مع إشراقة 10 شباط/فبراير، التقى المشاركون في "المنتدى السنوي لفلسطين" في دورته الثانية، في العاصمة القطرية الدوحة. وقد وصل عشرات الباحثين والأكاديميين الفلسطينيين والعرب والأجانب إلى قاعة "المجلس" المخصصة لافتتاح المنتدى، وفيه 5 ندوات عامة مخصصة لمناقشة الأبعاد العامة لحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، فضلاً عن 23 جلسة في موضوعات بحثية وأكاديمية تتعلق بالقضية الفلسطينية.
وقد افتتح "المنتدى السنوي لفلسطين"، الذي يستمر لمدة 3 أيام (10 - 12 شباط/فبراير) أعماله بكلمة ترحيبية وتعريفية بالمنتدى، ألقتها الباحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، آيات حمدان، التي أشارت إلى أن عقد هذه الدورة يأتي في مرحلة حرجة من تاريخ القضية الفلسطينية، وقد كُرّست الندوات العامة فيه لتناول الأبعاد المتعددة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتحديات التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني، وأوضحت أنه انطلاقاً من إدراك "المركز العربي" و"مؤسسة الدراسات" أن "أهمية هذا المنتدى لا تقتصر على الجانب البحثي الأكاديمي والمعايير العلمية فحسب، بل أيضاً تشمل التماسَ المباشرِ في تطورات القضية الفلسطينية، والقضايا الملحة التي تطرحها، وحجم التضحيات والبطولة التي يبديها الشعب الفلسطيني في غزة في مواجهة العدوان وحرب الإبادة المستمرة. وأشارت إلى أنه تم اختيار نحو 70 ورقة علمية محكّمة لدورة المنتدى الثانية لهذا العام، وقد قُبل 200 مقترح من مجموع 520 طلباً للمشاركة، تُعرض في جلسات متخصصة توزَّع في مسارات متوازية، بالإضافة إلى عدد من الندوات العامة.
وألقى رئيس مجلس أمناء "الدراسات الفلسطينية"، الدكتور طارق متري، الكلمة الافتتاحية، وتلاه المدير العام لـ "المركز العربي"، الدكتور عزمي بشارة، الذي قدّم المحاضرة الافتتاحية للمنتدى، الذي سيمتد حتى 12 شباط/فبراير.
واستهل متري كلمته قائلاً: "يلتئم عقدنا في منتدى فلسطين الثاني لنواصل جهدنا المشترك بين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، في تدارُس قضيتنا الفلسطينية من جوانبها كافة، منذ النكبة، وخلال النكبات المتعاقبة والمتجددة، ولكي نتفاكر في أمر المستقبل، ومسارات العمل المتعددة من أجل إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني. ونجتمع في ظل المعاناة الهائلة للشعب الفلسطيني في غزة، وثباته في أرضه على الرغم من الأهوال كلها، ومحاولات القضاء على وجوده أو تهجيره." وأضاف مقتبساً من محمود درويش: "تولد غزة من النار"، وأردف: "وأهلها [غزة] ضحايا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل أيضاً جريمة إبادة جماعية."
وبالنسبة إلى الضفة، فقد قال: "نشهد، بالتزامن مع العنف الواسع والمنقطع النظير النازل على غزة، تعرُض فلسطينيي الضفة الغربية لاعتداءات متصاعدة من جانب المستوطنين، الذين يحظون بدعم الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية."
وأكد متري في كلمته أنه "بات جلياً أن تهجير أهل غزة غير مستطاع، على الرغم من كل ما نزل بهم، وذلك بقوة إصرارهم على البقاء في أرضهم، في ضوء ما حفرته في ذاكرتهم المجازر التهجيرية السابقة ومرارة اللجوء."
وفي محاضرته الافتتاحية، استهلَّ بشارة محاضرته بالإشارة إلى التقدُم الكبير الذي حققته الدراسات الفلسطينية من حيث استقبالها في المؤسسات الأكاديمية المرموقة، مع ضرورة عدم تجاهُل الخطر المحدق بإنجازاتها في هذه المرحلة؛ نتيجةً لمحاولة جماعات الضغط الإسرائيلية، واليمين المتحالف معها، وبعض الأكاديميين غير المسيّسين المرعوبين من تهمة العداء للسامية، فرضَ مكارثيّة جديدة على المؤسّسات الجامعية في الغرب، مستغلين أجواء تعرّض إسرائيل لهجمات المقاومة الإسلامية في 7 تشرين الأول/أكتوبر وحرب الإبادة الإسرائيلية التي تُشن على قطاع غزّة حتى اليوم. وأشار بشارة إلى "ضرورة تضافر جهود الباحثين الفلسطينيين والعرب لمواجهة المحاولات المتواترة لتسلل أفكار صهيونية إلى مقاربة عامة الناس لتاريخ فلسطين عموماً، وتاريخ الصراع على أرضها، وتشويه قيم التحرر ومقاومة الاستعمار في الثقافة العربية، وتُرافق دسَ قوالب التفكير هذه سياسات تطبـيع العلاقات مع إسـرائيل من دون حـل عادل للقضية الفلسطينية، وهذا يندرج ضمن إعداد المتطلبات اللازمة لاستقبال هذه السياسات على مستوى الأخلاق العمومية والثقافة عبر إسقاطها على التاريخ وتشويهه. ويحدث هذا بعد أن حُذفت قضية فلسطين من مناهج التدريس الأساسي والثانوي في أغلبية الأقطار العربية، وأصبح تشويه الوعي في الإعلام ووسائل التواصل أكثر سهولة مما مضى، ولا سيما أن النشاط الإسرائيلي على المستويَين الأخيرين لا يتوقف."
وتناول بشارة في محاضرته التحديات المحيطة بالقضية الفلسطينية على مستويات متعددة، بما فيها العلاقات الدولية والإقليمية، والأبعاد السياسية والثقافية والقانونية التي تتداخل معها، وأشار إلى الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية لدولة إسرائيل، التي كشفتها الحرب أكثر من أي وقت مضى؛ إذ تصرّف المجتمع الإسرائيلي كقبيلة موحدة، إذ تشده عصبية نابذة لأي رأي مخالف، وطغت غريزة الانتقام والثأر على تفكيره، إذ رأى أن السكان الأصليين يجب أن يَدفعوا جميعاً ثمن ما جرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بصفتهم لا يفهمون سوى لغة القوّة. وفي هذا الإطار، نفهم أن الثأر والانتقام لا يمارَسان لإرضاء كبرياء المحتلين وشعورهم بالتفوق، واللذَين مسَّت بهما عملية كتائب القسام في ذلك اليوم فقط، بل أيضاً لتطبيق استراتيجيا فحواها تلقين الفلسطينيين وجيرانهم درساً لا يُنسى، وهو ما يؤدي حتماً إلى الإبادة بتعريفها الدولي.
كما تحدث بشارة عن موقف الدول العربية تجاه قضية فلسطين، مشيراً إلى أنها تكون قضية العرب المركزية بوجود مشروع عربي، لا بصفتها دولاً منفصلة، أمّا الآن، فليس هناك فاعل يمكن تسميته بالنظام العربي إلاّ شكلياًّ، وما يوجد في الحقيقة هو أنظمة عربية لديها أجندات داخلية وخارجية، من دون مفهوم تصوُر لأمن قومي عربي، وهو ما أتاح لإسرائيل تكرار زعمها أن القضية الفلسطينية ليست جوهر الخلاف مع الدول العربية، وأن تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ممكن بتجاهل هذه القضية، الأمر الذي أثبتته الدول العربية فعلاً في كل موجة تطبيع مع إسرائيل. وفي المقابل، يرى بشارة أن الانفعالات العربية، في توقُّع تصرُف عربي رسمي مغاير يُلبّي التوقعات منها، تأتي بسبب عناد الهوية العربية التي تجمعنا، وإصرارها على النبض بالحياة، على الرغم من التحولات الدولية والإقليمية، وبسبب الرأي العام العربي المتضامن مع فلسطين، بل أيضاً مع فعل المقاومة الرافض لأي تطبيع مع إسرائيل.
أمّا دولياً، فاعتبر بشارة أن عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر، وحرب الإبادة الإسرائيلية التي شُنت على غزة، أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وإلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي. ومع ذلك، فقد نبّه بشارة إلى أن إسرائيل تسابق الزمن لمراجعة هذا التطور المهم، وتواصل عدوانها مستهدفةً القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة المنظمة في قطاع غزة، فضلاً عن العمل على إقناع دول عربية بمواصلة التطبيع معها، من دون حل عادل لقضية فلسطين. ومن جهة أُخرى، فقد كشف العدوان على غزة أن العلاقة بين إسرائيل والقوى المتحالفة معها في الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، تقوم على المصالح، لكنها لا تقتصر عليها، فقد شهدنا سلوك المؤسسات الإعلامية الكبرى في التعامل بمعايير مزدوجة، ليس فقط مع القضايا السياسية، بل أيضاً حتى مع الأمور الإنسانية، كمعاناة الفلسطينيين والإسرائيليين.
وأكد بشارة أن الفلسطينيين يقفون أمام مفترق طرق، لأن قضية فلسطين عادت إلى الواجهة، ويمكن أن نقترب من تحقيق إنجاز على مستوى الحل العادل، أو أن نبتعد عنه؛ فمن جهة، سوف تحاول إسرائيل وحلفاؤها فرض "ترتيبات سياسية جديدة" تُبعد الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقوقه الوطنية أكثر مما فعلت اتفاقيات أوسلو، ومن جهة أُخرى، فإن المنظومة الدولية والإقليمية لا تستطيع تجاهُل الثمن الفادح الذي دفعه الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ولذا، فإن الرصيد المعنوي كبير، ولا يمكن تجاوزه إقليمياًّ ودولياًّ.
كما أوضح أنه إذا أرادت السلطة الفلسطينية إحباط مخطط بنيامين نتنياهو، وأن تحكم سلطة واحدة الضفة الغربية وغزة، فعليها أن تدرك أن هذا الأمر غير ممكن إلاّ بأحد الخيارَين: إمّا بالتفاهم الوطني مع فصائل المقاومة في الطريق إلى السيادة والاستقلال، وإمّا على ظهر دبابة إسرائيلية في الطريق إلى تكريس السلطة الفاقدة للسيادة. وإذا أرادت فصائل المقاومة المشاركة في تقرير مستقبل الشعب الفلسطيني والمناطق المحتلة وترجمة نضالها وتضحياتها إلى إنجازات سياسية، فيجب عليها أن تدخل منظمة التحرير الفلسطينية - الجهة الشرعية الرسمية الممثلة للشعب الفلسطيني - وأن تتوافق الأطراف على شروط ذلك.
واختتم بشارة محاضرته الافتتاحية لـ "المنتدى السنوي لفلسطين" بملاحظة بشأن الجدالات الدائرة بشأن عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومسؤولية المقاومة ومسؤولية الجيش الإسرائيلي عن بعض حالات قتل المدنيين، والتي استثمرت آلة الدعاية الإسرائيلية جميع ما في جعبتها من وسائل لكي تديم تسيُّد هذا الموضوع في الحوارات الإعلامية؛ إذ يطغى ما تعرضت له نتيجة لعملية واحدة للمقاومة على فظائع الحرب الشاملة المؤلفة من مئات العمليات والمجازر التي تشنها هي على قطاع غزّة، مؤكداً 3 نقاط، هي:
أولاً: إن القضية الرئيسية هي قضية الاحتلال وممارساته التي أدت إلى هذه العملية، وحملة العقوبات الجماعية والثأر والانتقام التي تصل إلى حد جرائم الإبادة التي جاءت عقبها.
ثانياً: من الضروري التمييز بين المستوى الأخلاقي والمستوى التحليلي في هذه النقاشات، وبين دعم الصمود ونسج الأوهام التي تلحِق ضرراً بقضية العدالة، وتعوق توجُه الناس إلى اتخاذ مواقف، والقيام بأعمال من شأنها أن تساهم في صمود الشعب الفلسطيني في وجه ما يتعرض له، وتحقيق إنجازات سياسية لقضية فلسطين، كي لا تذهب هذه التضحيات سدى.
ثالثاً: يجب تكثيف جهود المثقفين الفلسطينيين في التضامن الوطني والإنساني لتخفيف معاناة الناس في غزة، والعمل على التصدي لدعاية حرب الإبادة الإسرائيلية وافتراءاتها، والضغط على القوى السياسية الفلسطينية المركزية كي تأتلف في قيادة موحدة في إطار منظمة التحرير، بحيث تترجم نضال الشعب الفلسطيني وتضحياته إلى إنجازات سياسية.