلم، ويعكس تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا، إسرائيل تريد سلطة تتخلى عن المعتقلين والشهداء، ونحن نقول هؤلاء أولادنا ونحن حكومة مسؤولة عن أبناء الشهداء والمعتقلين، وهم ضمير الحركة الوطنية الفلسطينية."[15]
في المقابل، أطلق رئيس الحكومة في نهاية كانون الثاني/يناير 2024، برنامج إصلاح واسعاً يتكون من 25 بنداً، شمل قطاعات أمنية وإدارية وقضائية ومالية. مشيراً إلى أن البرنامج جاء "لكي لا يكون الحديث عن الإصلاح شماعةً لفشل المجتمع الدولي في الوصول إلى إنهاء الاحتلال، ولكن من جانب آخر سوف نقوم بكل ما فيه مصلحة لشعبنا العظيم."[16]
بالتوازي، تسارع مسار المفاوضات الفلسطينية - الفلسطينية لتشكيل حكومة وحدة وطنية من الكفاءات، فمع مطلع شباط/ فبراير 2024، أشار أمين سر اللجنة المركزية لحركة "فتح" جبريل الرجوب، بعد لقائه رئيس المكتب السياسي لـ "حماس" إسماعيل هنية، إلى توافق بين الحركتين بشأن مبدأ تشكيل حكومة وفاق وطني من الكفاءات، وهو ما كان أحد ملفات نقاش الرئيس محمود عباس خلال زيارته للدوحة ولقائه أمير قطر تميم بن حمد في شباط/فبراير 2024.[17]
الفعل والفاعلية
أدى الانكماش بمساحات عمل السلطة الوطنية، أمنياً واقتصادياً وإغاثياً وخدماتياً، إلى تراجع الثقة فيها شعبياً، فوفق استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية لم تتجاوز نسبة الرضا عن دور السلطة الفلسطينية في الحرب 14%.[18] وما فاقم عدم الرضا هو سياسات السلطة واستجاباتها في المجالات الثلاثة:
على المستوى الأمني، قامت الأجهزة الأمنية بالعمل على تضييق الفضاء العام في الأسابيع الأولى للحرب، وكانت ذروة هذا التضييق يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر، حين تم تفريق تظاهرة في رام الله بالقوة، كانت قد خرجت للتنديد بمجزرة المعمداني، وهو سلوك امتد إلى عدد من المدن الأُخرى في الضفة، أبرزها جنين، وأدى إلى مقتل شاب، وإلى وقوع عدد من الإصابات والاعتقالات في رام الله.[19] وقد برر الناطق باسم الأجهزة الأمنية استخدام القوة بقيام عدد من المتظاهرين بأعمال تخريب للأملاك العامة وإطلاق نار على مقار الأجهزة الأمنية في عدد من المدن.[20]
ومع استمرار الحرب، تراجع الاستقطاب في الشارع في ظل تجنب الأجهزة الأمنية تكرار تجربة 17 أكتوبر، وأيضاً في ظل تراجع الشارع ذاته. لكن أزمة الثقة بين المؤسسة الأمنية والشارع لم تتراجع، كونها أزمة متراكمة، كما أن العديد من عواملها لا تزال قائمة، وأهمها التباس وظيفة الجهاز الأمني في ظل تحولات السلطة وواقعها ومحددات عملها.
اقتصادياً، واجهت السلطة الوطنية صدمة مركبة، تمثلت في انقطاع أهم موردَي سيولة نقدية للاقتصاد الفلسطيني، وهما أموال المقاصة وأجور العاملين في السوق الإسرائيلي، وهو واقع قاد إلى تفاقم البطالة بفقدان حوالي 208 آلاف عامل وظائفهم مع الشهر الأول للحرب، وخسائر بمعدل 15% من الناتج المحلي الإجمالي،[21] وهو ما قاد أيضاً إلى أن تصبح إيرادات الحكومة 20-30% مما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر.[22]
ساهم هذا الواقع الاقتصادي في مفاقمة أزمة السلطة الوطنية فيما يتعلق ببناء سياسات استجابة فاعلة، فلم تقدم برامج حماية للفئات المتضررة اقتصادياً، ولم تتمكن من بناء تدخلات فاعلة في قطاع غزة، كما أنها لم تتمكن من مواجهة تداعيات أزمة انقطاع الرواتب، وأهمها تراجع قدرة الموظفين العموميين، بمن فيهم المعلمون، على تقديم الخدمات بشكل اعتيادي، وتصاعد الإضرابات في القطاع الصحي.
ماذا بعد؟
إن هذه التراكمات قادت إلى واقع شديد الالتباس والتقييد يحيط بالسلطة الوطنية، إذ تجد السلطة نفسها، من جهة، عاجزة عن إنفاذ برامجها وتدخلاتها السياساتية، ومن جهة أُخرى غير قادرة على المضي قدماً في مشروع الدولة.
وبعد السابع من أكتوبر، وفي ظل تصاعد الحديث الأميركي- الغربي عن سلطة متجددة، وعن واقع السلطة الوطنية، البنيوي والوظيفي، برز ومنذ الأسابيع الأولى سؤال عن عودة السلطة إلى الحكم في قطاع غزة، وهل هي قادرة على ذلك في ظل تحديات الموقف الإسرائيلي والواقع الميداني، وانكماش القدرات والأدوات، ومستويات الشعبية المتراجعة؟
من وجهة نظر السلطة الوطنية، فإن هذه السلطة لم تغادر غزة، بحسب رئيس الوزراء محمد اشتية، الذي يقول: "لم نترك قطاع غزة يوماً، اليوم لدى السلطة الوطنية في قطاع غزة 50 ألف موظف، من بينهم رجال الأمن الذين توقفوا عن العمل، ولكن هناك من يعمل من الأطباء والمعلمين وموظفي الدولة، بالإضافة إلى إدارة تفاصيل الحياة اليومية في قطاع غزة من ماء وكهرباء وغيرها، و35% من موازنة الحكومة تذهب لقطاع غزة رغم أنه ليس هناك إيرادات منها." لكنه في المقابل، وبما يبدو تناقضاً، يعتبر اشتية أن العودة إلى قطاع غزة محكومة بتوافق وطني وانتخابات عامة.[23]
من المهم هنا تسجيل متطلبَين أساسيَّين، أولهما أن عودة السلطة إلى القطاع تتطلب، حكماً، إعادة تعريف السلطة، بنية ووظيفة، على قواعد جامعة وتوافقية تسمح لها بالعمل الفاعل في النطاق الفلسطيني، أمّا المتطلب الثاني فهو إقليمي ودولي، ذلك بأن السلطة اليوم لا تستطيع أن تحضر في قطاع غزة في لحظة انتهاء الحرب بدون مسار سياسي إقليمي ودولي يصاحبه برنامج وازن لإعادة الإعمار.
وبهذا المعنى، فإن حكومة وحدة وطنية، أو حكومة كفاءات متوافق عليها، تشكل استجابة جزئية لتحدي إنهاء الانقسام ومواجهة المشروع الأمني الإسرائيلي لقطاع غزة، لكنها تبقى حلولاً موقتة لا تعني عودة كاملة للسلطة إلى القطاع، أو تقديم برنامج مواجهة شامل للمشروع الصهيوني المعد ضد القطاع. فقد شهدت سنوات الانقسام الـ 17 الماضية، عدة تجارب لإنشاء حكومات وحدة وطنية من الكفاءات، لكنها رسبت أمام اختبارات السياسة الفلسطينية.
وبما أن مستقبل السلطة محكوم بمآلات هذه الحرب، وتفاعلات إسرائيل والإقليم والعالم مع تلك المآلات، فإن غياب الرؤية الفلسطينية المسبقة والجامعة يزيد من التحديات التي تواجهها السلطة؛ ففي حين تصر إسرائيل على سلطة فلسطينية ذات مهمات أمنية، وعديمة السيادة، وذات دور خدماتي بسقف سياسي محدود، بدأ الإقليم والمجتمع الدولي، وضمنهم الولايات المتحدة، بالحديث عن الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة.
لكن هذا الطرح الإقليمي والدولي، الذي يشير إلى خطوات ملموسة تبدأ بهذا الاعتراف كمدخل لمسار سياسي جديد من المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، هو مسار محفوف بالمخاطر، كونه يعيد إنتاج مسار التسوية الذي فشل وقاد إلى حالة الهشاشة التي تعاني منها السلطة، ولا يخرج من مقاربة "إدارة الصراع". كما أن مساراً كهذا يبدأ بالاعتراف بدولة فلسطينية، يذيب منظمة التحرير كشرعية جامعة، ويختزل الكيانية الفلسطينية بالدولة المفترضة من دون إنجازها على الأرض.
لقد تجلى فخ إدارة السلطات في وظائف السلطة بعد السابع من أكتوبر، إذ أدت تحولات الدعم الدولي وبرامجه، وبنية السلطة الوطنية وبرامجها، إلى تحويل الصمود من وسيلة لتحقيق الحرية والاستقلال، إلى هدف بحد ذاته. ومع تمثل الصمود هنا في توفير الموارد المالية للقطاعات الحيوية، وتوفير الرواتب كمدخلات سيولة مركزية تحرك الدورة الاقتصادية، فشلت السلطة في تحقيق ذلك في ظل الأزمات المركبة بعد السابع من أكتوبر. إذ تحول التعليم، على سبيل المثال، مع اقتطاعات المقاصة وتجفيف الموارد المالية، إلى حده الأدنى (تعليم إلكتروني)، وتراجعت الخدمات العامة وقُننت بشكل كبير، ما جعل السلطة الوطنية عاجزة عن تقديم خدماتها أو معالجة آثار العدوان، حتى في الضفة الغربية، حيث يدمر الاحتلال البنى التحتية بشكل دوري في شمال الضفة، في مدن جنين ونابلس وطولكرم، من دون أن تتدخل الحكومة في أي برامج إغاثية ترميمية.
من هنا، من المهم، وفي خضم الحديث عن اليوم التالي ومستقبل السلطة، بناء تصور وطني جامع لفكرة "تجديد" السلطة، تأخذ بعين الاعتبار عدة محددات على النحو التالي:
-
إن البناء السياسي الفلسطيني المركزي هو منظمة التحرير، لا السلطة الوطنية، وعليه يجب إعادة موضعة كل من البنيتين في موضعهما الصحيح.
-
إن السلطة الوطنية جسم خدماتي إداري محدد بالأراضي المحتلة عام 1967، لا يمكن اختزال الكيانية السياسية فيه، لكنه يشكل قاعدة ارتكاز مهمة لهذه الكيانية المؤطرة في منظمة التحرير.
-
بإعادة تعريف السلطة وظيفياً، تتحرر السلطة من الدور السياسي المناط بمنظمة التحرير، لكنها تبقى تحت قواعد ونواظم ومحددات عمل المنظمة.
-
إن إعادة تعريف السلطة يعني إعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال، وإعادة تعريف الاقتصاد وهياكله وبناه، وبناء أولويات وطنية في مؤسسات المنظمة التي تشكل السلطة واحدة منها.
[1] نومي أوليف وميشيل روز، "ماكرون يقترح تحالفا دوليا لمحاربة حماس"، "سويس إنفو"، 24/10/2023.
[2] "الرئيس يتعرض لضغوطات.. أوروبا تراجع موضوع المساعدات للسلطة والاحتلال يلوح بإجراءات عقابية ضدها"، "وطن"، 10/10/2023.
[3] "سموتريتش: لن نحوّل شيقلا لـʾالنازيينʿ في رام الله وغزة"، "بي نيوز"، 18/12/2023.
[4] علي الجرباوي، "السلطة الفلسطينية ومشروع التحرر الوطني"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 106 (ربيع 2016)، ص 22-33.
[5] "اشتية: إسرائيل تريدنا سلطة أمنية ونحن لسنا على مقاس أحد"، "الجزيرة"، 18/12/2023.
[6] "خيار حلّ السلطة الفلسطينية: إمكانية اعتماده وتداعياته"، مركز الجزيرة للدراسات، 9/1/2011.
[7] "هذه مطالب الحكومة الفلسطينية من اجتماع المانحين"، "المنقبون"، 21/9/2023.
[8] محمد دراغمة، "بايدن للرئيس الفلسطيني خلال زيارة الضفة: مطالبك تحتاج ʾالمسيحʿ لتحقيقها"، "الشرق نيوز"، 21/7/2022.
[9] "برئاسة الرئيس: القيادة الفلسطينية تعقد اجتماعاً وتتخذ قرارات لمواجهة العدوان الإسرائيلي على شعبنا"، وكالة "وفا"، 18/10/2023.
[10] "محمد اشتية، عن غزة والعدوان على الشعب الفلسطيني"، مجلة "شؤون فلسطينية"، العدد 293 (خريف 2023)، ص 9-16.
[11] "الرئيس يتعرض لضغوطات...."، مصدر سبق ذكره.
[12] زين خليل، "بن غفير: السلطة الفلسطينية حليفة لـʾحماسʿ ولا تستحق شيكلاً"، وكالة الأناضول، 1/11/2023.
[13] Joe Biden, “The U.S. won’t back down from the challenge of Putin and Hamas”, The Washington Post, 18/11/2023.
[14] "الوزير أنتوني ج. بلينكن في مؤتمر صحفي"، وزارة الخارجية الأميركية - مكتب المتحدث باسم وزارة الخارجية، 30/11/2023.
[15] جلسة مجلس الوزراء رقم (235)، الموقع الرسمي لمجس الوزراء - دولة فلسطين، 18/12/2023.
[16] جلسة مجلس الوزراء رقم (241)، موقع مجلس الوزراء - دولة فلسطين، 29/1/2024.
[17] محمد دراغمة، "جبريل الرجوب لـʾالشرقʿ: توافقات بين فتح وحماس بشأن تشكيل حكومة"، 6/2/2024.
[18] "استطلاع الرأي العام رقم 90"، المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 13/12/2023.
[19] "مظاهرة حاشدة في رام الله تنديداً بمجزرة المستشفى المعمداني.. وقوى الأمن تواجهها بالقوة"، "عربي بوست"، 17/10/2023.
[20] "بيان صادر عن الناطق الرسمي باسم المؤسسة الأمنية"، وكالة "وفا"، 18/10/2023.
[21] "حرب غزة: التداعيات الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين"، الإسكوا.
[22] "تحذير من انخفاض إيرادات الحكومة الفلسطينية 30% بسبب أزمة المقاصة"، "العربي الجديد"، 14/2/2024.
[23] رئيس الوزراء خلال مقابلة صحفية، موقع مجلس الوزراء – فلسطين، 3/2/2024.