نامت بيروت يوم الأربعاء الماضي حزينة، ففنان لبنان العالمي حسين ماضي رحل إلى عالم آخر عن عمر ناهز 86 عاماً أمضاها نحتاً ورسماً وحفراً، تاركاً للإنسانية إرثاً فنياً توفر على معظم المدارس الفنية، وبصمة حسين ماضي الخاصة.
ولد ماضي في قرية شبعا جنوب شرق لبنان في عام 1938. قضى طفولته هناك، وترعرع في كنف جده الذي أبدى اهتماماً بموهبة حفيده، فدعمه، وحسين بدوره اغتنى من علاقة جده بالأرض والحقول. وعن هذا المنبت تقول الباحثة وأستاذة تاريخ الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية زينات بيطار إن "منبته الجبلي على كتف جبل حرمون في ضيعته الوادعة شبعا في أقصى الجنوب، ضخ في كينونته الأولى روح الإبداع وأسرار نظام الطبيعة وهندسة خطوط البشر والنبات بتآلف مع النور. وكوّن أبجديته التصويرية، أي منظومة موتيفاته الفنية ( كـ ʾالطير والحصان والثور والرمان والنرجيلة وغيرهاʿ)."[1]
ونظراً إلى عمل والده كدركي في قوى الأمن الداخلي كان يتنقل من منطقة لبنانية إلى أُخرى. تلقى تعليمه المتوسط والثانوي في مدينة النبطية، وبعدها انتقل إلى بيروت، والتحق في عام 1958 بـالأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة “ALBA”التي كانت آنذاك في بناية العازارية في وسط مدينة بيروت القديمة بإدارة ألكسي بطرس، وفي بيروت اكتشف عالماً آخر. وخلال دراسته، كان فقيراً جداً، و"كانت حاجته إلى المال تدفعه للرسم على قصاصات الورق التي يرميها الطلاب المترفون والأغنياء في الأكاديمية. فيتلقفها ليرسم على قفاها"،[2] لكن شغفه في الرسم الذي كان واضحاً أنه يشكل كل حياته ومستقبله دفعه إلى أن "يأتي في الصباح الباكر إلى الأكاديمية قبل الطلاب بحوالى الساعتين، فيفتح له الحارس يوسف الباب، ويدخل إلى المحترف ليرسم بنهم قبل مجيء زملائه."[3]
قرب مبنى الأكاديمية السابق تقع ساحة رياض الصلح، التي كانت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته مركزاً لتجمع سائقي الباصات والسيارات العمومية والعمال، فكان طلبة الأكاديمية، ومنهم ماضي، يرسمون اسكتشات وكروكي للعمال هناك، باعتبارهم "الموديل الحي المتاح".
تخرّج حسين ماضي من الأكاديمية في عام 1962، وعمل رسام كاريكاتور في الصحافة. وفي عام 1963، بعد قيام ثورة البعث في العراق، عمل ماضي في صحيفة "الثورة" العراقية رساماً غرافيكيّاً، وأنجز بعض أعماله التشكيلية الأولى، وبقي في بغداد لأشهر. وفي أواخر عام 1963 سافر إلى إيطاليا، وتحديداً إلى روما، بمنحة دراسية أعلنت عنها الحكومة اللبنانية من خلال مسابقة في النحت والرسم، فشارك في النحت، وحصل على الجائزة الأولى،[4] وهناك درس "الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في روما Accademia di Belle Arti، كما درس فن الفريسك في أكاديمية سان جياكومو Accademia San Giacomo، وأتقن فن الحفر الطباعي والنحت، كان يدرس الفن ويرسم في الشوارع والمقاهي والكنائس ويسافر إلى الريف والمدن الإيطالية الأُخرى كفلورنسا وسينيا والبندقية ليرسم المناظر الطبيعية وفن العمارة والناس والنبات والحيوان وكل ما تقع عليه عيناه، ثم يعود بها إلى روما ليبيعها ويكمل دراسته بثمنها. باع في إيطاليا المئات من أعماله التي غطت مساحة زمنية مزدهرة من عمره الفني. زار أثناء إقامته في روما العديد من الدول والمتاحف الأوروبية ومنها باريس حيث قصد اللوفر ليطلع على الفنون الشرقية القديمة فيه، وكذلك زار لندن ومتاحفها."[5]
تجربة إيطاليا وأعمالها الفنية، لم تعد معه إلى بيروت، حين قرر العودة والاستقرار في عاصمة بلده عام 1987، وظلت غائبة إلى أن عثر عليها مقتني الفنون اللبناني مازن سويد الذي يقول: "هذه المجموعة أتت كمصادفة! تماماً كما يلعب طفل صغير وهو يحفر، وإذ به يكتشف كنزاً. هذا ما حصل معي. لفرحتي بها وددت أن يراها كل الناس، خاصة أنها لم تُرَ من قبل."[6] وقد عُرضت هذه الأعمال في بيروت في عام 2019، وأُدرجت في كتاب بعنوان Unxecpected Trove/ The Unseen Works of Hussein Madi/ Roma 1964-1970 وضعه القيّم والتشكيلي عبد القادري وصدر عن دار دونغولا المتخصصة.
كانت إيطاليا، المكان أو المجال الذي صقل موهبة حسين، وعرّفه على الطريق؛ هناك اكتشف هويته الفنية، وفيها رأى ذاكرته البصرية بعد "قريته" وملأها بما شاهده في المتاحف والمعارض والتجارب الفنية المختلفة. ويقول ماضي عن هذه التجربة: "لم أدرس هناك، ولم أتابع أية مدرسة أكاديمية أو أنكب على دراسة كتب الفن، بل كنت أتعلم وأكتسب من التردد على الغاليريهات والمتاحف، لكي أربي رؤيتي البصرية. وتعلمت أيضاً كيف أتذوق الموسيقى والأوبرا والمسرح، إضافة إلى ما قدمته لي تجربتي في مقابلة الفنانين والتحاور معهم."[7]
خلال إقامته في إيطاليا، التي امتدت نحو 22 عاماً، أقام العديد من المعارض فيها، وفي بيروت، وفي العالم، ووصل عدد معارضه حتى رحيله إلى أكثر من 70 معرضاً فردياً في شتى أنحاء العالم، في حين تتصدر أعماله بعض المجموعات الفنية حول العالم، بما فيها مجموعات المتحف البريطاني، والمتحف الوطني الأردني، ومتحف أينو الملكي في طوكيو، ومتحف سرسق في بيروت. كذلك شارك في بيناليات الإسكندرية والقاهرة وساو باولو، ونال جوائز كثيرة، منها الجائزة الأولى للحفر في إيطاليا عام 1974، وجائزة "الصالون الثامن للنحت" من المركز الثقافي الإيطالي، وجائزة الصالون الخامس لمتحف سرسق، وغيرها. كما دخلت أعمال له في بورصة الفن العالمية في كل من "سوثبيز" و"كريستيز".
وظل مواظباً على المجيء إلى بيروت، خلال وجوده في إيطاليا، فمنذ عام 1972 كان يدرّس الفنون في الجامعة اللبنانية مدة شهرين في كل صيف على مدار 15 عاماً. وفي الفترة 1982-1992 ترأس "جمعية الفنانين اللبنانيين".
الفن كتراث ثقافي
لقبه البعض بـ "بيكاسو العرب" وبرروا ذلك بأن بعض تكويناته تشبه أعمال الفنان الإسباني بابلو بيكاسو (1881-1973)، لكن موقف ماضي، كان عدم إعجابه بهذا اللقب، وكذلك موقف عدد من الفنانين والمبدعين العرب، كالشاعر والناقد الفني اللبناني عباس بيضون الذي قال: "بيكاسو يبني ويدمر بشكل مستمر. إنه مجموعة من الأنماط وبوتقة يصهر فيها المنهجيات الفنية، لكنه يستخدم ديناميكيته الهائلة في أساليبه ومنهجياته المعتمدة مثل الألعاب أو الأدوات لخدمة أهدافه الخاصة. حسين ماضي، من ناحية أُخرى، ليس مدمراً ولا صاهراً للأساليب، ولا يوجد فنان غيره يمثل أسلوبه الفني ... ماضي ليس له نظام محدد للعمل، على الرغم من أن البعض جعله عراباً لأكثر من اختصاص. وقد تحدث في بعض الأحيان عن كونه الآخر في الخطاب ..."[8] وفي السياق ذاته قال ماضي في حوار معه: "أنا أعمل ضمن قواعد الطبيعة وما توحيه لي، وليس ما أتأثر به من الفنانين. هذه أشكالي، لأنني كنت على الدوام مسحوراً بأشكال الطيور، ربما توحي لي دينامية أجنحتها بهذه القوة الخلاقة، التي أرى من خلالها العالم بعينيّ الفنان التشكيلي، سواء كان الشكل إنساناً أو شجرة أو طيراً. نعم تأثرت، ولكني تأثرت بتراث الفن السومري، أو فن بلاد ما بين النهرين، ولا بد أن أشير هنا إلى ماهية تأثير الفن الإسلامي."[9] وبالفعل انتبه إلى فنون الشرق في أثناء دراسته في إيطاليا، فاختار موضوع أطروحته للدراسات العليا "منشأ وتطور الخط العربي، الخط العربي فن قائم بذاته مع صور إيضاحية"، ونال عليها درجة ممتاز.
رؤيته للفن، ربما انسحبت على فهمه للحياة ولقضايا المنطقة التي ينتمي إليها، فقد ولد في قرية تطل على فلسطين المحتلة، وربما بحكم سنة ميلاده شاهد اللاجئين الفلسطينيين حين اجتازوا الحدود هرباً من المجازر التي ارتُكبت في مدنهم وقراهم عام 1948. كل هذا جعل عنده التزاماً بقضايا هذه المنطقة من العالم، وربما ليس سراً أنه كانت تربطه علاقة وطيدة بمؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ هذه العلاقة التي تعكس موقفه الأخلاقي والقومي تجاه القضية الفلسطينية، فعندما توجهت المؤسسة إليه للتبرع بعمل فني في عام 2017 كان من السبّاقين للتبرع معترفاً بالدور الكبير للمؤسسة، وكان هذا التبرع الأول، لكنه لم يكن الأخير، إذ واظب على دعم المؤسسة بأعمال فنية ومنحوتات. وربما ماضي في هذه العلاقة مع المؤسسة جسّد مقولة قالها في أحد حواراته: "حملت ريشتي وأطلقت منها الألوان بدلاً من أن أطلق الرصاص. فهناك شيء آخر في الحياة غير القتل والصراع والدمار: هناك الحب والجمال."[10]
بعض من أقوال ماضي:
"الكلمات غير مفيدة، الفن هو لغتي."
"سوف تتصبب عرقاً ودماً لتصبح فناناً ممتازاً."
"في بعض الأحيان بعد أن أضع اللون على قماش اللوحة، أشعر أن حواسي غير راضية عنها... أخلط الألوان وأعيد تطبيقها على اللوحة حتى أحصل على الظل المطلوب. أصرخ: أهلاً وسهلاً، مرحباً باللون الجديد."
"على الرغم من كل الحوادث المؤسفة، كنت سعيداً للغاية. احتفلت أعمالي الفنية بالحياة. وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي عرفتُ بها كيف أثأر من هذه الحرب الوحشية وغير العقلانية."
[1] زينات بيطار، "حسين ماضي: التآلف بين الزخرفة العربية.. والحداثة الغربية"، مجلة "العربي".
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه.
[4] راجي عنايت، "حسين ماضي: صراع بين جبل حرسون ومتاحف روما"، مجلة "العربي"، العدد 236 (1978).
[5] زينات بيطار، مصدر سبق ذكره.
[6] نيكول يونس، "كتاب قيّم جمع لوحاته الإيطالية: كنوز حسين ماضي المجهولة"، "الأخبار"، 9/10/2019.
[7] شاكر نوري، "الفنان حسين ماضي: الطبيعة معلمتي"، "البيان"، 16/5/2010.
[8] "حسين ماضي.. الفنان والإنسان".
[9] شاكر نوري، مصدر سبق ذكره.
[10] غسان مفاضلة، "حسين ماضي: أطلقت الألوان بدلاً من الرصاص!"، "العربي الجديد"، 8/3/2017.