في الأشهر الأخيرة، بات تطبيق المحادثة الروسي، تلغرام، يشهد إقبالاً ملحوظاً لدى الشبان الفلسطينيين، ومع أن تصميم هذا التطبيق يعود إلى سنة 2013 على يد الأخوين الروسيَّين نيكولاف وبافيل دوروف، إلاّ إنه لم ينتشر بصورة كبيرة في المجتمع الفلسطيني على غرار تطبيقات أُخرى، كتطبيق واتساب المملوك لشركة ميتا الأميركية حتى وقت قريب.
ومنذ أن بدأت الضفة الغربية تشهد تصاعداً في حالة المقاومة وفي الاقتحامات الممنهجة والاستهداف من جانب قوات الاحتلال، أخذ تطبيق تلغرام يحظى بشعبية متزايدة في صفوف الشبان الفلسطينيين، ولا سيما أنه لا يخضع للرقابة نفسها التي تخضع لها التطبيقات الأُخرى، وتحديداً التابعة لشركة ميتا، فهو لا يفرض قيوداً على المحتوى الفلسطيني كغيره من منصات التواصل الاجتماعي، كما يسمح بتناقُل المرفقات من فيديوهات وصور تصنفها شركة ميتا "عنفاً" أو "تحريضاً". كذلك ساهمت سهولة استخدامه وإمكان انضمام عدد غير محدود من المشاركين إلى قنواته وإمكان بث الرسائل المكتوبة والمسجلة والمصورة في انتشاره بصورة كبيرة فلسطينياً.
في البداية، استخدم الشبان الفلسطينيون التطبيق لمتابعة قنوات مختصة برصد ومتابعة تحركات قوات الاحتلال والاقتحامات في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وللتواصل فيما بينهم، وقد ساهمت هذه الوسيلة في أحيان كثيرة في إنقاذ المطارَدين وتجهُّزهم واستعدادهم لصد اقتحامات قوات الاحتلال وإفشالها. ومع الوقت، بدأ التطبيق ينتشر في مختلف المناطق، وتزايد إنشاء قنوات متعددة تهدف إلى رصد تحركات الاحتلال في كل منطقة على حدة، ولا سيما في ظل نشاط مجموعات المقاومة في الضفة الغربية التي أنشأت بدورها قنوات خاصة بها، وأخذت تستخدم التطبيق كمنبر إعلامي تبث فيه بياناتها وفيديوهاتها ورسائلها إلى جمهورها من دون حجب أو رقابة عبر قنواتها الخاصة.
وكانت الفصائل الفلسطينية قد سبقت مجموعات المقاومة في الضفة الغربية في إنشاء قنواتها على التطبيق بفترة وجيزة، كما بدأت القنوات الإخبارية الفلسطينية في تلك الفترة تبث الأخبار مباشرة عبر قنواتها على تلغرام من دون تعرُضها للرقابة.
طوفان الأقصى وصعود تلغرام
منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بات تلغرام أحد الخيارات المحدودة للفلسطينيين لتناقُل الأخبار في ظل الحرب الشعواء التي شُنت على المحتوى الفلسطيني، والمحتوى الداعم للمقاومة والمؤيد للقضية الفلسطينية، والتصاعد غير المسبوق في محاربته؛ إذ حظرت المنصات التابعة لشركة ميتا على وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك إنستغرام، كثيراً من المحتوى الفلسطيني، وقيدت انتشاره ضمن سياسة سابقة تشتد وتيرتها بالعادة مع كل عدوان إسرائيلي.
فقد رصد مركز صدى سوشيال 14,000 انتهاك للمحتوى الفلسطيني، والمحتوى المناصر له على منصات التواصل الاجتماعي، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، منها 3000 انتهاك في تشرين الثاني/نوفمبر، وهذا العدد هو 41 ضعف العدد الذي سُجّل في الشهر نفسه من سنة 2022. وبحسب التقرير، فقد تنوعت هذه الانتهاكات بين حظر تام لصفحات الناشطين والمؤسسات الإعلامية، وتقييد انتشارها وحظرها موقتاً أو جزئياً عن طريق حظر إمكان النشر أو البث المباشر وغير ذلك، وكان تطبيقا فيسبوك وإنستغرام من أكثر التطبيقات استهدافاً للمحتوى الفلسطيني.[1]
وقد بات واضحاً لمن يتابع تطبيقات ميتا، وخصوصاً فيسبوك وإنستغرام، حجم التضييق الخانق على هذه المحتويات؛ إذ يُلاحَظ أنه منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة، بدأت تظهر عبارة أسفل كل منشور يتعلق بفلسطين على فيسبوك تفيد بأن التعليقات على المنشور مقيدة أو ممنوعة، فضلاً عن التنبيهات والتحذيرات وحذف المنشورات التي أصبح يعاني جرّاءها كل المستخدمين الفلسطينيين وكل المناصرين لهم.
ويضع الاحتلال وداعموه جهوداً كبيرة في فرض قيود على المحتوى الفلسطيني، بما في ذلك تعاون مباشر مع شركات كشركة ميتا، عن طريق توظيف من خدموا سابقاً في وحدات تكنولوجيا المعلومات في جيش الاحتلال في هذه الشركات. غير أن الاحتلال وداعميه واجهوا معيقات في التحكم ببعض وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها منصة إكس (تويتر سابقاً) وتك توك، وتلغرام بصورة خاصة، إذ وُجهت إلى تطبيق تلغرام طلبات بحذف القنوات التابعة لحركة "حماس" وجناحها العسكري، لكن مؤسس التطبيق رفض هذه الطلبات، معتبراً أن من حق كل شخص متضرر من الحرب التمتع بإمكان الوصول بصورة موثوقة إلى الأخبار والتواصل، كما اعتبر أن التطبيق يساعد الخبراء والباحثين والصحافيين والمختصين على التحقق من المعلومات، وأن حجب القنوات سيعقد الوضع الصعب أصلاً.[2]
لكن ذلك لم يوقف الاحتلال وداعميه عن المطالبة بحظر القنوات التابعة لحركة "حماس"، إذ تدخلت شركتا آبل وغوغل بالضغط على تلغرام لحذف تلك القنوات تحت طائلة التهديد بحجب التطبيق عن متجرَيهما على الهواتف الذكية، وهو ما أدى إلى رضوخ تلغرام وحظر القنوات جزئياً.[3] وفي المقابل، أتاح تلغرام إمكان تجاوز الحظر عبر خيار تحميل التطبيق من الموقع الرسمي له مباشرة لتجاوز القيود التي تفرضها آبل وغوغل.[4]
والملاحظ أنه مع كل هذه الضجة والضغوط لحذف القنوات الفلسطينية، لم يتطرق أحد إلى التحريض في القنوات الإسرائيلية على تطبيق تلغرام، من تحريض مباشر، ودعوات انتقام وقتل وتدمير ضد الفلسطينيين، استمراراً لازدواجية المعايير الغربية، وخنق المحتوى الفلسطيني لتغييب الرواية الفلسطينية، في الوقت الذي يُفتح الباب على مصراعيه للمحتوى الإسرائيلي، حتى لو كان "إجرامياً".
جنود الاحتلال يكملون المهمة على الأرض
منذ بداية العدوان، أخذت قوات الاحتلال تحاسب الفلسطينيين في الضفة الغربية، والداخل المحتل أيضاً، على ما ينشرونه على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد اعتُقل عدة فلسطينيين على خلفية منشور على الفيسبوك، أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي.
ولاحقاً، أخذت قوات الاحتلال تفتش هواتف الفلسطينيين على الحواجز، وتبحث فيها عن أي منشور أو صورة على وسائل التواصل الاجتماعي تؤيد المقاومة أو تناصر أهالي غزة، فوجود موادّ كهذه كفيل باعتقال صاحب الهاتف، وتوجيه تهمة "التحريض على العنف" إليه، أو إبراحه ضرباً وتحطيم هاتفه. لكن مع تشديد الخناق على المحتوى الفلسطيني، وتجنُّب الفلسطينيين نشر منشورات من هذا القبيل تحت وطأة الرعب الذي بثه الاحتلال، أخذ جنود الاحتلال يجولون في التطبيقات بحثاً عن الرسائل الشخصية التي ربما يكون فيها أي شيء يعبّر عن تأييد للمقاومة، حتى لو بتلميحات بسيطة.
ومع تحول تلغرام إلى المنصة الأبرز لتناقل الأخبار والمعلومات في هذا العدوان، أصبح جل تركيز جنود الاحتلال منصباً على وجود التطبيق على الهاتف، مستخدمينه كذريعة للاعتداء على الشبان، وخصوصاً إذا وجدوا أي صورة أو مقطع إخباري مصور حتى على القنوات الإخبارية العامة، وحتى لو لم يشاركها صاحب الهاتف أو ينشرها أو يعلق عليها.
واليوم، أصبح وجود تلغرام نفسه على الهاتف كفيلاً بالتعرض للضرب المبرح أو الاعتقال، من دون أن يكلف جنود الاحتلال أنفسهم عناء فتح التطبيق للاطلاع على محتواه. ومؤخراً، اعتدى جنود الاحتلال على أحد الشبان الفلسطينيين في أثناء مروره على حاجز فجائي بسبب عدم وجود تلغرام على هاتفه، إذ ادعى جنود الاحتلال بأن الشاب قد حذف التطبيق قبل مروره على الحاجز، وأبرحوه ضرباً حتى كاد يغشى عليه، وألقوه على قارعة الطريق.[5]
وقد أثارت هذه الحادثة نوعاً من التهكم الممزوج بالقلق في أوساط الشبان الفلسطينيين، إذ أصبح وجود تلغرام وعدمه سيّان لدى جنود الاحتلال، فقرار التنكيل بالفلسطيني وضربه وإهانته على الحواجز أصبح خاضعاً لمزاج جنود الاحتلال الذين يتخذون من تطبيق تلغرام ذريعة للتنكيل بالفلسطينيين من دون أي سبب.
يستهدف الاحتلال الفلسطينيين في الواقع المادي والافتراضي تحت ذريعة "التحريض" بصورة مستمرة، غير أن هذا الاستهداف قد تضاعف منذ عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان وإبادة إسرائيليين ضد قطاع غزة. وبعيداً عن ذرائع الاحتلال، فإن مشكلته مع تلغرام، كحالة، هي أنه يريد عزل الفلسطيني عن محيطه، وحرمانه مصادر تشكيل الوعي الفلسطيني المقاوم للاحتلال وجرائمه، أو المشاركة في تغطية الانتهاكات التي يتعرض لها. وهذا الجهد متصل بتمكين الاحتلال إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني بالطريقة التي تتوافق مع أهدافه ومشروعه الاستعماري الاستيطاني بغياب مقاومة فلسطينية ورواية من وجهة نظر فلسطينية.
وينصب التركيز على تلغرام، مؤخراً، لأنه شبه منفلت من عقال الهيمنة الغربية، التي سخّرت كل أدواتها، الصلبة والناعمة، في خدمة المشروع الصهيوني الاستعماري ومجهوده العسكري وروايته للحكاية. ولا تهدف هذه الكلمات إلى الترويج والدعاية لتطبيق على غيره، وإنما هي محاولة لتسليط الضوء على تجربة التطبيق، علماً بأن غيره من التطبيقات، كتطبيق تك توك الصيني، واجهت ضغوطاً كبيرة في الولايات المتحدة بسبب انحيازها إلى الرواية الفلسطينية، بحسب الزعم الإسرائيلي الغربي.
وتشير هذه التجربة إلى أنه من المهم إيجاد بدائل بعيدة عن الهيمنة الغربية، ومع أن وسائل التواصل الاجتماعي ربما تبدو للوهلة الأولى مجرد مساحات للتسلية والترفيه، لكنها إحدى أهم أدوات الهيمنة الغربية وركائز قوتها الناعمة التي توظفها في خدمة مصالحها الإمبريالية.
[1] "مسارات جديدة من حجب السردية الفلسطينية الرقمية، التقرير الشهري - نوفمبر 2023"، "صدى سوشال"، 2023.
[2] "مؤسس ’تلغرام‘ يعارض حجب حساب ’حماس‘ في التطبيق"، "أر تي"، 13/10/2023.
[3] "تلغرام.. متنفّس للمقاومة الفلسطينية أغلقت أبوابه آبل وغوغل"، "الجزيرة"، 3/11/2023.
[4] "قنوات ’حماس‘ على ’تلغرام‘ تتعرض للحجب جزئياً"، "أر تي"، 24/10/2023.
[5] "بحجة عدم وجود تطبيق ’تلغرام‘ على هاتفه.. قوات الاحتلال تعتدي بالضرب على شاب من بلدة عبوين"، وكالة وطن للأنباء، 26/12/2023.