إن الحصار والتضييق الخانق اللذين فرضهما الاحتلال منذ بداية الحرب على غزة، جعلا الغزّي لا ينفك يطبق مقولة الشاعر محمود درويش: "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، وذلك بطرق متعددة.
فإلى جانب صور الموت والدمار التي تخرج من قطاع غزة، نشاهد صوراً أُخرى تعكس إرادة الحياة لدى الغزيين، علماً بأن من نراهم في هذه الصور يخرجون إلى السوق مثلاً لشراء ما أمكن من أجل الاستمرار، وقد يصابون بقذيفة تنهي حياتهم، لكن مع ذلك يستمرون مستعينين بالله وبإيمانهم، ذلك بأنهم يتحدون بذلك كل مضايقات الاحتلال المفروضة عليهم في غزة، فيطوّعون أدوات جديدة لمواجهة التحديات التي تزداد يوماً بعد يوم في ظل هذه الحرب، والتي تتراكم فوق تحديات فرضت نفسها منذ تطبيق الحصار على القطاع منذ أعوام طويلة.
ومن تلك التحديات، وربما أبرزها في هذه الحرب، عدم توفر الوقود، وبالتالي الشلل شبه الكامل في كثير من مرافق "الحياة" بسبب غياب هذه المادة، الأمر الذي تمثل في توقف حركة السير التي لمسها الغزيون بصورة مباشرة.
وقد أدى عدم توفر الوقود إلى عدم التمكن من تشغيل المولدات الكبيرة في المستشفيات. في المقابل، لم يعجز أهالي غزة عن إيجاد حلول لبعض المسائل، ففي دير البلح على سبيل المثال، يقول يحيى بشير: "نحن محظوظون لأن لدينا بئر ماء، ذلك بأننا نعيش في منطقة زراعية. ونظراً إلى انقطاع الكهرباء نضطر إلى استخدام مولد يعمل على الديزل لتشغيل المحرك من أجل استخراج المياه لبيتنا وبيوت الجيران في مربع سكننا. لقد نفد ما لدينا من الديزل، فاستعنّا بجارنا الذي يعمل في مرآب من أجل تبديل نظام عمل المحرك من الديزل إلى الغاز، وجلبنا جرة الغاز الوحيدة، ولا نعلم كم ستصمد، لكن من المؤكد أنه عندما ينفد الغاز لن يكون في وسعنا أن نستخرج الماء."
أمّا مشكلة التنقل، فكان حلها أبسط بكثير، إذ عاد بعضنا إلى استخدام الحمير والأحصنة والبغال وعربات النقل التي تجرها الدواب. ويُطلق أهل غزة مصطلح "كارة" على هذه العربات، وهو مصطلح يأتي من كلمة CAR الإنكليزية، وقد اشتهر بين الفلسطينيين منذ أيام الانتداب البريطاني، وبقي عالقاً في الثقافة الغزية إلى يومنا هذا. وارتبطت "الكارة" بالطبقة الفقيرة التي كانت في معظمها من المزارعين، بسبب سهولة اقتنائها لرخص ثمنها، ولأنها أداة مفيدة في الحقول الزراعية. ومع انتشار السيارات صار الناس يخجلون من استخدام الكارة كوسيلة للتنقل، وثمة العديد من سكان المدن الذين لا يوافقون على استخدامها حفاظاً على صورتهم "الحضرية" بين الناس.
"لاند كروزر الغلابة"، هكذا قال لي أحمد متهكماً حين كنا ذاهبَين على "كارة" لنبحث عن مياه الشرب في مناطق دير البلح. ولم يتوقف أحمد عن التهكم على الناس الذين يتنقلون سيراً على الأقدام، بسبب أنه يملك "كارة" يجرها حمار تسهّل علينا مشاويرنا؛
وفي أثناء ركوبنا الكارة، مررنا إلى جانب مجموعة من الناس، فناداهم أحمد: "معسكر.. اللي طالع معسكر النفر بشيكل؟" ويقصد أنه جاهز لنقلهم. فهجم الناس عليه، وزاحمونا في المساحة الصغيرة أصلاً فوق "الكارة"، وعندما وصلنا كانت حصيلة مشواره تسعة شواكل. لم ينفك أحمد يضحك بسبب شعوره بأهميته في هذه الحرب التي لم تفرق بين شخص وآخر، أياً تكن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وأياً تكن خلفيته الثقافية.
وعلى الرغم من الشعور العارم بأفضلية هذا الحمار وصاحبه على أصحاب الطبقات العليا، فإن ثمة بعض المشكلات التي لا يمكن تجاوزها، فمثلاً لا يملك الحمار زموراً يمكن أن يشد انتباه الناس إليه كي يفسحوا المجال أمامه، فهو اليوم "ملك الطريق". لذا، يستخدم أحمد صوته بدلاً من الزمور، فيبدو كأنه يصيح بالناس بطريقة عدوانية، إذ لا وجود لطريقة مهذبة للصراخ. وأيضاً هناك مشكلة تتعلق بنظافة الحمار، ونظافة الشوارع من ورائه، لكن مَن يهتم للشوارع في حرب دامية كهذه؟
بصراحة، يجب أن تمر تجربة استخدام هذه العربات التي تجرها الدواب على كل الناس باختلاف مشاربهم، ذلك بأنها تهذب النفس البشرية من التعالي، ولا سيما في الحرب، ولعل هذا من أفضل الدروس التي يمكن أن يتعلمها الإنسان.
في النهاية لا بد من ذكر حكمة أحمد الذي علّمني آداب التعامل مع الحمير، فاكتشفت أنها تتلاءم مع مختلف الصعد في عالمنا هذا.