الحرب على غزة تقلب المعايير في الجامعات الأميركية
Date:
18 janvier 2024
Auteur: 
Thématique: 

ما شهدته قاعات الكونغرس الأميركي في الأسابيع الأخيرة، من "مساءلة" غير مسبوقة لرؤساء أعرق الجامعات الأميركية وأقدمها، طرح عدة تساؤلات بشأن وظائف "الديمقراطية الأميركية" وأدوارها من ناحية السلوكيات التي باتت تطبع العمل المؤسساتي، وبعضها يتناقض مع جوهر مفهوم الحريات الذي تنادي به الولايات المتحدة باستمرار منذ عقود، وهو الشعار الذي غالباً ما يتناقض مع كثير من سياساتها المطبقة، وخصوصاً في مجال السياسة الخارجية، إذ تتغلب المصالح السياسية على المبادىء النظرية والفلسفية.

ولقد شغل موضوع "المساءلة" حيزاً كبيراً في الأوساط الأميركية، وخصوصاً في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي تناولته على مدار شهر كامل. وتنطوي هذه القضية على أهمية خاصة تتعلق بحرية التعبير في المؤسسات التعليمية الغربية بصورة عامة، والأميركية بصورة خاصة.

وللقراءة في دلالات هذا الحدث، تبرُز تساؤلات تتجاوز الإطار الأكاديمي تتعلق بحرية الرأي والتعبير المسموح بها في الجامعات، وباستقلالية التعليم العالي في الولايات المتحدة، ودور الجامعات في تحريك الرأي العام تجاه قضايا معينة.

الجامعات الأميركية وحرية التعبير

لطالما كانت الجامعات الصرح الأكثر أهمية للتعبير عن توجهات الفئات الشابة إزاء القضايا التي تثير الرأي العام، سواء أكانت داخلية أم خارجية، ولا تشذ الجامعات الأميركية عن هذا الإطار، وخصوصاً أن الولايات المتحدة، التي تتزعم النظام العالمي، تعتبر نفسها رائدة الليبرالية في الغرب. كما أن دستور الولايات المتحدة يضمن حرية التعبير في المؤسسات التعليمية، وينص على حماية الخطاب السياسي داخل حرم الجامعة.

ويؤم الجامعات الأميركية طلبة من مختلف الجنسيات، بالإضافة إلى الطلبة الأميركيين. وهذا التنوع هو سيف ذو حدين؛ فمن ناحية، يشكّل واحة لتنوع الثقافات والخلفيات السياسية والاجتماعية، لكن من ناحية ثانية، ربما يكون سبباً في اختلاف الرؤى تجاه قضايا عالمية، ولا سيما فيما يتعلق منها بقضايا حقوق الإنسان. وتنشط في الجامعات مجموعات تدعو إلى المحافظة على حق الطلبة في حرية التعبير وعدم تقييد هذه الحريات تحت أي ذريعة.

وفي أيلول/سبتمبر 2023، أعلنت 13 جامعة أميركية إنشاء مجموعة للدفاع عن حرية التعبير في إطار خطة للمحافظة على حرية التعبير، وللوقوف في وجه ما اعتبرته الجامعات تهديداً للديمقراطية الأميركية. أمّا مؤسسة "Fire: Foundation for Individual Rights and Expression فتُعتبر من أهم المؤسسات التي تعنى بحقوق الطلبة في الجامعات، وعلى رأسها حرية التعبير. وترى المؤسسة أن الحرية الفكرية لا يمكن أن تسير كما يجب إذا كان الطلبة أو أعضاء هيئة التدريس يخشون العقاب بسبب التعبير عن آراء يمكن ألاّ تحظى بشعبية لدى الجمهور بصورة عامة، أو غير مرغوب فيها من جانب مديري الجامعات. كما تشير إلى أن الجامعات تعمد إلى تقييد الحريات لعدة أسباب، منها السياسة، وهو ما يعني وجود قوانين تملي ما يقال أو ما لا يقال، أي تحديد "مناطق لحرية التعبير"، إذ تُحصر في مناطق معينة من الحرم الجامعي فقط، بالإضافة إلى محاولات إدارية لمعاقبة هذه الحرية أو قمعها على أساس كل حالة على حدة، وهو أمر أصبح شائعاً في الأوساط الأكاديمية.[1]

التمويل

تتلقى الجامعات في الولايات المتحدة دعماً مالياً على شكل تبرعات وهبات من مجموعات رجال الأعمال، وجمعيات ومؤسسات كبرى، بالإضافة إلى دعم حكومي تحت مسمى "التمويلات البحثية". وكان الرئيس السابق دونالد ترامب قد هدد الجامعات بحرمانها من التمويلات البحثية الفدرالية في حال لم تحافظ على "حرية التعبير" في الحرم الجامعي، وهو بذلك يشير إلى أكثر من 30 مليار دولار تمنحها الحكومة سنوياً إلى الجامعات على هيئة تمويلات بحثية.[2]

وإذا كانت هناك وجهات نظر تعتبر أن هذا التمويل الفدرالي من شأنه أن يعزز استقلالية الجامعات كمراكز أكاديمية للبحث والتعليم الحر، فإنه ثمة في الوقت ذاته تساؤلات عميقة تُطرح بشأن مآلات هذا التمويل عند بروز إشكاليات معقدة مماثلة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بحيث تمتزج - عن قصد أو غير قصد - المواقف المبدئية بالمصالح السياسية، وتُعطَّل الأولى لمصلحة الثانية.

الحرب على غزة تشعل حرباً أكاديمية

في المرحلة الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، كان واضحاً توجُّه الرأي العام الغربي المؤيد لإسرائيل بشدة بغض النظر عن مستوى الانتقام الإسرائيلي، إلاّ إن تصاعُد وتيرة الحرب وعمليات الإبادة الجماعية ضد المدنيين أحدث تغيراً في توجهات الرأي العام الغربي، وهو ما انعكس أيضاً على الجامعات الأميركية التي شهدت تظاهرات واعتصامات وتحركات ونشاطات تندد بالعدوان الإسرائيلي، وتدعم فلسطين بصورة غير مسبوقة.

لكن التيارات المؤيدة لإسرائيل داخل الجامعات صعّدت في المقابل من تحركاتها، لا في مواجهة المجموعات المؤيدة لفلسطين فحسب، بل أيضاً ضد الجامعات التي باتت عرضة لاتهامات شتى طالت رؤساء الجامعات والقائمين عليها.

وفي هذا المجال، أكدت ديما الخالدي المديرة التنفيذية لمنظمة "فلسطين القانونية" في حديث في أواخر آب/أغسطس 2023، أي قبل الحرب على غزة، أن الجامعات تشهد نشاطاً أكاديمياً ممتداً منذ عقود يهدف إلى وضع قضية الحقوق الفلسطينية في طليعة اهتمامات الجامعات، وهو ما دفع الجماعات المؤيدة لإسرائيل والصهيونية إلى فرض رقابة على أصوات الأكاديميين الداعمين لفلسطين، وأضافت أن فلسطين "مستثناة من حقوقنا في حرية التعبير..."

وفي هذا الإطار، برزت مواقع مهمتها وضع قوائم سوداء تضم أسماء الطلبة والناشطين والأكاديميين المؤيدين لفلسطين والفلسطينيين، والذين ينتقدون إسرائيل، وإلصاق تهمة معاداة السامية ودعم الإرهاب بهم. وأوضحت ديما الخالدي أن موقع Campus Watch كان من أبرز المواقع التي تعد قوائم سوداء ضد الأساتذة الذين ينتقدون إسرائيل. وخلال هذا العام، جرت عدة محاولات لفرض رقابة على الأكاديميين وغيرهم من منتقدي إسرائيل في جامعات الولايات المتحدة،[3] وينعكس نظام الرقابة هذا أيضاً على اختيار وتعيين أعضاء هيئة التدريس، الذين يمكن ألاّ يتم قبولهم بسبب آرائهم ضد إسرائيل.

وعلى مدى ثلاثة أشهر، أي منذ بداية العدوان على غزة، تعرّض الطلبة المؤيدون لفلسطين لممارسات وضغوط كبيرة وصلت إلى حد التهديد بفصلهم من كلياتهم، وتقول إحدى الطالبات إن هذه الممارسات والمضايقات تتم بصورة منهجية ومتعمدة تحت اسم مكافحة معاداة السامية، فتتم ملاحقة كل من ينتقد إسرائيل، وأضافت أن هناك استثناء لقاعدة حرية التعبير فيما يتعلق بإسرائيل، فعلى الرغم من أنها أميركية، ففي حال انتقدت دولتها تتعرض لمضايقات وضغوط أقل مما تتعرض له عندما تنتقد إسرائيل.[4]

لكن اللافت أن كل هذه الضغوط لم توقف النشاط الطلابي ضد الحرب على غزة، وهو ما أوقع رؤساء الجامعات في مأزق كبير، إذ باتوا أمام خيارين؛ إمّا منع النشاطات والتظاهرات، وهذا يضع الجامعات أمام مساءلة بشأن حرية التعبير المصانة في الدستور الأميركي، وإمّا السماح لجميع الأطراف بالتعبير عن آرائهم، وهذا بدوره سيضعهم في مواجهة تهمة تأييد المحرضين على اليهود وإسرائيل. وهذا ما ظهر فعلاً في وسائل الإعلام، وخصوصاً في عدد من الصحف التي نشرت مقالات تتهم جامعة هارفرد، على سبيل المثال، بأنها تؤيد "الإرهابيين".[5] وقد تصاعدت وتيرة الهجوم على رؤساء الجامعات، وبرزت دعوات من طلبة وسياسيين ورجال أعمال ومؤسسات تطالب باستقالة رؤساء الجامعات المستهدفين.

وفي سابقة تؤشر إلى مدى تأثير هذه التحركات في الرأي العام الأميركي، عُقدت جلسة مساءلة في الكونغرس الأميركي في 5 كانون الأول/ديسمبر الماضي، استُدعي إليها رؤساء ثلاث جامعات أميركية (جامعة هارفرد، وجامعة بنسلفانيا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) لمساءلتهم في جلسة حملت اسم "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية".[6]

وجاءت هذه الجلسة بمثابة توجيه أصابع الاتهام إلى الجامعات الثلاث، ولو بصورة غير مباشرة، فعلى مدى خمس ساعات واجهت ثلاث نساء، هنّ رؤساء الجامعات، سيلاً من الأسئلة التي وجهها نواب في الكونغرس، تناولت موقفهن من الدعوات التي تتضمن "معاداة للسامية"، أو "إبادة اليهود".

وبعد أربعة أيام من جلسة الاستماع، ونتيجة الاتهامات والضغط الكبير، استقالت ليز ماجيل، رئيسة جامعة بنسلفانيا، من منصبها، كما استقال سكوت بوك، رئيس مجلس الأمناء في الجامعة. ويرجح كثيرون أن استقالة ماجيل لم تكن وليدة الحرب على غزة فقط، فهي تعرضت لضغوط كبيرة في أيلول/سبتمبر 2023 الماضي لمنع تنظيم مهرجان أدبي فلسطيني في الجامعة، لكن مهرجان "فلسطين تكتب" عُقد بحضور أكثر من 1500 شخص احتفلوا بالأعمال الأدبية الفلسطينية، على الرغم من التهديدات والهجمات التي شنتها جماعات مؤيدة لإسرائيل.[7]

أمّا مجلس إدارة جامعة هارفرد، فقد أعلن أن كلودين جاي ستبقى في منصبها رئيسة للجامعة، لكن لم يدم الأمر أكثر من أسبوعين حتى أُجبرت على الاستقالة من منصبها بعد توجيه اتهامات جديدة لها بالسرقة الأدبية، وفي بيان الاستقالة قالت جاي: "أصبح من الواضح أنه من مصلحة جامعة هارفرد أن أستقيل حتى تتمكن الجامعة من تجاوز هذه المرحلة الصعبة للغاية عبر التركيز على المؤسسة بدلاً من الفرد."[8]

والجدير بالذكر هنا أن إدارة هارفرد وقفت إلى جانب رئيستها بعد جلسة الاستماع وساندتها بقوة، ففي 12 كانون الأول/ديسمبر 2023، أصدرت الجامعة بياناً يدعم الدكتورة جاي، ويمنحها الثقة بأنها الشخص المناسب لرئاسة الجامعة، ومباشرة، بدأت جاي وفريق عملها وضْع خطة جديدة لمعالجة الأمور في الجامعة،[9] قبل أن يتضح أن الضغوط التي مورست على إدارة الجامعة من الممولين والسياسيين لم تكن لتسمح لجاي بالبقاء في منصبها.

وقد كشف الضغط الكبير والمتصاعد على كبريات الجامعات الأميركية أن القسط الأكبر من الدعم المادي الذي تتلقاه هذه الجامعات يأتي من مؤسسات وأفراد، إمّا يهود، وإمّا من المؤيدين لإسرائيل، وهي في النهاية خاضعة للوبي الصهيوني. وتصل المبالغ التي تتلقاها الجامعات إلى ملايين الدولارات سنوياً على شكل هبات ومنح دراسية.

لكن بغض النظر عن مسألة التمويل التي تستغلها إسرائيل والمؤيدون لها، وبغض النظر عن التأييد المطلق لإسرائيل من المحافظين، فإن هناك إشارات جديدة لا بد من أن تكون لها دلالات مستقبلية يجب التوقف عندها:

  • الملفت أن ما قبل الحرب على غزة لن يكون كما بعدها في الإطار الأكاديمي، فالمسألة باتت تتخطى حرية التعبير أو تقييدها، إذ بات على الجامعات التنبه جيداً إلى توجهات الطلبة الأميركيين تحديداً إزاء قضية فلسطين. فما أظهرته التحركات والنشاطات والتظاهرات والاعتصامات والشعارات التي تتردد في حرم الجامعات يشير إلى تأييد كبير باتت قضية فلسطين تحظى به لدى شريحة كبيرة من الطلبة الأميركيين، ولم يعد الأمر مقتصراً على الطلبة العرب أو المؤيدين لهم.

  • إن التحول الكبير في نمط التفكير لدى الفئات الشبابية في الولايات المتحدة تجاه القضايا العادلة، ومنها قضية فلسطين، يمكن أن يؤدي في المستقبل القريب إلى بروز قيادات سياسية ذات رؤى مختلفة تماماً عن الرؤى التقليدية المؤيدة لإسرائيل.

  • هذا التغير يقود بدوره إلى تساؤل آخر يتعلق بإمكان إنشاء جماعات ضغط عربية قادرة على تقديم دعم مالي على شكل هبات ومنح دراسية، فيكون لها تأثير مشابه، إن لم يكن مماثلاً، للوبي الصهيوني. وهذا من شأنه أن يشكل دعماً قوياً للطلبة الفلسطينيين والعرب والمؤيدين لقضية فلسطين، ويجعلهم في منأى عن سياسة انتقامية تواجههم، سواء في الجامعات أو في سوق العمل مستقبلاً.

وختاماً، يتناول المفكر الأميركي نعوم تشومسكي ما يسميه "الديمقراطية المنقوصة" أو "تقويض الديمقراطية"، ويوضح أن ثمة صراعاً حاداً وقوياً على امتداد التاريخ الأميركي بين الضغط من أجل حرية وديمقراطية أكثر (وهذا متأتٍ من الطبقة الدنيا)، وجهود النخبة لبسط السيطرة وفرض النفوذ من أجل ديمقراطية منقوصة (وهذا مصدره الطبقة العليا).[10]

لقد أسقطت حرب غزة كثيراً من الأقنعة والشعارات الزائفة، ووضعت اللاعبين الكبار أمام امتحان صعب في الإنسانية. وفي نهاية المطاف، ربما لن تستطيع الولايات المتحدة مواصلة دعمها غير المحدود لإسرائيل ورفع شعارات براقة تتحطم كل يوم على أرض غزة وفي سمائها.

 

[1] “What are My Rights on Campus? FIRE has the answer”, FIRE: Foundation for Individual Rights and Expression:

[2] عبير العدوى، "ترامب يهدد جامعات أمريكا: حرية التعبير أو الحرمان من التمويلات البحثية"، "مبتدأ"، 3/3/2019.

[3] "كيف أصبحت فلسطين في قلب معركة حرية التعبير في الجامعات الأميركية؟"، "بالعربية"، 26/8/2023.

[4] "حرب غزة.. الولايات المتحدة تفشل في اختبار ’الحريات الجامعية‘"، "الأناضول"، 16/12/2023.

[5] Ingrid Jacques, “Harvard for Hamas? Something is very Twisted on America’s University Campuses”, USA Today, 12/10/2023.

[6] "’حرية التعبير‘ في مهب الريح.. كيف يشعل عدوان إسرائيل على غزة الجامعات الأميركية؟"، "عربي بوست"، 16/12/2023.

[7] "فلسطين تكتب.. مهرجان أدبي للاحتفال بالثقافة الفلسطينية في أمريكا يحقق نجاحاً واسعاً على الرغم من تهديدات اللوبي الإسرائيلي"، "بالعربية"، 26/9/2023.

[8] "رئيسة هارفارد تتنحى عن منصبها بعد ضغوط اللوبي الإسرائيلي"، "الجزيرة"، 3/1/2024.

[9] Maureen Farrell and Rob Copeland, “How Harvard’s Board Broke Up With Claudine Gay”, New York Times, 6/1/2024.

[10] عبير فؤاد، "في أمريكا.. الصراع من أجل الديمقراطية لم يتوقف"، "عربي 21"، 27/1/2023.