الفن في أوقات الحرب عن الدور الذي يؤديه الفن الفلسطيني في ظل عدوان الاحتلال
Date:
30 janvier 2024
Auteur: 
Thématique: 

في مجتمع يرضخ تحت وطأة حرب تشنها آلة عسكرية احتلالية منذ نحو 80 عاماً، واجه المجتمع الفلسطيني بكل أطيافه هذه الاعتداءات والهجمات، كلاً بحسب موقعه ومهنته. لكن حجم العدوان الأخير على قطاع غزة، بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، جعل تساؤلاً قديماً حديثاً يطفو إلى السطح مجدداً عن مدى أهمية الفن وجدواه في توثيق الاعتداءات ومساندة القضية الفلسطينية، وقام بعض الفنانين والمثقفين والمبادرات والمؤسسات بإطلاق حواريات في هذا الشأن، كحوارية "الفن وقت الحرب" على سبيل المثال، والتي نظمها "مرسم 301" في مدينة بيت لحم.

وبنظرة سريعة إلى تاريخ الفن العالمي في لحظات شبيهة، نجد جلياً أن للفن أثره ودوره المهم، وقياساً على الشارع الفلسطيني، فقد قال الفن مقولته، وحذا حذواً مهماً في هذا المضمار على مدار الـ80 عاماً الماضية، فكان له دور مهم في التعبير والاحتجاج على العدوان والاحتلال وأدواته، وأدى دوراً جوهرياً في التوثيق والأرشفة، واستقطب الخطاب في دلالاته محفزاً التضامن مع قضيته، وساهم بدور كبير في نقل الصدمة عبر الأجيال، والمحافظة على الذاكرة حيةً بعد أن قام بترسيخها بصرياً باستعمال التمثيل في رموزه.

ما مدى أثر الفن والقوة الناعمة للثقافة في مواجهة قسوة الآلة الحربية الدامية ووحشيتها بصورة عامة، والآلة الاحتلالية الساعية للتطهير العرقي بصورة خاصة، كما هو واقع الحال في الوضع الفلسطيني على وجه الخصوص؟ فعند الحديث عن فعل احتلالي اجتثاثي للأرض وما تحتها من خيرات، وما فوقها من بناء وبشر وشجر، يبدو للرائي أن الفن ما هو إلاّ كف تجابه مخرزاً، فهيهات الغلبة لها. هذا السؤال أدمى فكر كاتب هذه المقالة إحساساً بعبثية أي فعل لا يرقى إلى هول فعل اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي، والذي يُهال مؤخراً على قطاع غزة المحاصَر، وبالتحديد بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أو ما عُرف بطوفان الأقصى، وعلى كل مكونات الشعب الفلسطيني البشرية والجغرافية بصورة عامة.

 

"الثورة"، شفيق رضوان، ملصق، 1967

 

وكي أجيب ككاتب - وفنان بصري - على ما اعتراني من يأس بعدمية جدوى ما يصنعه الفن قبالة ما يحدث من أهوال، كان لا بد لي من البحث عن إجابات لتساؤلاتي الكثيرة في هذا الشأن، فطفقتُ أقرأ في التاريخ والواقع على حد سواء، وأقيسهما على الوضع الراهن للشارع الفلسطيني، محاولاً البحث عن مدى بلاغة الفعل الفني أمام بلاغة فعل المقاومة والموت - "وهل هُناكَ أبلغُ من فعلِ الشهيد؟" باسل الأعرج - وما دون هذا الفعل الأسمى، كان البحث في جدوى أي فعل آخر.

 وفي هذا السياق - الفن/الحرب (العدوان) - كان السؤال عن مدى أهمية الدور الذي يؤديه الـفن عـمـومـاً في أوقـات الحرب، وخصوصاً أهمية دور الفن الفلسطيني في الوقت الراهن، والأثر الذي تُحدِثه هذه الممارسة الفنية.

من الأمور التي لا تخفى على المهتمين بقطاعَي الثقافة والفنون، حقيقة أن الفن هو ضرب من ضروب التعبير الممارسة من جانب الكائن البشري، فإلى جانب التعبير اللغوي المرسَل بالكلام، والمدرَك بالاستماع، هناك التعبير البصري المرسَل بعدة وسائط من الفنون البصرية والأدائية، والمدرَك بالرؤية والإبصار، وهو من أهم وسائل التعبير التي مارسها الكائن البشري وأقدمها عندما طفق رسماً على جدران الكهوف قبل اللغة، ليعبّر به عن حاجاته الإنسانية الأولية إلى البقاء في إيجاد أماكن الصيد، أو يوثق انتصاراته في الإيقاع بطرائده.

ومنذ ذلك الحين، بقي الفن لغة للتعبير الفردي أحياناً، والجمعي أحياناً أُخرى، إذ استعمله الفنانون كأفراد، واستعملته السلطات أيضاً على مر العصور لتمرير رسائلها وأيديولوجياتها إلى المجتمعات التي تحكمها، أو إلى المجتمعات والأنظمة الأُخرى التي تريد إيصال رسائلها إليها. فدأبت الأنظمة على مر التاريخ تباعاً تستقطب الفنانين إليها في حالات الحرب ليسخّروا فنهم في نقل صور انتصار لقواتها، أو توثيق عتيّها وقوتها، أو تمجيد قادتها وترسانتَيها البشرية والعتادية، وكذلك شيطنة العدو وإدانته؛ فمروراً بالقرن الـثامن عشر وصولاً إلى بدايات القرن الـتاسع عشر، حين دفعت الثورة الفرنسية -كما يشير المؤرخ الفني إرنست غومبرتش- دفعاً عظيماً إلى هذا النوع من موضوعات الاهتمام بالتأريخ وتصوير البطولة، أحب الفرنسيون أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم إغريق أو رومان مولودون من جديد، وهو ما يبرر اصطحاب نابليون ثلة من الفنانين في معاركه، كجاك لويس ديفيد - الفنان الرسمي للحكومة الثورية - ونيكولاس شارليت، وأوغست رافيت، وأنطوان جان غروس… وغيرهم. 

إلاّ إنه في وقت لاحق لذلك في بدايات القرن التاسع عشر، ظهر تيار آخر فني يدين الحروب، استخدم فيه الفنانون موهبتهم للاحتجاج على آلة الحرب وتعريتها وتغيير فهم الناس لها بالنسق الذي يبدو لنا الآن مألوفاً متناغماً مع النظرة التنزيهية الشائعة عن الفن، وذلك على يد الفنان الإسباني فرانسيس غويا، والذي سن سنّة شجب الحروب وإدانتها عبر الفن وجعله شاهداً على رعبها وويلاتها في أعماله، وخصوصاً في لوحة "الثاني من مايو" ولوحة "الثالث من مايو"، اللتين أنتجهما سنة 1814م، وهو أمر لم يفعله إلاّ الشعراء، كما يقول غومبريتش، كما أنتج غويا قبل ذلك سلسلة من الأعمال، عُرفت بـ" كوارث الحرب - Los desastres de la guerra"، والتي هي عبارة عن 82 عملاً مطبوعاً أُنتجت في الفترة 1810-1820، والتي يراها مؤرخو الفن على أنها احتجاج بصري ضد عنف أحداث ثورة الثاني من أيار/مايو 1808.

وبدأت معارضة التقليد الممجد للحروب تتزايد في أواسط القرن الـتاسع عشر، حينما اتخذ الفنانون طريقاً جديداً للتعبير عن مشاعرهم إزاء الجنود البسطاء وإرهاصات الحرب على الناس، مخاطبين عاطفتهم وإنسانيتهم التي نأوا بها بعيداً عن تمجيد الجنرالات والقادة، وعن استعمالهم كأداة إعلامية مغروسة ومدمجة مع الجيوش "Embedded Artist"، والتي تشبه في يومنا هذا الصحافيين المغروسين والمدمَجين في الجيوش، بهدف السيطرة على الصورة التي تصل إلى الجماهير عن الحرب، والتي تم اعتمادها من جانب الجيش الأميركي بعد حرب فيتنام، وذلك لمحاولة التأثير في الجماهير، والتحكم بالصورة. وعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بهذا التوجه المتزايد نحو الجانب الإنساني من ويلات الحروب، عمل الفنان جوزيف باتون الذي صور فيه جندياً اسكتلندياً عائداً إلى منزله مبتور الذراع.

ومع بدايات القرن الـعشرين، ظهرت أعمال وتجارب مهمة في هذا السياق، كأعمال الفنان الألماني أوتو ديكس الذي حارب في صفوف الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، ورسم عدة اسكتشات ومخطوطات في خطوط الحرب الأولى، والتي عرضها لاحقاً في معرض "Dir Krieg" الذي كان له وقعه وصداه المهمين آنذاك في التنديد بآلة الحرب ووحشيتها، وصولاً إلى أيقونة الفن والحرب "جيرنيكا" للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، والتي أثارت ثورة في هذا الصدد، حتى وصلت إلى أن تكون معلقة في مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة كشاهد على وحشية الحرب وويلاتها على الأمم والناس.

وفي هذا السياق - سياق الفن والحرب - أدلى الفن الفلسطيني بدلوه وقال مقولته، بدءاً بفطرية الفنان عبد الحي مسلم في أوائل القرن الـعشرين، وصولاً إلى معاصرة كوفية الفنان عصام الحاج إبراهيم؛ فقد مر الفلسطيني بعدة مراحل على يد رواده الأوائل، كإسماعيل شموط الذي أسس قسم الثقافة الفنية في دائرة الإعلام والتوجيه القومي التابع لمنظمة التحرير، ومن تبعه من الرواد كمصطفى الحلاج، وسليمان منصور، وكامل المغني، وغيرهم ممن أمدوا الحركات الثورية الفلسطينية المقاومة بالمحتوى البصري المعبر عن آمالها، ومجّدوا المقاومة، وعملوا على التعبئة البصرية والفكرية للجماهير.

 

"لبيك يا فلسطين"، رأفت، ملصق، 1948

 

وعند النظر في الممارسة الفنية لفناني فلسطين في اللحظات العدوانية المتنوعة والمتكررة بوتيرة ثابتة نوعاً ما من الآلة الاحتلالية الإحلالية، نجد أن هذه الممارسة أدت دوراً مهماً على ثلاثة أصعدة، يمكن تقسيمها والنظر إليها على منحنى الزمن، فهذه الممارسات كان لها دور لحظي مباشر في لحظة العدوان كوسيلة للتعبير، ودور أرشيفي توثيقي، واستشرافي مستقبلي لصورة الوطن بعد التحرر، وخطابي لاستقطاب التضامن من الأمم الأُخرى.

وعلى صعيد التعبير الذي يقدمه الفن، والذي يعرَّف به أحياناً ويأتي ملاصقاً له في معظم تعريفاته المتعددة من الفلاسفة، فما بين أفلاطون الذي اعتبره من أعلى أشكال التعبير البشري ويجب استخدامه ليعلمنا الحياة – على الرغم من أنه استثنى صانعيه من مدينته الفاضلة في كتابه الجمهورية – وسقراط الذي اعتبره وسيلة تثقيفية مهمة، وكانط الذي وصفه بأنه عِلم، يبقى المشترك بين هذه المحاولات لتعريفه أنه وسيلة تعبير مهمة تمارسها الذات البشرية لإنشاء خطاب يعبّر عنها عن طريق استعمال رموز وعناصر بصرية تمثل آراءها ومعتقداتها وقناعاتها، وطموحاتها وآمالها أحياناً أُخرى.

وعند النظر إلى زمن إنتاج العمل الفني، نرى أن الفنان الفلسطيني أنتج أعماله في لحظات العدوان كفعل احتجاجي على أهوال الحرب وويلاتها، وعبّر عن احتجاجه هذا عبر إظهارها في أعماله؛ كما في لوحات إسماعيل شموط وعبد عابدي عن النكبة، وأعمال كل من ضياء العزاوي وبشير السنوار عن مجزرتَي صبرا وشاتيلا، واحتجاج عامر الشوملي على جدار الفصل العنصري، وذلك بإعادة إنتاج ملصق "زوروا فلسطين" "Visit Palestine" ليشمل إضافة جدار الفصل العنصري.

والفن فعل مقاوم ومجابه للعدوان، فعلى حد قول الفنان أوتو ديكس: "لم أرسم مشاهد الحرب لمنع الحرب. لم أكن لأطلق هذا الادعاء على الإطلاق، لقد رسمتها لدرء الحرب. كل الفن هو استحضار."[1]  فأنتج الفنان الفلسطيني أعماله معبّراً عن رفضه للواقع، ومن أجل التنكيل بالحرب أمام السلطات، بالإضافة إلى بث روح المقاومة والدفاع كما كان في الملصقات (البوسترات) العديدة والكثيرة التي أنتجها الفنانون الفلسطينيون وغير الفلسطينيين من الفنانين الذين آمنوا بعدالة القضية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، لدينا ملصق باسم رأفت بعنوان "لبيكِ يا فلسطين" أنتجه سنة 1948، فيه رسم لرجل يرتدي بزة عسكرية وعقال رأس وحطة كنوع من الإشارة إلى أنه عربي، وراءه صورة لمدينة القدس يظهر فيها بحجم كبير مسجد قبة الصخرة، ومبانٍ تبدو كأنها بيوت وكنائس، مع كتابة على الملصق تدعو الناس إلى التبرع (الشكل 1).

وقد ازداد إنتاج الفنانين للملصقات التي تشحذ الهمم، وتؤدي دوراً مهماً في التعبئة الجماهيرية، وتحفز على الدفاع والثورة، وذلك بعد قيام الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير في أيار/مايو 1964، كملصق أنتجه الفنان شفيق رضوان سنة 1967 بعنوان "الثورة"، وتظهر فيه مجموعة من الفدائيين بملابس ليست عسكرية، بعضهم ملثم وبعضهم الآخر لا، يمسكون بأسلحتهم ويحيطون بما يظهر كأنه جذع شجرة أنبتت وسطهم غصناً أخضر، في رمزية للأمل بالاستمرارية (الشكل 2).

مروراً بتعرية الآلة الحربية وفعلها القاتل وتحديها في إبان الانتفاضة الأولى في عمل "على جثتي" "Over my dead body" للفنانة منى حاطوم (الشكل ٣)، والذي أنتجته في الفترة  1988 – 2002، وأنتجت منه أيضاً في سنة 2005 في نهاية الانتفاضة الثانية، وعُرض العمل في متحف الفن الحديث في أستراليا في السنة نفسها، وتُظهر حاطوم في هذا العمل رسالة التحدي والصمود الفلسطيني، إذ يظهر في العمل وجهها وهي تنظر بتحدٍ إلى الجندي البلاستيكي المتموضع على أنفها، فنرى قلباً للأدوار والأحجام، يظهر فيه الجندي الإسرائيلي على شكل لعبة سخيفة وضئيلة الحجم.

وبطبيعة الحال، فقد امتد دور الفن الفلسطيني ليشكّل عنصراً وأداة مهمة في التوثيق للحالة الفلسطينية بكل أشكالها، وخصوصاً تحت العدوان، ليعمل هذا التوثيق على محورين أساسيَين مهمَين: التوثيق المادي والتوثيق المعنوي، فعلى سبيل التوثيق المادي "الأرشفة"، فإن الأعمال الفلسطينية المنتَجة في مناسبات وأزمنة متعددة شكلت مادة مهمة لإمداد الأرشيفات المتعددة بمواد توثّق أحداث الحياة السياسية والاجتماعية الفلسطينية على حد سواء، بالإضافة إلى توثيق لحظات العدوان كما شاهدنا في الأعمال المدرجة سابقاً، والتي اقتُني جزء منها في مجموعات خاصة، وبعضها الآخر في متاحف كما هو الحال مع عمل "على جثتي" للفنانة منى حاطوم، والذي اقتناه متحف جامعة بيرزيت.[2]  هذا بالإضافة إلى ما يَنتج من عملية العرض للأعمال الفنية من كتالوغات ومواد مطبوعة تحتوي على صور للأعمال، كأرشيف مركز الواسطي في القدس، والذي يحوي عدة مواد مهمة فنياً؛ من صور لأطفال الحجارة والملثمين في الانتفاضة الأولى، وتَتَبُّع لأعمال الفنانين وكتالوغات أعمالهم، كما ذكرت الفنانة آلاء يونس في مقالتها بعنوان "فخ الأرشيف"، والتي جاء فيها: "بحث القائمون على مركز الواسطي عن الممارسات الفنية (الفلسطينية) ما بين عامي 1997 و2001، وجمعوا الكتالوجات والمطويات والمواد الصحفية والمقالات والدراسات وبطاقات الفنانين والصور الفوتوغرافية المرتبطة بمسيرة الفنانين الفلسطينيين أينما كانوا. يعِدُ هذا الأرشيف بالكثير، فمثلاً، تتوّر كتالوجات معارض أحمد نعواش من عام 1972 و1974 و1975 و1978 و1979 و1983 و1990، وغيرها.، بينما نرى في كتالوغ معرضه في دارة الفنون من عام 1993 إضافات بخط يده عن المعارض التي شارك فيها حتى عام 1997. تشير مثل هذه المواد إلى نشاط الفنّانين في توثيق وتحريك أعمالهم بأنفسهم، وإلى المساحات التي كانت مُتاحة للمعارض ومُددها."[3]

وعلى الصعيد المعنوي، وإلى جانب الخطاب الموجه في هذه الأعمال، فإن الأعمال الفنية الفلسطينية قامت بإمداد الذاكرة الجمعية الفلسطينية بأعمال رسخت الأحداث الجارية على الأرض برموز شكلت ذاكرة صورية ترسخت في أذهان المتلقين من أبناء الشعب الفلسطيني ومن كل الأمم بصورة عامة. وساهمت هذه الرموز والمحتويات البصرية للوحات الفنانين الفلسطينيين في نقل الصدمة والخطاب من جيل إلى آخر، وهذا ما أشارت إليه الفنانة الدكتورة رحاب نزال قائلة: "لربما البصريات قادرة على إيصال ما لا يستطيعه النص المكتوب، فالبصريات تحول المعرفة المجردة إلى معرفة ملموسة. للبصريات قوة الاختراق، وللتوثيق والتعبير البصري في الحالة الفلسطينية أهمية بالغة في حماية الهوية والذاكرة. مثلاً، لعب الفن البصري دوراً محورياً في الحفاظ على الرواية الفلسطينية، وفي التعبير عن الذاكرة والهوية، منذ انطلاق الثورة الفلسطينية وحتى اللحظة"،[4]  كما فعلت "إلى أين" شموط، وحنظلة ناجي، وجمل سليمان، وبطيخة خالد حوراني.

وعلى صعيد التضامن، فإن الفن، بحسب مفهوم علم الجمال في كتاب "الجماليات" لألكسندر بومغارتن، هو "أن أرى العالم على نحو ما أنا عليه، لا على النحو الذي عليه العالم، والفنان هو من يمنحنا عيوناً نرى بها العالم"[5]  باعتباره مكوناً فنياً بصرياً لما حدث ويحدث. ولكون الفن فعلاً إنسانياً مشتركاً بين الفنان والمتلقي، فإنه وإن كان الهدف الأساسي من زيارة الجمهور للمعارض الفنية أو اطلاعهم على الأعمال الفنية عند أي منصة عرض فضولاً ثقافياً وفنياً معيناً، فإنه سرعان ما يتحول إلى التزام أخلاقي وموقف ضد الحرب بضرورة هذا الفعل الإنساني المشترك، مشكلاً مناشدة لثقافات السلام والتضامن من شعوب العالم، فالفن أحد الوسائل والركائز الأساسية لأدوات الدبلوماسية الثقافية، وهو قوة ناعمة مهمة منذ آلاف السنين، إلى جانب الفعل المقاوم، كما أشار الفيلسوف الصيني صن تزو في كتابه "فن الحرب": "إن القائد المثالي يوحِّدُ الثقافة مع المزاج الحربي."[6]

كما أن الفن والفنان الفلسطيني وغيره من الفنانين المناصرين للقضية الفلسطينية زودوا الفعاليات الاحتجاجية المساندة للقضية بعدة وسائل تعبيرية بصرية، من كاريكاتيرات محمد سباعنة ومحمود نعيم عباس وبطيخة خالد حوراني، رفعها المحتجون كأدوات تضامنية واحتجاجية في وجه السلطات والأنظمة، سواء في شوارع مدن العالم، أو على منصات التواصل الاجتماعي، وهو الاستخدام الأكثر.

ختاماً للقول، فإنه كما أدى الفن الفلسطيني دوره المهم والفاعل لعدة عقود من الاحتلال والعدوان، وكما ظهرت في هذا البحث أهمية هذا الدور وتفرعاته وتنوع فوائده، فإنه من الحري به الاستمرار في قول مقولته، وتعرية الفعل الاحتلالي، وتشكيل الخطاب البصري الذي يحث على التضامن عالمياً مع قضيته العادلة، وأرشفة هذه البشاعة والفظاعة في همجية الاحتلال وتوثيقها، وخصوصاً في ظل الأوضاع الراهنة، من اعتداء مصنف على أنه حرب إبادة وجريمة حرب على قطاع غزة، كما أشار عدد من الحقوقيين الخبراء،[7]  والذي أودى بحياة 25,490 روحاً، لكل منها طموحاتها وأحلامها وذاكرتها، وهذا في غزة وحدها، وحتى وقت كتابة هذه الجملة في اليوم الثامن بعد المئة من بدء العدوان، بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير 2024. وهذه الأرواح ممن وُجدت أجسادها، وغيرها الآلاف ممن ترزح تحت الركام لم يتم إحصاؤها بعد.

مع الإشارة إلى أنه من المهم أن يتم البحث في حضور الفن الفلسطيني في منصات التواصل الاجتماعي، وإحصاء ظهوره وأثره وتفاعلات الناس مع هذا الظهور. 

 

المراجع: 

1-إبراهيم، أنس. "رحاب نزّال: البصريّات تحوّل المعرفة المجرّدة الى معرفة ملموسة | حوار". مجلة "فسحة" الثقافية، "عرب 48"، 15/12/2021.

2-الأمم المتحدة. "خبراء دوليون يحثون المجتمع الدوليعلى منع خطر الإبادة الجماعية الذي يهدد الشعب الفلسطيني"، 16/11/2023.

3-أرشيف ملصق فلسطين The Palestine Poster Project Archives.

4-بداي، حسين ثامر. "الفن والحرب محفظة نقوش ’أوتو ديكس‘ في البلاد العربية إدانة أم توثيق وأثرها في المجتمع". "المجلة الأميركية الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية"، 2023.

5-الراجحي، سارة. "مقالة: غويا وفن مناهضة الحروب". "منصة معنى الثقافية"، 2023.

6-الشاعر، ديانا. "القوة الناعمة للفن الفلسطيني". "وكالة أخبار العرب"، 18/11/2023.

7-طرابلسي، فواز. "غيرنيكا بيروت الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو ومدينة عربية في الحرب". بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987.

8-محمد، جاسم عبد القادر. "النقد والتذوق الجمالي في التربية الفنية". الكويت: مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع، 1994.

9-موقع متحف جامعة بيرزيت.

10-يونس، آلاء. "فخ الأرشيف". "يُرى: موارد الفنون البصرية الفلسطينية"، موقع حوش الفن الفلسطيني، 13/12/2021.

11-Danchev, Alex. On art and war and terror. Edinburgh: Edinburgh University Press Ltd, 2009.

12-Tzu, Sun. The Art of War: The Ancient Classic (Capstone Classics). Chichester: Capstone Publishing, 2010.

المصادر:

[1] حسين ثامر بداي، "الفن والحرب محفظة نقوش ’أوتو ديكس‘ في البلاد العربية إدانة أم توثيق وأثرها في المجتمع"، "المجلة الأميركية الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية"، 2023.

[2] متحف جامعة بيرزيت.

[3] آلاء يونس، "فخ الأرشيف"، موقع حوش الفن الفلسطيني، 13/12/2021.

[4] أنس إبراهيم، "رحاب نزال: البصريات تحول المعرفة المجردة الى معرفة ملموسة | حوار"، مجلة "فسحة" الثقافية، "عرب 48"، 15/12/2021.

[5] حسين ثامر بداي، مصدر سبق ذكره. 

[6]  Sun Tzu, The Art of War: The Ancient Classic (Capstone Classics) (Chichester: Capstone Publishing, 2010).

[7] "خبراء دوليون يحثون المجتمع الدوليعلى منع خطر الإبادة الجماعية الذي يهدد الشعب الفلسطيني"، "أخبار الأمم المتحدة"، 16/11/2023.

 

Yasser Manna
نجوم منتخب كرة الطائرة إبراهيم قصيعة (يمين) وحسن زعيتر (مواقع التواصل) استشهدا بقصف إسزائيلي على مخيم جباليا.
Ayham al-Sahli
Maher Charif
Uday al-Barghouthi
Kareem Qurt
Yumna Hamidi