
الشد والجذب التركي الإسرائيلي
تعاني العلاقات التركية - الإسرائيلية جرّاء العديد من التحديات، إذ ثمة ملفات ثنائية كثيرة تحدد أطر هذه العلاقة، وترسم للبلدين شكل خطوط التواصل السياسي والاقتصادي والشعبي وحدودها. كذلك كان للبعد الإقليمي، بتعقيداته وتوازناته الصعبة على الجانبين، تأثيره الأكبر في تحديد خيار هذه العلاقات ومعالمها.
يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن مرحلة ما بعد حرب غزة سيكون لها تأثيرها في الجغرافيا السياسية في المنطقة، ويلوّح أعوانه في الحكومة باللجوء إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الشعب الفلسطيني؛ إلى مَن توجَّه هذه الرسالة وما المقصود بها؟ ولماذا كان أردوغان الأسرع في الرد على هذه التصريحات والمواقف؟
لا حدود جغرافية تجمع بين تركيا وإسرائيل، لكن خرافة "من الفرات إلى النيل" التي يرددها بعض المتطرفين اليهود، والتي يواجهها حديث كثيرين في الداخل التركي عن تحريك تل أبيب لأكثر من ورقة استراتيجية ضد أنقرة للوصول إلى هذا الهدف، بينها المياه والأقليات العرقية المنتشرة على ضفاف دجلة والفرات وخطوط التواصل التجاري والروابط التاريخية التي يبحث عنها خبراء إسرائيل وكبار مؤرخيها في مناطق "ميزوبوتاميا العليا"، كلها مسائل قائمة حتى اليوم كعوامل ضغط وتحكّم في تحديد مسار ومصير العلاقات بينهما.[1]
غزة الامتحان الصعب
ترتفع نسب الشحن والتعبئة السياسية والإعلامية والشعبية المضادة في العلاقات التركية - الإسرائيلية وتهبط تحت تأثير عوامل ثنائية وإقليمية تصل أحياناً إلى درجة استدعاء السفراء وقطع العلاقات الدبلوماسية، كما يجري اليوم بعد انفجار الوضع في قطاع غزة، لكن الأمور تعود إلى حالتها الطبيعية ما إن تهدأ الأجواء، لأن مصالح البلدين التجارية والشراكات السياسية المتداخلة والحسابات المتشابكة، كما رأينا في جنوب القوقاز، تحتّم ذلك. إن أزمة مهاجمة أسطول الحرية في عرض المتوسط عام 2010 كان لها ارتداداتها على الطرفين، كذلك باعد ملف غزة أكثر من مرة بين البلدين، لكن متطلبات التوازنات الثنائية والإقليمية كانت تستدعي في النهاية الوصول إلى تفاهمات وتسويات وصفقات تفرضها الواقعية السياسية والمصالح وحسابات الربح والخسارة.[2]
كيف سيكون شكل ارتدادات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة على مسار العلاقات بين أنقرة وتل أبيب؟ وهل تضحي أنقرة بما شيدته في العامين الأخيرين من جسور تواصل وعلاقات انفتاح في اتجاه تل أبيب؟ وكيف ستحدد تركيا خياراتها أمام تعقيدات المشهد الإقليمي واحتمالات تفاقمه وتوسع رقعة انتشاره في المنطقة، وذهاب الأمور في اتجاه سيناريوهات المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية ودخول أميركي عسكري مباشر على الخط؟
قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي كانت أنقرة تستعد لاستقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية لتتويج صفحة جديدة من العلاقات حسمتها مصافحة نيويورك بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبنيامين نتنياهو على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت الزيارة ستتم لولا العملية الجراحية الطارئة لنتنياهو، لكنها لم تكن لتقطع الطريق على ما وصلت إليه الأمور اليوم، كما تؤكد ذلك حالات سابقة مشابهة مرتبطة بثوابت أنقرة ورؤيتها للملف الفلسطيني.
راهن البعض في تركيا وخارجها على نجاح الدبلوماسية التركية في التوصل إلى ما يُقنع إسرائيل وقيادات "حماس" بوقف إطلاق النار، والتهدئة في غزة، وفتح الطريق أمام القنوات السياسية لتدخل على الخط. إن فرص أنقرة في القرم والدخول على خط الوساطة بين موسكو وكييف لتسهيل الإفراج عن ملايين الأطنان من الحبوب الأوكرانية تختلف عن فرصها في غزة، كذلك تختلف معادلات وتوازنات علاقاتها بروسيا وأوكرانيا كلياً عن تركيبة علاقاتها بإسرائيل ونظرتها وطريقة تعاملها مع الملف الفلسطيني.[3]
تركيا والغرب في امتحان غزة
إن إعلان وزير الخارجية التركية هاكان فيدان أن معايير الغرب الأخلاقية هي اليوم في بئر بلا قعر، يعكس حجم التباعد التركي الغربي في التعامل مع موضوع غزة وإمكان وقف العدوان الإسرائيلي. وتواجه أنقرة معضلة أُخرى ترتبط بحظوظها ونجاح فرصها في التوسط بين طرفي الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في غزة، تتمثل في ضرورة إقناع إدارة بايدن بتبديل سياستها الإقليمية والتخلي عن دعمها لإسرائيل وتبني ما تقوم به في غزة، قبل محاولة إقناع نتنياهو وحكومته بالتراجع عن سياسة الحصار والتدمير الشامل للشعب الفلسطيني في القطاع.[4]
في المقابل، هناك حقيقة أُخرى تقول إن قرار وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن زيارة المنطقة أكثر من مرة والاجتماع بقيادات عربية وخليجية وإسرائيلية في الأسابيع الأخيرة، من دون أن يقصد العاصمة التركية إلاّ بعد أسابيع من اندلاع المعارك في غزة، مكتفياً بالاتصالات الهاتفية، سببه انزعاج واشنطن من مواقف أردوغان المبكرة حيال ما يجري، وتصعيده ضد قرار البنتاغون إرسال سفنه الحربية إلى شرق المتوسط، والانحياز الأميركي الكلي إلى الجانب الإسرائيلي. ويعكس خيار واشنطن لَعِب أوراق عواصم عربية بدلاً من التنسيق مع تركيا تراجع فرص أنقرة في الدخول على خط الوساطة والتهدئة.
ليس من مصلحة أنقرة توتير علاقاتها مع تل أبيب من جديد، وهي التي بذلت جهداً كبيراً في سبيل إعادتها إلى سابق عهدها، والمشهد الإقليمي يحتّم ذلك أيضاً، في ضوء الحراك الواسع من أجل بناء معادلات تجارية وأمنية وسياسية جديدة، فالتصعيد التركي الإسرائيلي سيتفاعل على أكثر من جبهة، وسينتقل حتماً إلى أكثر من مكان. لكن بدا واضحاً منذ البداية استحالة نجاح وساطة تركية بين طرفي الصراع في غزة مقارنة بحظوظ وفرص أطراف أُخرى، لا لأن الجانب التركي لا يملك الخبرات والطاقات والقدرات التي تمكّنه من ذلك، وإنما بسبب التباعد التركي وتضارب المواقف والسياسات مع تل أبيب وحليفها الأميركي، والتصعيد التركي المبكر ضد الغرب بسبب انحيازه إلى المجازر التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة أو صمته حيالها، وتهميش الدور التركي وتجاهله.[5]
وثمة مؤشر آخر على حجم الانسداد والتباعد بين أنقرة من جهة، وواشنطن وتل أبيب من جهة أُخرى، قد يكون له ارتداداته على العلاقات في الملف الفلسطيني، ويتمثل في الرد التركي العسكري الواسع ضد مجموعات قسد ومسد في شمال سورية بعد مهاجمة الجنود الأتراك في شمال العراق؛ فضرب البنى التحتية ومخازن الطاقة هناك رسالة موجهة إلى أميركا وإسرائيل قبل أن تكون موجهة إلى المجموعات الكردية، وخصوصاً أن تل أبيب تبنت الدفاع عن هذه المجموعات في مواجهة ما تقوم به أنقرة ضدها.
"طوفان الأقصى" يقلب كل المقاييس
قبل ساعات من اندلاع "طوفان الأقصى" كان هدف أردوغان ونتنياهو توسيع رقعة التفاهمات والتعاون الثنائي والإقليمي وترجمته عبر تفعيل خطط ومشاريع نقل الغاز الإسرائيلي من شرق المتوسط إلى أوروبا عبر تركيا، ورفع أرقام التبادل التجاري بين البلدين. وبعد أسابيع من العدوان الإسرائيلي بدأنا نتابع نتنياهو وهو يردد ما يلي: "أردوغان الذي يرتكب المجازر ضد الأكراد ويزج بالإعلاميين في السجون هو آخر من يعطينا الدروس"، ووزير الخارجية الإسرائيلية إيلي كوهين يقول إن السفير الإسرائيلي لن يعود إلى أنقرة ما دام أردوغان على رأس السلطة، ويقترح على أنقرة "أخذ المجموعات الإرهابية التابعة لـ ʾحماسʿ إليها"، بالإضافة إلى شروع إسرائيل في تصنيف المنتوجات المستوردة من تركيا ضمن قائمة "بضائع الدول المعادية"، وتلويح رونين بار، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، بتوجهات حكومية جديدة هدفها ملاحقة قادة "حماس" في العديد من الدول، بينها تركيا.[6]
في المقابل حاول الرئيس التركي في بداية العدوان الإسرائيلي أن يعتمد اللغة الدبلوماسية مع تل أبيب معلناً أن بلاده تريد أن تحرك العواصم الغربية والمجتمع الدولي نحو التهدئة والتفاهمات السياسية، إذ تريد أنقرة أن تكون أمام طاولة التفاوض والوساطات المحتملة بشأن غزة، وأن تلعب الورقة الأميركية والأوروبية والأممية في مواجهة السياسات الإسرائيلية. لكن أردوغان وجد نفسه باكراً يتحدث عن ضرورة مواجهة نتنياهو وسياساته، ويعلن تحميل واشنطن المسؤولية المباشرة عن سلوكه.
تخلى الرئيس التركي سريعاً عن مواقفه المعلنة في بداية العدوان الإسرائيلي على غزة واعتماد الدبلوماسية حيال إسرائيل، من أجل العمل على خفض التصعيد تمهيداً لوقف إطلاق النار وتحريك مجلس الأمن الدولي في هذا الاتجاه. وخيبة الأمل التركية سببها أيضاً عرقلة تل أبيب وواشنطن صيغة الأطراف الضامنة التي اقترحتها أنقرة على طريق الحل في إطار ما أعلنه أردوغان أنه "إذا كانت إسرائيل تريد أمنها والسلام الدائم، فيجب أن يكون للفلسطينيين أيضاً دولة." إن وحشية العدوان على القطاع، والاصطفاف التركي السياسي والحزبي الواسع ضد ما تقوم به إسرائيل، هما من أبرز الدوافع التي قادت الرئيس التركي إلى تحميل الولايات المتحدة وأوروبا مسؤولية العدوان على قطاع غزة، بقوله: "إسرائيل ليست سوى بيدق في المنطقة سيتم التضحية به عندما يحين الوقت"، ثم إيصال الأمور ليقول إن "نتنياهو كتب اسمه في التاريخ بصفته جزار غزة"، وإن تركيا ستحاول بكل السبل المتاحة محاسبة الإدارة الإسرائيلية أمام القانون الدولي والضمير الإنساني، وفتح الطريق أمام دعوة حليفه دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، للمطالبة بتدخل الجيش التركي لوقف العدوان على غزة.
مسار التطورات الميدانية والعسكرية على الأرض في قطاع غزة، هو الذي سيحدد شكل سياسة أنقرة حيال تل أبيب وواشنطن ومستقبل العلاقات في الأشهر المقبلة، لكن أكثر ما يفرح أردوغان وحزب العدالة والتنمية اليوم هو الأنباء المتناقلة في تل أبيب عن وجود استطلاع للرأي يظهر فقدان حزب نتنياهو نصف مقاعده في الكنيست عند أول معركة صناديق تشهدها إسرائيل.
واضح تماماً أن أردوغان وحكومته لن يترددا في التصعيد أكثر ضد نتنياهو وحكومته ما دامت القوات الإسرائيلية تواصل حربها ضد المدنيين في غزة، حتى لو تمسكت أقلام وأصوات عديدة في صفوف المعارضة التركية بطرح تساؤلات عن أسباب التناقض في المواقف الرسمية حيال تل أبيب؛ تصعيد سياسي وإعلامي ضد نتنياهو وحكومته بسبب الممارسات العدوانية في غزة، وفي الوقت نفسه التمسك بالدفاع عن جسور العلاقات التجارية مع إسرائيل بعد العدوان الواسع على القطاع.
المشهد الإقليمي القائم ولعبة التوازنات الحالية يقولان إن فرص أنقرة في إحداث اختراق دبلوماسي سياسي في غزة محدودة جداً، بسبب خلافاتها مع واشنطن بشأن الكثير من المسائل، وبسبب تصعيدها الواسع ضد إسرائيل وممارساتها، وإن الخيارات والبدائل الأقوى أمامها مرتبطة بمواصلة سياسة الانفتاح التي بدأت تحصد نتائجها في علاقاتها الجديدة مع كثير من العواصم العربية، وتمسكها ببيان قمة الرياض العربية الإسلامية، والتنسيق المباشر مع القاهرة في الملف.
ستواصل أنقرة تمسكها بما شيدته من علاقات سياسية جديدة مع العواصم العربية، وتحديداً مع مصر والسعودية والإمارات، وستعمل على ألاّ تغرد خارج السرب الإقليمي، وهي تحدد مواقفها وسياساتها في التعامل مع تطورات المشهد في غزة، لكنها ستأخذ بعين الاعتبار مسار الشق العسكري الميداني وتطوراته، وسيناريوهات اتساع رقعة الحرب وانتقالها إلى جبهات جديدة، في مقدمها الجبهة السورية، صلة الوصل الجغرافي بينها وبين إسرائيل، وهي كلها عوامل ستساهم في تحديد خيارات وقرارات أنقرة المستقبلية.
[1] محمد تشليك، "الهجمات الإسرائيلية على غزة والموقف التركي من فلسطين"، جريدة "ديلي صباح"، 11/10/2023.
[2] حسين عبد الغني، "الاستدارة الكاملة لأردوغان في حرب غزة تكشف الفارق بين إخفاق العرب وكفاءة غيرهم"، جريدة "عمان"، 18/11/2023.
[3] فايق بولوت، "تركيا لن تعرض علاقتها بإسرائيل للقطيعة"، جريدة "أفرنسال"، 13/10/2023 (بالتركية).
[4] "أردوغان: نتنياهو كتب اسمه في التاريخ ʾجزار غزةʿ"، كلمة للرئيس التركي خلال اجتماع الكتلة النيابية لحزب العدالة والتنمية، وكالة أنباء الأناضول، 29/11/2023.
[5] حقي أوجال، "هل تعمل الولايات المتحدة على تقويض أسسها"، جريدة "ديلي صباح"، 31/12/2023.
[6] "تركيا وغزة: مسؤولية المسلمين الأتراك"، مقابلة مع الكاتبة التركية أليف ألاتلي، وكالة أنباء الأناضول (بالتركية).