الدعوات الإسرائيلية إلى إحياء "مستوطنات غزة"... الدوافع والاحتمالات
Année de publication: 
Langue: 
Arabe
Nombre de pages: 
11

خلفية تاريخية

في الخلفية التاريخية كانت فكرة بناء مستوطنات داخل قطاع غزة قد طُرحت من جانب رئيس وزراء إسرائيلي ينتمي إلى "اليسار الصهيوني" (حزب العمل مؤسس الاستيطان في الضفة الغربية) هو يتسحاق رابين وزميله الجنرال العمالي الراحل يغآل ألون، وذلك بعد حرب 1967 من خلال "خطة الأصابع الخمس" الهادفة إلى بتر القطاع إلى نصفين. وفعلاً، بدأت عملية بناء المستوطنات داخل قطاع غزة سنة 1973 مع بناء بؤرة استيطانية أولى هي ناحال قطيف، ومع السنوات بُنيت داخل القطاع 21 مستوطنة، 16 منها بين دير البلح ورفح تعرف باسم غوش قطيف، وخمس في شمال القطاع.

وفي سنة 2005 تم إخلاء مستوطنات غوش قطيف ضمن ما عرف بخطة "فك الارتباط" عن غزة التي بادر إليها أريئيل شارون، وقد شملت إخلاء 8000 مستوطن من غزة و2000 من مستوطنات شمالي الضفة. وتمّت المصادقة على "فك الارتباط" في الكنيست بصعوبة كبيرة بسبب معارضة حزب شارون (الليكود) للخطة التي أيدها على مضض بنيامين نتنياهو وبعض قادة الحزب، ولم يكن في الإمكان تمرير قرار المصادقة لولا تصويت النواب العرب معها، على الرغم من أن إسرائيل لم تنسق بشأنها مع السلطة الفلسطينية. في ذلك الوقت زعم معارضو "فك الارتباط" أنه، وعلاوة على الاستيطان المشروع في أي نقطة من "أرض إسرائيل"، فإن مستوطنات غوش قطيف تشكل درعاً لمستوطنات النقب. في المقابل ادعى المؤيدون أن السيطرة على مليون ونصف مليون فلسطيني داخل القطاع تنطوي على عبء ديموغرافي وأمني واقتصادي وأخلاقي على إسرائيل.

وبتوجيه من شارون أخلت قوات الأمن المستوطنين من غوش قطيف بحساسية ونعومة، على الرغم من تحصّن بعضهم على أسطح المنازل ومقاومة الإخلاء بدون عنف، لكن باحتجاج كبير ووسط مشادات.

وفي ظل تنامي الصعوبات والمشكلات داخل الليكود بعد إقرار "فك الارتباط" بادر شارون في العام نفسه إلى تشكيل حزب كاديما المبني على أوساط في الليكود وأحزاب أُخرى، منها بعض قادة حزب العمل، أمثال شمعون بيرس تزامناً مع حلّ الكنيست السادس عشر. وقبل خوض الانتخابات دخل شارون في غيبوبة حتى مماته.

وتفاوتت الشروحات حول دوافع خطة "فك الارتباط" بين مَنْ قال إنها جاءت لصرف الأنظار عن فضائح فساد تورط فيها وولداه عمري وغلعاد، وبين مَنْ اعتبرها هرباً من الأثمان الباهظة للإبقاء على مستوطنات داخل غزة، في حين اعتبر مراقبون آخرون أنها جاءت بدوافع ديموغرافية، كمحاولة لحماية الطابع اليهودي، أو منع قيام دولة فلسطينية، بدليل أنها نُفذت من دون أي تنسيق مع السلطة الفلسطينية. وبعد ثلاث سنوات ظهرت فكرة العودة إلى غوش قطيف، وكان وزير البناء والإسكان الإسرائيلي الأسبق أوري أريئيل، الذي يعتبر أحد قادة المجلس الاستيطاني "يشع"، تحدث عن إمكان العودة قائلاً في مؤتمر للصهيونية الدينية "سنعود إلى غوش قطيف عاجلاً أم آجلاً."[1]

منذ فك الارتباط عن غزة عام 2005 كانت فكرة العودة إلى مستعمرات غوش قطيف تراود بعض الجهات اليهودية المتشددة والغيبية، لكنها بقيت محصورة في دوائر ضيقة جداً لعدم واقعيتها واعتبارها فكرة عبثية أو "مجنونة"، لكنها عادت لتُطرح من جديد بعد السابع من أكتوبر، وتجد هذه المرة تأييداً أكبر بكثير مقارنة بما كان قبل الحرب على غزة وسط تأييد علني واضح من وزراء ونواب كنيست.

بعد أسابيع قليلة من السابع من أكتوبر بدأت مجموعات استيطانية طلائعية تنظّم صفوفها من أجل إطلاق مشروع إحياء مستوطنات غوش قطيف داخل قطاع غزة. وفيما يقوم بعضها بخطوات عملية وتسجيل آلاف الإسرائيليين الراغبين في العودة، يرى البعض الآخر أنه لا بد من التريث واستكمال المرحلة الأولى من المشروع بـ "تأليف القلوب" وإقناع المعنيين المحتملين أولاً بالفكرة. وفي المقابل حذرت وما زالت أوساط إسرائيلية تحذر من الفكرة التي تمس بوحدة الإسرائيليين وبالشرعية الداخلية والدولية للحرب ضد "حماس".

وخرجت الفكرة عن إطار التخاطب السياسي والثرثرة العامة؛ فبدأت بعض شركات العقارات الإسرائيلية، وأبرزها شركة "هار زهاف"(جبال الذهب) بنشر إعلانين يكشفان عن تخطيط مستقبلي لمشاريع بناء وإسكان داخل قطاع غزة. ونشرت هذه الشركة الإعلان الأول تحت عنوان "الآن وبسعر الاستفتاح"، وإلى جانبه خريطة القطاع مع المستوطنات الجديدة، بعضها يحمل أسماء مستوطنات تم إخلاؤها عام 2005، مثل نفيه قطيف وكفار دوغيت ودكاليم ونوبا. وفي الإعلان الثاني بعنوان "استيقظوا، بيت على الساحل، هذا ليس حلماً"، نُشرت رسومات للبيوت المنوي بناؤها وتسويقها، وفي خلفيتها صور بيوت الفلسطينيين المدمرة.[2]

وبادرت شركات عقارية إسرائيلية أُخرى إلى نشر إعلانات تجارية مشابهة في مجلة "زمان إسرائيل" تحت عنوان لا يخلو من الشماتة هو "العوم في بحر غزة"، بينما تستعد المنظمات والجهات الإسرائيلية الملتفة حول هذه الفكرة لعقد مؤتمر عام لها في مؤسسة "مباني الأمة" في القدس في 28 كانون الثاني/يناير الجاري تحت عنوان "دعوة إلى الاستيطان في ناحية غزة"، ومن المزمع أن يتحدث فيه عدد من الخطباء، منهم نواب في الكنيست. وقد توجه حتى الآن آلاف الإسرائيليين بطلب الانضمام إلى المجموعات المبادرة لتطبيق فكرة إحياء الاستيطان داخل القطاع.[3]

احتمالات الفكرة

ربما يدل نشر صور المنازل الفلسطينية المدمّرة في الإعلانات المذكورة وغيرها على الرغبة الإسرائيلية العامة في الانتقام من الفلسطينيين أينما يكونوا، والإمعان في محاولة كيّ وعيهم وردعهم عن اختبار "قوة اليهود"، أكثر مما يدلّ على مشروع جديد عملي حقيقي لبناء مستوطنات الآن، وتسويق بيوت ستقام فيها. ومع ذلك لا يمكن الاستخفاف بمثل هذه الفكرة الإسرائيلية المتصاعدة حتى إن بدت شيطانية أو غير واقعية، فنظرة إلى الخلف كافية لتظهر أن كثيراً من الحقائق على الأرض لم يكن من الممكن تخيّلها ربما في الماضي، حتى إن الصهيونية الأصلية قامت ونجحت على فكرة تبدو ضرباً من الخيال، وخصوصاً لدى الحديث عن حكومة غيبية متطرفة، حتى الرئيس جو بايدن وصفها بالأكثر تطرفاً.

موقف مختلف القطاعات في إسرائيل

لم يتردد وزير المالية والوزير الإضافي في وزارة الأمن المستوطن بتسلئيل سموتريتش في تكرار دعوته إلى بناء المستوطنات مجدداً داخل القطاع بحجة "خدمة الأمن"، غير مكترث بـالانتقادات المحلية والدولية المتوقعة، كما لم يكترث بأي شيء حينما دعا قبل ذلك إلى حرق حوارة: "في اليوم التالي لن نعود إلى قطر ولا إلى مصر ولا إلى السلطة الفلسطينية. نحن سنسيطر هناك أمنياً ولمدة طويلة، ولذلك نحن ملزمون بالتواجد هناك مدنياً مع استيطان. لن نسمح ببقاء دفيئة داخل غزة فيها مليونا نسمة يطمحون إلى تدمير إسرائيل. تشجيع الهجرة طواعية ينبغي أن يكون جهداً قومياً."[4]

وتندرج هذه الدعوة إلى إحياء الاستيطان بالتزامن مع تشجيع أهالي غزة على "الهجرة بإرادتهم" (تخفيف مصطلح "تطهير عرقي") في إطار نظرية الحسم التي كشف عنها سموتريتش عام 2017، وهي نظرية لإنهاء الصراع بالقوة المفرطة المبنية على تخيير الفلسطينيين بين الموت، أو الخضوع، أو الهجرة، وهي تشمل الحسم العسكري والحسم الاستيطاني القائمين على القوة وفرض الحقائق على الأرض.[5]

ولا يختلف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عن سموتريتش في موضوع التدمير والتهجير وبناء الاستيطان مجدداً داخل القطاع، وإنما يزايد عليه إلى حد القول عدة مرات، آخرها في اليوم الأول من العام الجديد إن "التهجير طواعية" هو "حل محق إنساني وأخلاقي"، لافتاً إلى كونه حلاً يتيح تشجيع عودة مستوطني "غلاف غزة" وسكان "غوش قطيف" إلى ديارهم.[6]

وفي ظل تعنّت حكومة الاحتلال ورفضها التباحث في "اليوم التالي للحرب" ازداد خطاب العودة إلى مستوطنات القطاع، وتسلل إلى داخل الجيش بتشجيع سافر من حاخامات "الصهيونية الدينية"، كما يتجلى من خلال نشر مئات الصور للجنود الغزاة وهم يرفعون شعارات داخل غزة تدعو إلى إحياء مستوطنات غوش قطيف، الأمر الذي اضطر الجيش إلى القول، من خلال الناطق العسكري: "نحن جيش رسمي ووطني والسياسة تبقى في الخارج وكل ما يتعلق بحيازة مساحات جغرافية داخل القطاع ينم عن اعتبارات أمنية فحسب."[7]

ربما بدأت الفكرة في هوامش اليمين الصهيوني المتشدد، لكنها سرعان ما وجدت أنصاراً لها داخل حزب الليكود الحاكم برئاسة نتنياهو، وهناك جهات شرعت في تحضيرات عملية لتطبيقها. وفي محاولة لتطبيع الفكرة كانت وزيرة الاستيطان أوريت ستروك (الصهيونية الدينية) قد قالت في تصريحات إعلامية قبل السابع من أكتوبر وبعده إن العودة إلى ناحية غزة منوطة بعدد كبير من الضحايا، لكن لا شك في أنه في نهاية المطاف هي جزء من "أرض إسرائيل" وسيأتي اليوم الذي نعود فيه إليها.[8]

ومع شنّ الحرب على غزة، وخصوصاً بعد التوغّل البري في 27 أكتوبر الماضي ووصول جنود الاحتلال إلى مناطق في عمق القطاع اتسعت الدعوات إلى العودة إلى مستوطنات غوش قطيف، ووجدت صدى واسعاً لها بين الجنود، وتم توثيق ذلك في أشرطة فيديو يدعو فيها ضباط وجنود إلى تطبيق الفكرة، وذهب بعضهم إلى اعتبار المنطقة كلها "أرض إسرائيل الكبرى" من الفرات إلى العريش.

وتداولت وسائل إعلام ومنتديات تواصل اجتماعي إسرائيلية أشرطة فيديو يظهر فيها فنان يهودي بارز، حنان بن آري، وهو يقدم أغنية "عائدون إلى غوش قطيف"، وأغنية شعبية أُخرى "نقيم ساحل نوبا على شطآن غزة"، وأغنية دينية بعنوان " فلتتذكروني" تدعو إلى الانتقام من الفلسطينيين باقتلاع عيونهم والاستيطان مجدداً في غزة، ومن حوله ضباط وجنود يرقصون. هذا بالإضافة إلى أغان شعبية عبرية كثيرة تدعو إلى الانتقام من الغزيين بتخريب ديارهم وإحراقها على غرار "نحرق حوارة"، وبعد أيام صدر تحفظ خجول من الجيش على لسان الناطق العسكري وتكررّت مثل هذه الدعوات  لحرق غزة على لسان قادة وسياسيين أبرزهم نائب رئيس الكنيست  النائب ناسيم فاطوري.[9]

وتجنّدت مجموعات من المستوطنين لاستغلال حالة الصدمة والغضب والشهوة إلى الانتقام لدى معظم الإسرائيليين بعد السابع من أكتوبر من أجل الترويج للفكرة، فقالت، على سبيل المثال، الناطقة السابقة بلسان مجلس الاستيطان (في فترة فك الارتباط عن غزة) إميلي عروسي، إن صور الجنود على خرائب مستوطنات غوش قطيف تثير في دواخلنا عاصفة وجدانية. ورداً على سؤال عن احتمالات تطبيق الفكرة قالت عروسي إنه "إذا ما رغب الشعب في وجود مستوطنات في القطاع، أو فهم الحاجة إليها، واقتنع بأن هذا عمل صهيوني صحيح، ستتوفر أعداد من المتطوعين للذهاب إلى هناك كطلائعيين، لكن بشرط أن تكون هذه رغبة أغلبية الإسرائيليين. وعن مدى انتشار هذه الرغبة اليوم يتحدث عوديد مزراحي، المرشد في متحف غوش قطيف في القدس المحتلة لتخليد ذكرى مستوطنات غوش قطيف، بقوله: "كان المتحف منذ إقامته قبل 15 عاماً يستقبل عدداً قليلاً من الزوار لكن الأعداد تضاعفت بعد السابع من أكتوبر، كما هي الحال في الأسبوع الأول من يناير 2024."[10]

ولم تخب فكرة العودة إلى مستوطنات غوش قطيف بعد ثلاثة أشهر من السابع من أكتوبر، بل على العكس، الأمر الذي يدل على وجود حماسة لدى هذه الجماعات اليمينية المتشددة التي لم يردعها الكشف عن تقديم جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل بارتكاب إبادة شعب (جينوسايد). وتتجلى هذه الحماسة المتزايدة، في ظل حالة الإحباط الإسرائيلي العام من فشل الحرب في تحقيق أهدافها المعلنة، في تصريحات مديرة حركة "ناحالا" الاستيطانية دانئيلا فايس، في 6 كانون الثاني/يناير 2024، والتي قالت فيها إنها نظمت مع منظمات صهيونية أُخرى فعالية تمهيدية لإحياء الاستيطان داخل القطاع، تمت في مدينة إسدود بحضور ألف شخص.[11]

في المقابل عبرت صحيفة "هآرتس" العبرية عن موقف أوساط إسرائيلية واسعة ترفض الفكرة لدواع متنوعة؛ فقالت في واحدة من افتتاحياتها بعنوان "لا للعودة إلى مستوطنات غزة": إن "الحزب الدولاني" ورئيسه بني غانتس انضموا إلى الحكومة من أجل التجنّد الوحدوي للحرب من دون أن يطالبوا بإخراج المتطرفين الكاهانيين، أنصار الأبرتهايد في كل البلاد، ويبدو أن الحاجة إلى إنقاذ إسرائيل في ساعة أزمة تغلبت على أي اعتبار آخر، لكن المتطرفين داخل الحكومة لم يتنازلوا عن أحلامهم، وهذه بمثابة كابوس بالنسبة إلى الإسرائيليين."[12]

وفي معرض تعليل رفضها للفكرة تنقل "هآرتس" في افتتاحيتها هذه عن مصادر دبلوماسية من دول غربية تساند إسرائيل في الحرب قولها "إن تصريحات الوزراء والنواب المناصرين لإقامة مستوطنات القطاع مجدداً تمس برسائل إسرائيل الدبلوماسية والدعائية. وحالياً نحن نتعامل معها كتصريحات صادرة عن أشخاص هامشيين نسبياً ليسوا شركاء في دوائر صناعة قرارات الحرب، لكننا نتابع الحملة الجماهيرية المؤيدة لفكرة إحياء المستوطنات داخل القطاع." كما حذّر المحامي الإسرائيلي دوف فايسغلاس، المدير السابق لمكتب أريئيل شارون – في فترة فك الارتباط أيضاً - من مغبة التقدم اللفظي والعملي مع هذه الفكرة، فقال إن هذه الحرب تهدف إلى استعادة الأمن لإسرائيل، والدفع عن سكان غلاف غزة، وإزالة التهديد المتمثل في "حماس"، ومضى محذراً: "في حال اتضح أن هناك أهدافاً أُخرى لهذه الحرب، كـتجديد الاستيطان والسيطرة على أرض، أعتقد أن تفهّم العالم للحرب ودعمه لها سيتلاشى إلى حد بعيد، والضرر الأساس سيصيب علاقاتنا مع الولايات المتحدة."[13]

المواقف الدولية

دولياً، حتى الولايات المتحدة ترفض الفكرة الإحلالية، وفي الرابع من الشهر الجاري كشفت مصادر إسرائيلية أن الرئيس جو بايدن طلب من إسرائيل ومن رئيس حكومتها، على وجه التحديد، أن يعلنوا أن طرد أهالي غزة غير وارد. ونقلت "القناة 12" العبرية عن هذه المصادر قولها إن بايدن طالب نتنياهو بذلك خلال المكالمة الهاتفية الأخيرة بينهما، وذلك في أعقاب سلسلة تصريحات صادرة عن مسؤولين إسرائيليين، وخصوصاً الوزيرين بن غفير وسموتريتش اللذين يطرحان الفكرة ويروجان لها.[14]

 وبعدما بلّغت الحكومة الإسرائيلية الإدارة الأميركية أن الفكرة مخالفة للقانون الدولي وغير مطروحة على الأجندة، طلب البيت الأبيض (بحسب "القناة 12") أن يتم ذلك علانية، لكن نتنياهو تثاقل ولم يقل أي شيء في هذا الخصوص إلاّ بعد أسبوع، تزامناً مع انطلاق أعمال محكمة العدل الدولية، إذ قال إن إسرائيل لن تحتل القطاع إلى الأبد. وهكذا عارض رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الفكرة، ليس بالمبدأ وإنما لأنها غير واقعية، بقوله في شريط فيديو إن "عودة المستوطنين إلى غوش قطيف هدف غير واقعي" معللاً الحاجة إلى سيطرة أمنية إسرائيلية على القطاع، بالإشارة إلى ضرورة بقاء غزة منزوعة السلاح وخالية من تهديد لإسرائيل. وقبل ذلك كانت دول أوروبية قد بعثت برسائل سرية إلى إسرائيل مفادها أنها ترى في الفكرة انتهاكاً للقانون الدولي، مثلما ترى في تصريحات بن غفير وسموتريتش تحريضاً.[15]

وتجاهلت الدول العربية الأحاديث الإسرائيلية عن فكرة إحياء مستوطنات غوش قطيف، بما في ذلك الجارة مصر التي أبرزت موقفها المعارض بشدة لفكرة أُخرى تداولت أوساط إسرائيلية فيها، بالتزامن، وهي نقل سكان القطاع إلى سيناء.

خاتمة

وعلى الرغم من تنصل المستوى السياسي في إسرائيل من فكرة العودة إلى غوش قطيف، فإنه لا شك في أن حجم تأييدها قد ازداد وتجاوز المستوطنين أنفسهم، نتيجة السابع من أكتوبر والحرب على غزة المكلفة والموجعة للجانب الإسرائيلي أيضاً. فهذه الصدمة الكبيرة المتمثلة في "طوفان الأقصى" فتحت شهوة الانتقام لدى عدد كبير من الإسرائيليين من خلال توجيه الضربات إلى الفلسطينيين من دون تمييز. وتشمل "سلة الانتقام" الإسرائيلية عقوبات متنوعة، منها القتل والقصف من دون تمييز، كما يشهد واقع حال غزة المدمّرة اليوم، بالإضافة إلى دعوات إلى التهجير، وإلى إعادة بناء المستوطنات داخل القطاع انسجاماً مع تقاليد الاحتلال في الضفة الغربية حيث يتم بناء بؤر استيطانية في مواقع العمليات الفلسطينية في محاولة للانتقام من الفلسطينيين وردعهم. ولا شك في أن وجود القوات العسكرية على أرض غزة بعد التوغل البري في 27/10/2023، قد شجّع الأوساط المذكورة على محاولة إحياء مستوطنات غوش قطيف ولو من باب تأليف القلوب وجعل ذلك جزءاً شرعياً من الخطاب السياسي الإسرائيلي السائد. ربما تبدو هذه الفكرة اليوم بعد أكثر من 100 يوم من الحرب المتوحشة الفاشلة صعبة المنال وعبثية، لكنْ هناك أوساط في إسرائيل ترى أنها ممكنة التطبيق مستقبلاً على مبدأ أن الفكرة الصهيونية أصلاً كانت عبثية وشبه أسطورية عندما طُرحت في القرن التاسع عشر، وقبل أن تتحقق في القرن العشرين. هذه الأوساط تنشغل عمداً بالفكرة، وتقوم بخطوات فعلية تمهيدية كالمؤتمرات والمخططات من أجل "تأليف قلوب " الإسرائيليين أولاً، كما يجري منذ سنوات في محاولة تطبيع فكرة تقاسم الأقصى من خلال "احتلال قلوب اليهود"، ولذا من غير المستبعد أن تبقى حاضرة في الفضاء الإسرائيلي.

 

[1] تقرير للقناة السابعة (قناة المستوطنين) بعنوان: "عائدون إلى غوش قطيف"، 4/8/2008 (بالعبرية).

[2] "إعلانات تسويق بيوت في غزة ترهات لكنها خطرة"، "هآرتس"، 20/12/2023 (بالعبرية).

[3] "إسرائيليون يطلبون تسجيلهم ضمن مشروع إحياء مستوطنات غوش قطيف"، "القناة 12" العبرية، 30/11/2023 (بالعبرية).

[4] "سموتريتش: سنسيطر على القطاع فترة طويلة"، موقع "والا"، 30/12/2023 (بالعبرية).

[5] "خطة الحسم: مفتاح السلام موجود في اليمن"، مجلة "هشولياح"، أيلول/سبتمبر 2017 (بالعبرية).

[6] "سموتريتش عن اليوم التالي في غزة: لا قطر ولا مصر ولا سلام فياض"، موقع "واي نت" العبري الإخباري، 1/1/2024 (بالعبرية).

[7] "عودة الاستيطان اليهودي إلى غوش قطيف"، موقع "واي نت" العبري، 12/11/2023 (بالعبرية).

[8] "من يحن إلى غوش قطيف.. التحضيرات للعودة إلى غزة"، "القناة 12" العبرية، 6/1/2024 (بالعبرية).

[9] "ʾلنحرق غزةʿ: عشية الاجتماع في هاغ - تصريح لنائب رئيس الكنيست فاتوري من شأنه توريط إسرائيل"، "يسرائيل هيوم"، 10/1/2024 (بالعبرية).

[10] "تضاعف عدد الزائرين"، موقع متحف غوش قطيف، 8/1/2024 (بالعبرية).

[11] "بايدن: أوضحت لنتنياهو أن احتلال غزة والبقاء فيها خطأ فادح"، "معاريف"، 16/11/2023 (بالعبرية).

[12] "لا للعودة إلى مستوطنات غزة"، "هآرتس"، 9/11/2023 (بالعبرية).

[13] مقابلة مع "القناة 12" العبرية، 6/1/2024 (بالعبرية).

[14] "الخرائط جاهزة: مؤتمر يدعو إلى الاستيطان في غزة"، "القناة 12" العبرية، 4/1/2024 (بالعبرية).

[15] "الأسبوع الذي فقدت فيه إسرائيل الصحافة في أوروبا"، صحيفة "غلوبس"، 9/11/2023 (بالعبرية).

1
À PROPOS DE L’AUTEUR:: 

وديع عواودة: كاتب وصحافي من بلدة كفر كنا قضاء الناصرة. حائز شهادة ماجستير في تاريخ الشرق الأوسط من جامعة القدس. يعنى بتوثيق الرواية الشفوية الفلسطينية منذ أكثر من عقدين. يرئس تحرير صحيفة "حديث الناس" (الناصرة) منذ سنة 2007، وسبق أن عمل محرراً في صحيفة "كل العرب (1991-2001)".