يستمر الفلسطينيون في صمودهم ونضالهم الأسطوري في وجه نكبتهم المستمرة منذ عقود، ويستكمل هذا الشعب الصغير المتواضع، لكن الشجاع الصامد، مسيرته نحو الحرية والعودة وتقرير المصير، صامداً في وجه مشروع معلن رسمياً للإبادة الجماعية والتركيع والتهجير، وعليه، ينبغي على كل إنسان أن يحدد موقفه وموقعه ودوره من قضية فلسطين وأهلها.
وكما يتكامل الجسد الواحد في أنموذج لما يفترض أن يكون عليه شكل العلاقات بين البشر، فقد تكاملت طاقات الشعب الفلسطيني وشعوب العالم الحرّ في وجه العدوان على فلسطين. وإذ بات عامل الصمود عاملاً أساسياً لتحديد الطرف المنتصر، غدا من الملحّ الإعداد المبكر لمرحلة ما بعد الحرب نحو تعزيز مقوّمات الحياة للفلسطينيين في غزّة، وإسناد موقفهم الجماعي الرافض للتهجير والعودة إلى الخيام، عبر تكاتف النضالات من مختلف أصقاع الأرض لوقف الإبادة الجماعية والعدوان الوحشي والتهجير القسري وفك الحصار وإدخال الدعم الإنساني في أسرع وقت.
محلياً، أدت مكونات المجتمع المدني والقطاعات الأهلية في فلسطين خلال سنوات الاحتلال أدواراً حيوية متعددة لإسناد المجتمع وتعزيز صموده وحماية تماسكه، ولعله آن الأوان لهذه الأدوار أن تصبح أكثر تكاملاً وأوسع وأعمق أثراً في واقع الفلسطينيين الملموس.
وإذ اتضح جلياً تسخير موارد النظام الرسمي والرأسمالي العالمي وقدراته كافة لدعم المشروع الصهيوني وتوفير الغطاء الشرعي والقانوني والإعلامي له، فعلينا جميعاً التأكد بحكمة وحرص من أن كل درهم يُصرف وكل قطرة عرق تُبذل وكل دقيقة تُمضى تصب في مسيرة التحرر الفلسطيني. وتوجب على مكونات المجتمع المدني والأهلي في فلسطين رفض كل أشكال التمويل المشروط سياسياً والتطبيع، وتشجيع كل أشكال مقاطعة الاحتلال، وإعادة تصميم البرامج والتدخلات بما يستجيب لأولويات الشعب الفلسطيني، ويلتحم بمسيرته نحو التحرر والاستقلال، وتطوير العلاقات بين المكونات المتعددة نحو علاقة عضوية تكاملية لتحقيق الأهداف المشتركة. وتطوير العلاقات العضوية التكاملية سيعزز الموقف الرافض للتمويل المشروط سياسياً ويحميه، وسيرفع مؤشرات الاستقرار والاستدامة، ويصلّب الأدوار الرئيسية لهذه المؤسسات، وبالتالي، يسند برامج تعزيز الصمود وحماية المجتمع وتماسكه. وفي ظل التطورات الأخيرة، ومع تراجع أدوار المؤسسات الرسمية الفلسطينية وتآكلها، بات ملحاً دعم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الأهلية والتعاونيات التي تمارس أدواراً تنموية ووطنية وحمايتها، وإعطاء منتوجات هذا القطاع وخدماته الأولوية في خيارات الشراء، باعتبارها منتوجاً وطنياً، ولأن إيرادات هذا القطاع يعاد تدويرها في خدمة برامجه وأهدافه، ولا يتم كنزها أو مراكمتها أو تصديرها إلى الخارج.
أطلقت المؤسسات الأهلية، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، مجموعة من البرامج والحملات والمبادرات في وجه مشروع الإبادة والتهجير في غزة، ومنها "حملة كفالة 5000 طفل من غزة"، والتي تديرها جمعية إنعاش الأسرة في إطار برنامج الرعاية بالإنفاق الذي انطلق سنة 1968، أي بعد 3 سنوات من تأسيس الجمعية. وقد استفاد من هذا البرنامج عشرات الآلاف من أطفال فلسطين، مقدماً أكثر من 1000 كفالة نقدية شهرياً، ثلثها لأطفال غزة. ويركّز البرنامج على توفير كفالات نقدية للأطفال الأيتام، وأبناء الشهداء والأسرى، والفقراء، والذين يحتاجون إلى عناية طبية دورية، والأطفال من ذوي الإعاقات. وفي مناهضة لسياسة المشروع الصهيوني التي دأبت دوماً إلى اقتلاع الإنسان من أرضه وتهجيره داخلياً أو خارجياً، ذهبت السياسة العامة لبرنامج الرعاية بالإنفاق إلى دعم الطفل في بيئته الاجتماعية الأصلية. كما يشجع البرنامج على بناء علاقة إنسانية بين الكفيل والطفل قائمة على التواصل المستمر.
تم تصميم هذا البرنامج بطريقة مرنة لدمج أوسع عدد من الكفلاء؛ إذ يمكن للكفيل أن يكون فرداً أو مجموعة أو أسرة أو مؤسسة أو شركة، كما يمكن له التبرع لمرة واحدة، أو الالتزام بكفالة شهرية دائمة، والخيار الأخير يوفر الاستقرار للطفل، علماً بأن هناك بعض المؤسسات أو النقابات العمالية الملتزمة لسنوات في البرنامج من دول غير عربية، كسويسرا وفرنسا، ومنها نقابات عمالية من الخارج.
ومنذ إطلاقها في 20/11/2023، متزامنة مع يوم الطفل العالمي، شهدت حملة التبنّي الجديدة إقبالاً عالياً من داخل فلسطين وخارجها، من دول عربية وغير عربية، بنماذج متعددة للتبرع، فقد تبرعت بلدية البيرة بمبلغ كبير من موازنة الهدايا المخصصة للمواطنين، وذهبت بعض المؤسسات إلى التبرع بيوم عمل واحد من فريقها، وساهم أحد النوادي الرياضية في بيتونيا/رام الله في تحفيز مجموعة من الأندية الرياضية العربية والعالمية لتخصيص إيراد بعض النشاطات والفعاليات لدعم الحملة في مساندة القضية الفلسطينية، وبادر بعض طلبة المدارس إلى جمع تبرعات للحملة، وبعضهم ساهم بمصروف جيبه مجسدين رسالة من التضامن بين أطفال فلسطين.
نجحت فلسطين في القرن الماضي، وفي استعادة لأدوارها الحضارية التاريخية باعتبارها مهد الحضارات وأرض الرسالات، في تطوير نماذج من العمل المجتمعي المستندة إلى قيم ضاربة في التاريخ وتطوير منظومة هذه القيم بما يعاند سياقات القهر المستجدة وتعزيز الصمود وتأكيد وحدة الهوية الفلسطينية واتصالها بمحيطها الحضاري، مقدمة نماذج أسطورية من التحدي والعناد والتمسك بالحق ورفض الذل والهوان والاستسلام. ومن عمق التاريخ وثراء التجربة الحضارية والثورية التحررية، تستنبت فلسطين دائماً أصناف التضامن والتكاتف المجتمعي والعمل الخيري والاجتماعي.
ونجحت جمعية إنعاش الأسرة في تجسيد نموذج مستقل يعتمد بصورة رئيسية على إيراداته وموارده الذاتية لتقديم البرامج الخيرية والاجتماعية والثقافية والتشغيلية والتعليمية والتدريبية الوطنية، ضمن المحافظة على بوصلة حرة من الارتهان لأي تمويل أو شروط خارجية، من منطلق الإيمان بأن لا خير في أمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع. كما نجحت الجمعية في بناء شبكة واسعة من الأصدقاء والعلاقات التي خففت من آثار سياسات العزل والتضييق التي فرضها الاحتلال تاريخياً على الشعب الفلسطيني.
وبلورت الجمعية مفهوماً عملياً ينقد البرامج الخيرية الاجتماعية التي تعزز الاتكالية وارتهان الفرد أو الأسرة وعلاقات القوة والتأبيد الطبقي، نحو العمل الاجتماعي والخيري الوطني الكريم، المستند والرافع لقيم التطوع والتكاتف وتماسك النسيج المجتمعي والداعم للصمود كبنية تحتية أساسية لاستكمال مسيرة التحرر، وتكثيف تجارب الفلسطينيين في تنظيم أنفسهم ومشاركة مواردهم لتعميق الأثر الاجتماعي الوطني وتوسيعه.
إن مسيرة التحرر والحرية وعرة، وربما تكون طويلة، إلاّ إن التاريخ يثبت يقيناً أن الشعوب الحية حتماً ستنتصر.