نتناول في هذه الورقة مصطلح أو مفهوم "وحدة الساحات" أو "محور المقاومة" والذي يتم تداوله في السنوات الأخيرة بين القوى المقاومة في فلسطين ولبنان ودول أُخرى، وذلك لفهم أبعاد ومدلولات هذا المفهوم ومدى انطباقه على أرض الواقع عملياً، ولمعرفة التحديات التي تواجه هذه القوى اليوم، ولا سيما بعد معركة طوفان الأقصى.
مقدمة
راجت في السنوات الأخيرة مصطلحات جديدة تتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي وتدعو إلى توحيد ساحات المواجهة، أو إلى توحيد جميع الجبهات مع العدو الإسرائيلي، أو إنشاء ما سمي "محور المقاومة" الذي يضم قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وبعض دول المنطقة. ويشبه هذا الشعار ما كان يسمى في السبعينيات أو الثمانينيات من القرن الماضي "جبهة الصمود والتصدي" التي تضم عدداً من الدول العربية والقوى الفلسطينية الرافضة لمشروع التسوية مع العدو الإسرائيلي، أو اتفاقية كامب ديفيد التي عقدها النظام المصري مع الكيان الصهيوني سنة 1978، وكذلك بشأن العديد من الجبهات العربية واليسارية الداعمة للمقاومة الفلسطينية.
فمن أين أتى مصطلح "وحدة الساحات" أو "وحدة الجبهات"، وما هو الفارق بينه وبين "محور المقاومة"؟ وما هو تأثير "معركة طوفان الأقصى" على مستقبل هذا المحور وهذا الشعار في ظل التطورات الميدانية والسياسية التي حدثت من جراء هذه المعركة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي وما زلات تداعياتها مستمرة إلى اليوم؟
أولاً: بين مصطلح "وحدة الساحات" و"محور المقاومة"
يمكن القول إن مصطلح "وحدة الساحات" تم إطلاقه بعد معركة "سيف القدس" التي أطلقتها حركة "حماس" في شهر أيار/مايو من سنة 2021 دفاعاً عن المسجد الأقصى، ورداً على الانتهاكات الصهيونية للمسجد والقدس ومحاولة إزالة حي الشيخ جرّاح في القدس.[1]
وتمت ترجمة هذا المصطلح بصورة واضحة على أرض الواقع، عبر إطلاق الصواريخ من قطاع غزة وجنوبي لبنان وسورية، مع ارتفاع وتيرة عمليات المقاومة في الضفة الغربية، واندلاع مواجهات في عدة مناطق في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948. وقد اعترف بعض المعلقين الإسرائيليين بواقعية هذا المصطلح، وبعد معركة حركة الجهاد الإسلامي في نيسان/أبريل من سنة 2023 والتي انتهت بوقف لإطلاق النار. وعلى الرغم من عدم مشاركة حركة "حماس" فيها فقد قال الصحافي الإسرائيلي يوني بن مناحم: "إن مهاجمة إسرائيل بالصواريخ، خلال عيد الفصح من قطاع غزة وجنوبي لبنان، ليست سوى المرحلة الأولى في حرب الاستنزاف من جانب ʾمحور المقاومةʿ بقيادة إيران، عبر استخدام استراتيجية ʾوحدة الساحاتʿ."[2]
إذاً، فإن محور "وحدة الساحات" يقصد به عملياً تحريك عدة ساحات أو جبهات في الوقت نفسه ضد العدو الإسرائيلي حتى لو بدأت المعركةَ إحدى حركات المقاومة لأسباب معينة. وهذه الساحات تشمل قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان والجولان السوري والعراق واليمن، وأحياناً يشارك فيها فلسطينيو أراضي سنة 1948.
أمّا مصطلح "محور المقاومة" فقد استخدمه بداية الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وعدد من المسؤولين الإيرانيين ومن قادة حزب الله، وبعض وسائل الإعلام المؤيدة لهذا المحور (قناة الميادين وجريدة "الأخبار" وقناة المنار). ويمكن مراجعة دراسة نُشرت في موقع الميادين عن هذا المحور وكيفية تشكله.[3]
ومصطلح "محور المقاومة" هو أوسع من مصطلح "وحدة الساحات" لأنه يضم إيران والنظام في سورية، وقد يشمل أطرافاً أُخرى من دول أُخرى. ويرعى هذا المحور فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. وقد أشرف على تطويره وتنظيمه القائد السابق للفيلق اللواء قاسم سليماني، ومهمات هذا المحور الدفاع عن دول وقوى المقاومة في كل المنطقة، ولا تشمل مهماته القضية الفلسطينية فحسب.
وبحسب المعلومات من مصادر قوى المقاومة في لبنان، فإن هناك تنسيقاً وتعاوناً بين كل قوى المقاومة في المنطقة، وتم إنشاء غرفة عمليات مشتركة في السنوات الماضية، وهناك نشاطات مشتركة على صعيد التدريب وتبادل الخبرات. وقد نجح حزب الله وإيران في إعادة ترتيب العلاقة بين حركة "حماس" والنظام في سورية خلال السنتين الأخيرتين بعد أن سادت بينهما خلافات بسبب موقف الحركة من الربيع العربي والتطورات في سورية، الأمر الذي جعل كثيرين من المراقبين يؤكدون عودة العلاقة القوية بين "حماس" ومحور المقاومة. ويُعقد في بيروت وطهران العديد من اللقاءات التي تجمع قادة المقاومة، وخصوصاً بين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة وقادة حركة "حماس"، وأحياناً بمشاركة مسؤولين إيرانيين.
ثانياً: معركة طوفان الأقصى ووحدة الساحات
عندما أطلقت حركة "حماس" وكتائب الشهيد عز الدين القسام معركة طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، من دون أن تنسق مع بقية قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة، ومن دون علم حزب الله وفق تصريحات السيد حسن نصر الله،[4] ومن دون علم المسؤولين الإيرانيين بحسب تصريحات قائد الجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي،[5] تساءل كثيرون عن مستقبل شعار وحدة الساحات أو محور المقاومة، وهل هذه القوى لا تزال تعمل بأسلوب مشترك، وخصوصاً أن مشاركة هذه القوى في المعركة لاحقاً لم تؤد إلى فتح الجبهات بصورة واسعة أو إلى الحرب الشاملة التي كان يدعو إليها قادة المحور. وقد كتب الصحافي مايكل يونغ مقالاً لموقع مؤسسة كارنيغي ونشره أيضاً موقع أسواق العرب، جاء فيه: في وقت سابق من هذه السنة، بدأ نصر الله يتحدث أول مرة عمّا سمّاه استراتيجية "وحدة الساحات"، أو "وحدة الجبهات"، وذلك بأن تقوم ميليشيات "محور المقاومة" بتنسيق عملياتها العسكرية فيما بينها ضد إسرائيل من أجل تطويقها بحلقة من النيران. وهذا يعني أنه عندما تتجاوز إسرائيل بعض الخطوط الحمر في الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس أو في تعاملها مع أعضاء "محور المقاومة"، فإن هذه الميليشيات ستنتقم بشكل موحد وفي وقت واحد.
لقد وضعت الحرب في غزة هذه الاستراتيجية على المحك، لكنها أجبرت الشركاء في المحور أيضاً على توضيح معنى التنسيق. منذ البداية، أوضح حزب الله وإيران أن هناك حدوداً لما سيسمح المحور لإسرائيل بالقيام به في غزة، بما في ذلك غزو القطاع. ومع ذلك، لم يوضِّحا أبداً ما سيكون ردهما، ولا إلى أي مدى سيذهبان، مع الاحتفاظ بهامش من المناورة.[6]
كما أن تصريحات بعض قادة حركة "حماس"، وبين هذا البعض رئيس الحركة في الخارج خالد مشعل، عن العتب على حزب الله أو الدعوة إلى زيادة دوره في المعركة، أثارت مزيداً من الالتباس في العلاقة بين قوى المقاومة، وذلك في حوار مع التلفزيون العربي،[7] على الرغم من أن بقية قادة "حماس" وجهت الشكر إلى حزب الله وقوى المقاومة وإيران على دورهم في دعم الحركة والشعب الفلسطيني. كما قام رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، على رأس وفد من الحركة، بزيارة إيران واللقاء مع السيد خامنئي والمسؤولين الإيرانيين، وكذلك عُقد في بيروت لقاء ضم السيد نصر الله وأمين حركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة، ونائب رئيس المكتب السياسي في حركة "حماس" صالح العاروري، وجرى فيه التشديد على التنسيق والتعاون بين قوى المقاومة بعد معركة طوفان الأقصى.
أمّا على الصعيد الميداني فقد جاء إطلاق حركة "حماس" لمعركة طوفان الأقصى مفاجئاً للجميع، سواء أكانت جهات دولية أم إقليمية أم فلسطينية أم إسرائيلية، ذلك بأنه كان هناك توقعات أن الحركة تفضل الذهاب إلى الحلول السياسية، وأن أولوياتها الحفاظ على السلطة في قطاع غزة والحصول على مساعدات اقتصادية ومالية. كما أن الحركة لم تشارك في العمليات التي كانت حركة الجهاد الإسلامي قد نفذتها طوال السنتين الماضيتين؛ الأمر الذي دفع بعض المحللين إلى القول إن مصطلح "وحدة الساحات" انتهى عملياً.
ثالثاً: ما بعد المعركة وكيفية ترجمة منطق وحدة الساحات
لكن بعد انطلاق معركة طوفان الأقصى، وعلى الرغم من عدم التنسيق المسبق بين قوى المقاومة؛ فقد شهدنا مشاركة كل قوى المقاومة في المعركة، وذلك التزاماً منها بمنطق وحدة الساحات. وأبرز هذه المشاركات العملية:
-
في قطاع غزة شاركت كل قوى المقاومة في المعركة، وخصوصاً حركة الجهاد الإسلامي إلى جانب حركة "حماس". وهناك غرفة عمليات مشتركة تدير المعارك في القطاع.
-
في الضفة الغربية والقدس شاركت كل أطراف المقاومة في المعركة، وشهدت الضفة معارك ومواجهات مع الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. وقام الجيش الإسرائيلي باعتقال أكثر من ألفي فلسطيني، واستشهد نحو مئتي مواطن ومقاتل.
-
في الأراضي المحتلة سنة 1948 لم نشهد تحركات شعبية واسعة كما حدث في سنة 2021، لكن كان هناك تحركات ومواقف محدودة تندد بالحرب على غزة.
-
على صعيد الجبهة اللبنانية انخرط حزب الله إلى جانب قوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية، وكتائب القسّام التابعة لـ"حماس"، وسرايا الأقصى التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، والسرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال، وأفواج المقاومة اللبنانية التابعة لحركة أمل، في المواجهة، وإن كان دور حزب الله هو الأكبر عملياً. وطالت المعارك معظم المواقع العسكرية الإسرائيلية في مزارع شبعا وعلى الحدود وداخل المناطق المحتلة، إضافة إلى استهداف المستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود (كريات شمونة ونهاريا وغيرهما).
-
على صعيد جبهة الجولان أُطلق بعض الصواريخ والطائرات المسيّرة، لكن المشاركة كانت محدودة نسبياً، وقام العدو الإسرائيلي بقصف مطاري دمشق وحلب ومواقع لحزب الله في سورية، وسقط عدد من شهداء الحزب جرّاء هذا القصف.
-
على صعيد العراق أطلقت قوات المقاومة الإسلامية وكتائب حزب الله الصواريخ والطائرات المسيّرة على القواعد الأميركية في العراق وسورية، وذلك باعتبار أن الولايات المتحدة تدعم الكيان الإسرائيلي في المعركة ويجب توجيه الضربات إليها، وردت القوات الأميركية بقصف بعض مواقع المجموعات المؤيدة لإيران في سورية. كما أُطلق بعض الصواريخ على مطار إيلات.
-
على صعيد جبهة اليمن شارك الجيش اليمني الذي تدعمه حركة أنصار الله في المعركة من خلال إطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. وقال الناطق باسم الجيش اليمني إن بعض هذه الصواريخ والطائرات أصاب مواقع إسرائيلية، ومنها مطار إيلات. وأشار بعض التقارير الإعلامية إلى أن القوات والبوارج الأميركية الموجودة في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط نجحت في إسقاط معظم الصواريخ والطائرات اليمنية التي أُطلقت في اتجاه إسرائيل.
-
على الصعيد الإيراني لم نشهد أي تحرك عسكري. لكن كان هناك تحرك إيراني من خلال الاتصالات الدبلوماسية وعقد اللقاءات مع مختلف الأطراف، وإعلان دعم إيران للشعب الفلسطيني وحركة "حماس"، وقد أطلق المسؤولون الإيرانيون العديد من التصريحات والمواقف التي تحذر من تحول المواجهات في غزة إلى حرب شاملة.
وفي خلاصة المشهد الميداني يمكن القول إننا شهدنا العديد من التحركات لتثبيت منطق "وحدة الساحات"، لكنها لم تصل إلى مستوى إطلاق الحرب الشاملة والمشتركة. وقد يعود ذلك إلى غياب التنسيق والتحضير المسبق بين هذه القوى، وكذلك لأن بدء حرب شاملة قد يؤدي إلى حرب دولية كبرى في المنطقة، وخصوصاً في ظل التهديدات الأميركية لإيران وحزب الله بأن توسعة الجبهة ستؤدي إلى ردود قاسية عليهما. مع الإشارة إلى أن توسعة الجبهة وتحولها إلى حرب شاملة سيظلان احتمالاً قائماً في حال لم تتوقف الحرب على غزة.
رابعاً: مستقبل وحدة الساحات بعد معركة طوفان الأقصى
والسؤال الذي يمكن طرحه اليوم هو: ما مستقبل منطق "وحدة الساحات" أو مشروع "محور المقاومة"، بعد معركة طوفان الأقصى ونتائجها السياسية والميدانية والعملية؟
طبعاً قد تكون الإجابة عن هذا السؤال صعبة في ظل استمرار المعركة، وقبل وقف إطلاق النار وتحديد مسار الأمور، سياسياً وعسكرياً وميدانياً. لكن يمكن وضع بعض الملاحظات الأولية التي يمكن تطويرها لاحقاً:
-
على الرغم من أهمية شعار وحدة الساحات وتطبيقه جزئياً فقد كان هناك خلل ما في التعاون والتنسيق بين القوى التي تتبنى هذا الشعار، إذ إن لكل فريق منها حسابات خاصة تتعلق بدوره وموقعه في المعركة، وهو يأخذ في الاعتبار أوضاع الساحة التي يعمل فيها في إطار المعركة الكبرى.
-
لم نصل حتى الآن إلى جبهة مشتركة ومتناسقة تدير المعركة بشكل شامل ووفقاً لرؤية موحدة على الرغم من وجود أهداف مشتركة وتعاون وتنسيق ثنائي أو مشترك.
-
الأوضاع الإقليمية والدولية وعلاقات قوى المقاومة بهذه الجهات والواقع الداخلي في كل بلد؛ كل هذا له تأثير على صعيد كل ساحة.
-
بعد انتهاء معركة طوفان الأقصى، وفي ضوء النتائج التي ستؤدي إليها، سياسياً وعسكرياً وميدانياً وديموغرافياً، سيكون هناك حاجة إلى تقييم ما جرى ودراسة أسباب الخلل وكيفية التحضير للمرحلة المقبلة؛ ذلك بأن هذه المعركة لن تكون نهاية الصراع، وإنما مرحلة متقدمة منه وسيكون لها نتائج مهمة على مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي.
أخيراً، إن معركة طوفان الأقصى شكلت امتحاناً عملياً للشعارات التي تطرح في مواجهة العدو الصهيوني. وهناك ضرورة قصوى لتقييم ما جرى وإعادة تحديد طبيعة الشعارات التي تتلاءم مع المعركة المطلوبة، ولتحقيق الأهداف المحددة لمصلحة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية ومستقبل الصراع مع العدو الصهيوني.
[1] أنظر دراسة أعدها مركز الزيتونة للدراسات في الرابط الإلكتروني.
[2] موقع قناة الميادين.
[3] موقع قناة الميادين.
[4] جريدة الشرق الأوسط.
[5] موقع قناة الميادين.
[6] موقع أسواق العرب.
[7] موقع التلفزيون العربي.