لم يتوقف الاحتلال لحظة واحدة عن التخطيط لتوسيع الاستيطان وقضم الأرض لضم مساحات أكبر من أراضي المواطنين، عبر إقامة عدة بؤر استيطانية تحت مسميات متعددة، هدفها الأوحد ضم الأرض، واقتلاع أصحابها الحقيقيين، وفرض الوقائع للحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ومؤخراً، استحدث الاحتلال طُرقاً للاستيلاء على أراضي المواطنين في الضفة الغربية، منها ما يُعرف بالاستيطان الرعوي، والذي أخذ أشكالاً ومسميات عديدة؛ عن طريق استهداف الأراضي المصنفة "ج"، والاستيلاء على ما أعلنته الحكومة "أراضي دولة"، وإعلان أراضٍ أُخرى محميات طبيعية لتنفيذ مخطط الضم، وإلحاق ضرر كبير بقطاعَي الزراعة وتربية المواشي.
ويضطر المزارع فريد حمامدة (36 عاماً)، وهو من منطقة الزويدين في مسافر يطا جنوبي الخليل، إلى بيع جزء من مواشيه بين الفينة والأُخرى لتوفير لقمة العيش لأبنائه الأربعة عشر، وذلك بعد استيلاء أحد مستوطني كرمائيل على مئات الدونمات التي يملكها ويفلحها سنوياً ويزرعها بمحاصيل خاصة لإطعام المواشي. وخلال العام الماضي، اضطر حمامدة إلى استدانة 33,000 شيكل ليشتري أعلافاً لأغنامه بعد أن كان يعتمد على زراعة أرضه، الأمر الذي حمّله أعباء مالية كبيرة.
وأشار حمامدة إلى أنه تفاجأ من سيطرة ذلك المستوطن على 25 دونماً مزروعة بالزيتون كان يملكها، ومن ثم قام المستوطن باقتلاع الأشجار وتقطعيها، وحوّلها إلى مكان لرعي أغنامه. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد واصل هجومَه المتكرر على مسكن حمامدة بحماية قوات الاحتلال.
أمّا عبد الرحمن كعابنة، رئيس تجُمع وادي السيق البدوي جنوبي منطقة المعرجات الواقعة بين أريحا ورام الله، فقد وصف وضع سكان التجُمع البالغ عددهم 40 عائلة بالمأساوي، ولا سيما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ويشير كعابنة إلى أن عدوان الاحتلال المستمر على التجمع أدى إلى نزوح الأهالي نحو قريتَي رمون والطيبة شمال شرقي رام الله، تاركين وراءهم بيوتهم ومواشيهم ومقتنياتهم الشخصية.
ويضيف كعابنة أن الأمر بدء في شباط/فبراير 2020؛ عندما استولى أحد مستوطني كوهاف هشاحر المقامة على أراضي قرية دير جرير شرقي رام الله، وهو عضو في شبيبة التلال الإرهابية، على 1500 دونم مزروعة ويمتلكها أهالي التجمع، بالإضافة إلى آبار المياه، جالباً معه 300 رأس غنم، وعدداً كبيراً من الأبقار. كما اقتحم مدرسة بادية رام الله التحدي 6 أكثر من مرة، واعتدى على الطلبة وطاقم المدرسة.
وأشار كعابنة إلى أن الوضع بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر أصبح مختلفاً؛ فبعد أكثر من 40 عاماً من العيش في المنطقة، تم تهجير عائلات التجمع الـ40 والاعتداء عليهم، وسرقة بيوتهم وهدمها، وسرقة مواشيهم وسياراتهم والخلايا الشمسية التي يستخدمونها لتوليد الكهرباء.
البؤر الزراعية الرعوية أبرز عناوين المشروع الاستيطاني
من جهته، اعتبر مدير عام النشر والتوثيق في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أمير داود البؤر الزراعية والرعوية من أبرز عناوين المشروع الاستيطاني الساعي لضم مزيد من الأرض الفلسطينية، عن طريق رعاة مستوطنين مسلحين بحماية جيش الاحتلال، بهدف ربط المستعمرات عبر السيطرة على مساحات شاسعة من الأرض، وعزل البلدات الفلسطينية بعضها عن بعض، وعزل السكان عن المصادر الطبيعية، وتهجير الفلسطينيين، وضرب الديموغرافيا الفلسطينية، بالإضافة إلى إنشاء جيوب استيطانية استعمارية جديدة.
وأضاف داود أن تحقيق أهداف الاستيطان الرعوي يندرج ضمن مسارين منفصلين ومختلفين، لا علاقة بينهما، وفي الحقيقة هما يسيران في مسار واحد:
أولاً: مسار رسمي يتمثل في استيلاء حكومة الاحتلال على الأرض الفلسطينية بطرق رسمية تحت مسميات قانونية سنّتها لهذا الغرض، أو اعتمادها على تشريعات تركية وقوانين أُخرى كانت سارية قبل احتلال إسرائيل للضفة.
ثانياً: مسار غير رسمي عبر المستوطنين واعتداءاتهم بدعم مباشر من حكومة الاحتلال، بهدف السيطرة على الأرض التي لم تسمح الطرق الرسمية بسلبها، وهو ما يُعد جزءاً من استراتيجيا نظام الفصل العنصري الإسرائيلي الساعي لضم الأرض الفلسطينية وقضمها.
وبشأن عدد البؤر الرعوية الزراعية، قال داود: "بلغ عددها 89 بؤرة على مساحة تُقدر بـ208,000 دونم تقريباً، وعدد البؤر المختلطة التي تجمع بين السكن والزراعة والرعي تبلغ 6 بؤر." وأضاف أن أول بؤرة زراعية أُنشئت سنة 1984 على أراضي أهالي محافظة الخليل، وبلغ عدد سكانها 850 مستوطناً، ومن ثم توالى إنشاء البؤر حتى سنة 2012، ووصل في حينه ما مجموعه 18 بؤرة موزعة على أراضي المواطنين في الضفة الغربية.
وأوضح داود أن هناك تسارعاً في إنشاء البؤر الزراعية والرعوية منذ سنة 2012 حتى اليوم بصورة كبيرة وغير مسبوقة؛ إذ سجلت محافظة الخليل أعلى عدد من البؤر الزراعية، وتبلغ اليوم 22 بؤرة، تليها 21 بؤرة في محافظة رام الله، وحلت محافظة نابلس في المركز الثالث حيث أقيمت فيها 14 بؤرة، بالإضافة إلى 9 بؤر في محافظة طوباس، و8 بؤر في بيت لحم، و6 بؤر في سلفيت، و4 بؤر في أريحا وجنين، وبؤرة واحدة في طولكرم.
استيطان صامت قلب ميزان الطبيعة
قال الوكيل المساعد لقطاع الموارد الطبيعية في وزارة الزراعة الفلسطينية المهندس حسام طليب إن مساحة المراعي في الضفة الغربية تبلغ 2,2 مليون دونم، وتشكّل 30% من مساحة الضفة، وتتركز في السفوح الشرقية بين الأغوار والجبال الغربية، وأكثر من 90% من تلك المساحة واقعة ضمن الأراضي المصنفة "ج".
وأضاف أن هناك تسارُعاً في وتيرة الاستيطان الزراعي والرعوي، إذ جرى التهام أكثر من ربع مليون دونم من تلك الأراضي، مؤكداً بذلك تمركُز البؤر الاستيطانية الزراعية الرعوية في السفوح الشرقية للضفة الغربية وربْطها بالمستوطنات من أجل حمايتها.
وأشار طليب إلى أن معظم المستوطنين الذين يستولون على الأراضي تحت حجج رعوية وزراعية هم من أمن العصابات المتطرفة ضمن مجموعات شبيبة التلال وتدفيع الثمن، ويحظون بحماية الحكومة وجيش الاحتلال ودعمهما.
وأوضح أن انتشار البؤر الرعوية بصورتها وعددها الحاليين أخل كثيراً بميزان الطبيعة في مختلف مناطق الضفة الغربية، إذ تدهور الغطاء النباتي، ومال إلى التصحر في معظم الأراضي المسيطَر عليها. كما أشار إلى تأثُر الأمن الغذائي والإنتاج الزراعي، وهو ما انعكس مادياً في الدخل القومي الفلسطيني، مبيناً أن استغلال الأراضي الزراعية في المناطق المصنفة "ج" كان من شأنه أن يدر دخلاً سنوياً لميزانية السلطة الوطنية بما لا يقل عن 3 مليارات دولار سنوياً.
في مقابل تلك المعطيات، قال طليب إن وزارة الزراعة تحاول شق الطرق الزراعية للمزارعين في تلك المناطق لاستصلاح الأراضي وتعويض المزارعين المتضررين من الإجراءات الاحتلالية، بالإضافة إلى تقديم خدمات بيطرية مجانية وأعلاف إلى المواشي، وتوفير وسائل الطاقة، بينما قامت، بالشراكة مع وزارة الحكم المحلي، بترخيص وإنشاء 40 متنزهاً بمساحة 1000 دونم لحماية تلك الأراضي من مصادرتها.
ويبقى الاستيطان الرعوي الصامت من أخطر الأساليب الاحتلالية لسرقة الأرض وفرض الأمر الواقع والتضييق على المواطنين في رزقهم وإجبارهم على الرحيل، ويبقى كذلك كالسرطان الذي ينهش في جسد فلسطين من دون ردع من جانب المجتمع الدولي.
المصادر:
- مقابلة شخصية عبر الهاتف مع أمير داود، مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، 19/12/2023.
- مقابلة شخصية مع المهندس حسام طليب، الوكيل المساعد لقطاع الموارد الطبيعية في وزارة الزراعة، في مكتبه في مقر وزارة الزراعة في رام الله، 20/12/2023.
- مقابلة شخصية عبر الهاتف مع المزارع فريد حمامدة، 19/12/2023.
- مقابلة شخصية عبر الهاتف مع رئيس تجمع وادي السيق عبد الرحمن كعابنة، 31/12/2023.