في الرياح السيئة اعتمدوا القلب
Date:
25 janvier 2024
Thématique: 

لطالما كانت راهنية حركات التحرر، فيما سُمي استعمارياً بـ"العالم الثالث"، تتمثل في قدرتها على تجاوُز الحدود وصناعة الممكنات، ولطالما كان ميدانها ما تصنعه من وعي موازٍ للوعي المدجن في ميادين الأجساد كما في ميادين المخيلة. وكان تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر قفزة في فضاء المخيلة، ولم تكن مفاجأته أن أعتى آليات السيطرة والإخضاع الاستعمارية الحديثة التي تملكها دولة استعمارية مدججة بكل تقنيات التأديب والإيلام لم تتوقعه، إنما كانت مفاجأته أنها توقعته، ومع ذلك حدث في الحقيقة.

وقد ردت إسرائيل بوحشية، وقصفت كل أشكال الحياة، وحولت غزة إلى قبر مفتوح، وضمن ما لم تزل تحاول استهدافه من وراء استنساخ الكارثة خيال تجرأ على إيقاع صدمة بدولة تعتدّ بنفسها بعد أن اطمأنت لماكنتها الاستعمارية، ولسياسات "إعادة ضبط المصنع" تجاه شعب خضع لحصار امتدّ لأعوام طويلة، فضلاً عن النفوذ إلى خيال المقهورين وإعطابه. وإذا كانت فكرة السلطة الاستعمارية تقوم على التغلغل والنفوذ إلى أعماق الذات والروح، وتحويلها إلى موضوع/شيء، فإن سياسات المقاومة تكمن في منطق تحدّيها، وفي قدرتها على التغلغل عبر مسارات تتعدى الجسد إلى ممكنات الخيال، ولذلك، فلطالما كانت المقاومة جدوى مستمرة، وبالتالي، فقد كانت السلطات الاستعمارية على الدوام تخشى خيال المقهورين. وتلك المساحة المشحونة بمولدات تتسامى فوق راهنية اللحظة من دون أن تنفصل عنها، وهذا اختبار حقيقي في الراهن الفلسطيني، عبر حماية عقلانيته التي تتجاوز العقل الأدواتي إلى العقل الشمولي (الروح والعقل والجسد والقلب). وهذه العقلانية لا تقر بحسابات العقل التي تكرس الواقع ولا تغيره، إنما تشمل الاعتبارات الأخلاقية والقيمية والإنسانية والوطنية، التي تحوّل العقل مع الجسد والقلب إلى أكثر من حاصل جمع ميكانيكي، بحسب ما كتب وليد دقة من داخل زنزانته عبر نصه الموازي "السيطرة بالزمن".[1]   

المعرفة على خط النار

 إن أحوج ما نكون إليه، في مظلومية فلسطين المفتوحة على مداها، هو العقل بمعناه الشامل، بعيداً عما راج في الأكاديميا الغربية المتمركزة على ذاتها؛ من تنظيرات عن "موضوعية" تحتفي بالبرودة في مختبرات تدين القلب والروح وتنتصر لعقل حسابي. وبما أن فلسطين تكتب بالنار (منهجية النار) في سنوات الرصاص،[2]  ينتصر المثقف للقلم على السيف وللنظرية المكتوبة بالنار، ويصنع نظريته المعرفية في زمن الحرب، بعد أن انهارت على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط كل أشكال التنظيرات، وتحولت إلى رماد. وماذا يتبقى من فلسطين إذا تحولت إلى تخصص ضمن تخصصات جافة في حقول أكاديمية تُكتب بمداد الحبر لا بمداد الروح والانتماء؟

من غرفة عمليات مشتركة بين كل جغرافيات فلسطين وخارجها، وبين راهنية الألم وممكنات الأمل، صدر عن "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد الأخير، الموسوم "سلام لغزة"، والذي يحمل عنوان قصيدة حسين البرغوثي "سلام لغزة"، بما يقارب فلسطين قلباً وروحاً بما يتجاوز جغرافياتها المنكوبة والمقسمة استعمارياً، "فغزة تُكتب بالقلوب وتقرأ بالروح."

بدأ العدد من غزة وانتهى إليها؛ ففي افتتاحيات مكثفة تسرد حكاية، ومداخلات خمس، يجمعها عبور البصيرة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر المجيد، وحرب فوق إبادية في عودة إسرائيل المتكررة إلى سيرتها الأولى، وفي توحشها القيامي. وتلتها حوارية "فلسطين من القدس إلى غزة"، وهي تعيد تأمل فلسطين بعلاقة وجدانية، وتعيد ربط الأرض والجغرافيا برحابة السماء في دروب الألم الممتدة، وتستردّ حكايات السكان الأصليين من ديارهم المنكوبة في سردية لا تنتهي، بين السماء والأرض، وتعيد التأمل في دور عالم اجتماع النقد بالثورة خارج غرفة الصف الأكاديمية، بأدوات بحثية جديدة تجعل منه "[ملتزماً] سياسياً وناقداً جذرياً وملتهباً عرفانياً في توليفة ساحرة" ليأخذ دوره في المعرفة المقاتلة.[3]  

وقد شارك في هذا العدد الخاص ما يقارب 60 كاتباً وكاتبة من فلسطين والوطن العربي والعالم، تجمعهم فلسطين وتوزعهم على حقول معرفية متنوعة، في محاولة منهم لتقفّي آثار الحرب التدميرية المتناسخة على كل الجغرافيا الفلسطينية. ويتوزع العدد على محاور أربعة؛ إذ يتضمن المحور الأول "الأسرى والحرية"، فيسلط الضوء فيه على ما يتعرض له الأسرى من إبادة غير مرئية ومرئية وحلم ما زال يرسم الأمل بتحرير "الجغرافيا السادسة"، وتبييض السجون وتحطيم العبودية بعد إحالة مصلحة السجون الاستعمارية إلى البطالة الدائمة. أمّا المحور الثاني، "الإعلام والسردية"، فيتناول ضرورة توليد سردية مضادة للهسبراة الصهيونية، وذلك بعد أن أعادت غزة إلى الميادين والشوارع سيرتها الأولى في تضامنها مع فلسطين، لتهدر شوارعها بهتافات من البحر إلى النهر.

وفي محور "الإعمار والعمارة"، يتم تقديم تحليلات لمباني الهيمنة الحربية، ويوثق المحور كذلك للحرب عبر تفحُّص آثار الدمار للمباني والمستشفيات والمدارس في إبادة معمارية تستهدف البشر والشجر والحجر، وفي جغرافيا محاصرة تم تحويلها إلى سجن تحت زخات القنابل، لكنه يربي التفاؤل عبر عدسة الترميم والتخطيط المعماري. أمّا محور "الاجتماع والثقافة"، فيقدّم قراءات تاريخية وسوسيو - تاريخية وثقافية لمقاربة طوفان الأقصى ومآلات الحدث كحدث مُدشن، مراكماً على ما قبله، ولما بعده. وأُفرد في هذا العدد باب للشعر لكوكبة من الشعراء، قصفت آلة الموت أربعة منهم قبل أن يتموا كلماتهم الأخيرة، وفيه مجموعة من القصائد القادمة من غزة أمام بوارج العدو انتصاراً للحياة في مواجهة الموت، وللجمال في مواجهة القبح، وللقصيدة قبل اغتيالها. بالإضافة إلى ذلك، يتضمن العدد ثلاثة أبواب تضم قراءات ومراجعات لكتب عن غزة، وفي خاتمته يأتي القول الفصل في وثيقة "خطاب الطوفان" لمحمد الضيف.

وفيما يتجاوز حدود سؤال الجغرافيا، ويَنفذ إلى عمق الروح والقلب، يسأل إلياس خوري في افتتاحيته: "أين تقع غزة؟"، وتأتي الإجابة من عمق الأرض وباطنها، "فمن يملك غزة التحتا يملك غزة العليا"، حيث تستطيل الجغرافيا على مداها، فكل أرضٍ غزة، وكل الجغرافيات المقهورة والمتحدية جنوب.

غزة الشرايين المفتوحة

 في افتتاحيته الموسومة "غزة: القلب المفتوح"، تعيد الحرب تعليمنا قراءة الأجساد لعلنا نبدأ الكلام من جديد؛ فـ"نحن في الحرب، لا نكتب الحرب بل تكتبنا الحرب"، ويحيلنا عبد الرحيم الشيخ إلى تعلُّم القراءة والتعرف إلى أبجدياتها بتفحص أجسادنا؛ إذ تفرض الحرب على وجودنا الجماعي أمية قسرية، في حرب حوّل العدو فيها أجسادنا المحروقة إلى أرشيف في مشهدية الردع.[4]  ولعلنا نتعلم لغة الأجساد والأشلاء والأطراف المبتورة في أبلغ درس لمحو الأمية لنواجه بها بُكْمَ الحقيقة، وقصور اللغة المكتوبة، ورداءة البلاغة، وقصور المجاز.

وفي لغة المجاز الموسوم بالنار، لم تعد بلاغة الجرح النازف تكفي لفهم ما ألمّ بنا من معاناة وما توالد منها من مقاومة؛ إذ تُجري غزة لنفسها ولنا أخطر "عملية قلب مفتوح" في التاريخ، بعد أن قررت أن تفتح بالنار شرايينها، بعد أن أغلق العدو ومَن سار في ركابه منافذ الحياة في حصار ممتد، فقررتْ أن تفتح منافذ الحياة في أكبر عملية جراحية ذاتية، ومن دون مخدر.

في ثقافة المقاومة

في حرب كاشفة، وفي أكبر إعادة فرز للصديق من العدو، ومظلمة ممتدة على قرن من الزمان جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسور الفلسطينية، وأزمة أعاد مشروعها الوطني، طوفان المقاومة، مسألة البداهات في الحقل السياسي الفلسطيني الذي لم يأت على حسابات البيدر، بعد أن استقالت منظمة التحرير مبكراً، وتحولت إلى سلطة تحلم بأنها عندما تكبر سوف تصبح دولة، وفي هذا السياق جاء الطوفان في المخلية، حينما قدّم درساً جديداً في الواقعية السياسية بعد سنوات من سياسات الإبادة والطمس وتأبيد ثقافة الهزيمة وعقلها المتورم والانطفاء السياسي.

 فتح طوفان الأقصى مسارات جديدة في ممكنات المخيال، وفي تذخير ثقافة المقاومة والوعي الجمعي الفلسطيني، وبين بأس اليأس الصهيوني وألم الأمل الفلسطيني تكمن قصة الطوفان في حرب معلنة على ثقافة المقاومة وحواضنها وهندسة المجتمع الفلسطيني بالحديد والنار، بعد سنوات من هندسته بأموال المانحين.[5]  وفي معركة الوجود الفلسطينية، لا بد من فولذة ثقافة المقاومة، وبما أنه لا يحمي المقاتلين المتمرسين في الأنفاق إلاّ شبكات حماية تؤدي فيها الثقافة دورها في تصليب الوعي، وهي حافظة لظهور المقاومين، فقد جاء العدد الأخير في هذا السياق، في محاولة منه لكتابة غزة في حرب على الوجود والمخيلة ونزع ما حققه طوفان الأقصى من قفزة في الوعي الفلسطيني، وتجربة تدميرية في المخيلة الصهيونية،[6]  من مخيلة استعمارية مسكونة بقلق الوجود وهشاشته، وحل تناقضاتها الوجودية عبر عسكرة وأمننة هذا الوجود في إخضاع الفلسطينيين والسيطرة عليهم، إلى مخيلة تختبر أشباحها أمام عينها. 

في حرب تتجاوز الإبادة الجماعية إلى إبادة العلاقة بالأرض في نزعة استعمارية إحلالية تبدأ دائماً من الصفر بشكلها المتكرر وزمنها الدائري لآلة المحو الاستعمارية عبر المحاولة المستمرة لمحو المكان وتاريخه وذاكرته وعلاقة السكان الأصليين به، كما ذهبت إلى ذلك سامرة إسمير، ولمواجهة هذا الشكل فوق الإبادي، والذي لا يكون إلاّ من الأرض وعلى الأرض، وفي بحثنا عن إرشادات سياسية وثقافية ومعرفية عبر تتبُع تفصيلات الكارثة والمعاناة بكل جغرافيات فلسطين التي قسّمها الاستعمار الصهيوني ووحّدتها الإرادة، وفي حرب متواصلة من بتر الناس من الأرض والحكاية، كُتب هذا العدد، في محاولة منه للملمة أشلاء الجغرافيا وما تصادى معها من أصوات الناس القادمة من أهوال الكارثة.

وبما أن الحرب هي على الوعي كما هي على الأرض والإنسان، ولعل الصرخة الغاضبة لمظفر النواب في قصيدته "في الوقوف بين السماوات ورأس الحسين" تُحذر من سقوط آخر المعاقل: "احذر أن تُزرَع إسرائيل في رأسك"، فقد كان الطوفان في الوعي وفي العقول والأفئدة لا يقل أهمية عن طوفان العبور، لذلك لا خير في معرفة تفر من معركتها، في تثوير الوعي ونقده.

 

[1] وليد دقة، "السيطرة بالزمن"، "أوان"، 16/6/2021.

[2] جمال حويل، "معركة مخيم جنين: التشكيل والأسطورة (نيسان 2002)"، رسالة ماجستير (إشراف عبد الرحيم الشيخ)، جامعة بير زيت، 2012.

[3] خالد عودة الله حاوره عبد الرحيم الشيخ، "فلسطين من القدس إلى غزة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024).

[4] عبد الرحيم الشيخ، "غزة: القلب المفتوح"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024).

[5] بلال عوض سلامة، "طوفان المقاومة: متلازمة البأس الاستعماري وثقافة الأمل الفلسطيني"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024).

[6] عبد الجواد عمر، "العبور ’كتجربة تدميرية‘"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024).