التراث الثقافي في قطاع غزة: شاهد وشهيد
Date:
18 novembre 2023
Thématique: 

شهد يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 فصلاً جديداً من المقاومة، والتي ما زالت مستمرة منذ سنة 1948. وقد رد المحتل الصهيوني بتنفيذ "إبادة جماعية" على أهل قطاع غزة وفلسطين، إذ قصف المساجد، والكنائس، والأحياء، وبيوت المدنيين العُزّل، والمواقع ذات القيمة الثقافية الأثرية، وقتل النساء والأطفال والكبار. وفي خضم تركيزنا على عدد الضحايا والأرواح التي أُزهقت، لا بد لنا من استحضار الجوانب الفيزيائية، والمادة الثقافية التي دمرتها الإبادة. ذلك بأن الاحتلال الإسرائيلي الوحشي تعمّد تدمير أكبر عدد ممكن من الأماكن الأثرية والتراثية الثقافية، في محاولة منه لمسح حضارتنا وثقافتنا العريقتين واستمراريتنا على هذه الأرض، وإنكار الوجود الفلسطيني الثابت، متجاهلاً بذلك الاتفاقية الصادرة عن "اليونسكو" المتعلقة بحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لسنة 1972، والتي تنص في إحدى موادها (المادة 11، النقطة 4) على حماية "أملاك التراث الثقافي والطبيعي التي تهددها أخطار جسيمة... نتيجة تغيير استخدام الأرض أو تبدل ملكيتها... أو النزاع المسلح أو التهديد به، أو الكوارث والنكبات." ويحاول المقال هنا الإلمام بأكبر عدد ممكن من الأماكن ذات القيمة الحضارية، وإلقاء الضوء عليها، فغزة ليست مجرد مدينة محاصرة، وإنما لها تاريخها العريق، بما تحويه من أماكن وأحياء ومتاحف.

حي الدرج: يُعد من الأحياء الأثرية المهمة في مدينة غزة، إذ يضم عدداً كبيراً من الأماكن الأثرية المهمة، كـ"سوق القيسارية" الذي بُني في العصر المملوكي، و"مسجد السيد هاشم" الذي يحوي قبر جد النبي محمد، و"المسجد العمري الكبير" وهو أكبر مسجد في القطاع والأقدم، بالإضافة إلى "قصر الباشا" أو "قصر آل رضوان" أو "قلعة نابليون"، إذ سكن آل رضوان هذا القصر في الفترة العثمانية، كما اتخذه "نابليون بونابرت" مقراً لعدة أيام خلال غزوه مدينة عكا. لقد أُلحق الضرر بحي الدرج، بما فيه من تلك الأماكن، إذ دُمر كل من المسجدين والسوق، وتعرض "قصر الباشا" لأضرار بليغة، كما دُمرت معظم الأماكن التراثية في هذا الحي.[1]

حي الرمال: وهو يقع شمال شرقي غزة على امتداد شارع عمر المختار، الذي يصل شرق المدينة بغربها، وتأسس في عهد الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1920. يُعد حي الرمال من أقدم أحياء مدينة غزة وأكثرها ازدهاراً، كما يُعد الشريان التجاري للقطاع، إذ ينتشر على امتداده مختلف أنواع المحلات التجارية. وقد سُمي بهذا الاسم لأنه كان عبارة عن كثبان رملية لا حياة فيها، واكتسب أهميته الثقافية بسبب احتوائه معالم ثقافية وتراثية، كساحة الجندي المجهول. كما احتوى أهم جامعات القطاع؛ الجامعة الإسلامية التي تأسست سنة 1978، وتعرضت لأضرار متفاوتة، وجامعة الأزهر التي دُمرت بالكامل. إن تكرار الاحتلال قصف الجامعات ليس إلاّ تأكيداً منه لرغبته في محو الثقافة الفلسطينية واتباع سياسة التجهيل.[2] 

 

 

ساحة الجندي أو ميدان الجندي المجهول: يقع على امتداد شارع عمر المختار في حي الرمال غربي غزة، وهو نصب تذكاري للجنود "مجهولي الهوية" الذين دافعوا عن فلسطين في خمسينيات القرن الماضي، وهو مَعلم وطني تم تأسيسه سنة 1956، وبعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من غزة، تحول إلى ساحة للاحتفالات والمناسبات الوطنية، فضلاً عن كونه حديقة عامة، وهو عبارة عن قاعدة خرسانية مرتفعة، وفي أعلاها تمثال لجندي يرتدي بزته العسكرية بكامل عتاده ويحمل سلاحاً في يده اليمنى بينما يشير بإصبع السبابة في يده اليسرى في اتجاه الشرق (القدس). ومحفور على القاعدة الرخامية من الجانب الأول خريطة فلسطين، وخُطّت أسفلها آية قرآنية "وَلا تَحسَبَنّ الّذين قُتِلوا فِي سَبيلِ الله أمْوَاتاً بَلْ أحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقون"، ورُسم على الجانب الثاني علم فلسطين بألوانه الأربعة. إن دلالة هذا النصب العظيمة هي ما يدفع الاحتلال الإسرائيلي إلى تدميره، إذ تم قصفه بالكامل خلال الغارات الإسرائيلية التي شُنت على المنطقة بأكملها.[3]

متحف العقاد في خان يونس: إن المتاحف الموجودة في قطاع غزة هي نتاج جهود ذاتية لأفراد رغبوا في تجميع القطع الأثرية وحفظها في مكان واحد، كي لا تتعرض للضياع والطمس والسرقة نتيجة الحصار والاحتلال ونهب الآثار. يقول وليد العقاد مؤسس المتحف (وهو في الأصل منزله الشخصي): "مهمتي كفلسطيني التصدي لمحاولات الاحتلال طمس تاريخ فلسطين وتراثها، وحمايتهما من الضياع، ليبقيا شاهدين على تراث آبائنا وأجدادنا باعتباره عملاً نضالياً ووطنياً." يضم المتحف قطعاً أثرية قيّمة، منها 2800 قطعة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور الحديثة. وقد تعرض المتحف لقصف بالغ الخطورة، ألحق الضرر بعدة قطع أثرية، وأدى إلى تكسير بعضها.[4]

 

 

 

شارع السكة: يقع شارع السكة (سوق الشجاعية الشعبي حالياً) وسط قطاع غزة في مدينة خان يونس جنوبي القطاع. وقد أُنشئ خط السكة الحديدي سنة 1892 خلال العهد العثماني، وكان ينطلق من دمشق، ويتفرع إلى خطين؛ أحدهما يتجه إلى الأردن، والآخر إلى فلسطين ولبنان، وصولاً إلى عكا وحيفا والقدس وقطاع غزة ومصر. وقد توقف القطار عن العمل سنة 1973 بسبب سيطرة الاحتلال. لقد ساهمت السكة في تطور البلاد وإنعاش اقتصادها، كما ساعدت في تبادل الثقافات المتعددة. وهذا الخط هو تركة حضارية ثقافية، تدل على حياة الفلسطينيين قبل الاحتلال الصهيوني.[5]

المسجد العمري: يقع المسجد في حي الدرج في البلدة القديمة وسط مدينة غزة، وقد بُني قبل 1400 عام. ويُطلق عليه اسم "المسجد الكبير" نظراً إلى مساحته الأوسع على صعيد المساجد القديمة الموجودة في القطاع، ولُقب بـ"المسجد العمري" نسبة إلى عمر بن الخطاب، وهو يُعد ثالث أكبر مسجد في فلسطين، بعد المسجد الأقصى ومسجد أحمد باشا الجزار في عكا، كما يكتسب قيمة دينية وتاريخية بسبب المراحل الست التاريخية التي مر بها؛ ففي البداية، كان عبارة عن معبد يحمل اسم "مارناس"، وبانتقال أهل غزة من الوثنية إلى المسيحية، تحول المعبد إلى كنيسة بيزنطية عُرفت باسم "أفذوكسيا"، وبعد اعتناق أهالي غزة الإسلام في عهد الخليفة "عمر بن الخطاب"، بُني المسجد العمري على أنقاض الكنيسة، وخلال الحروب الصليبية التي طالت بلاد الشام دُمر المسجد وحُول إلى كنيسة عُرفت باسم "القديس يوحنا المعمدان"، وبعد ذلك، وفي العهد المملوكي عاد إلى كونه مسجداً، وأخيراً، في العصر العثماني أُجريت تحسينات وإضافات على المسجد، كإضافة ساحة شمالية ومنبر ومحراب. تنبع الأهمية الثقافية للمسجد من كونه يمر بعدة حضارات وعصور تاريخية، كما يُعتبر فن العمارة الإسلامي جانباً أساسياً من أهميته الثقافية.[6]

 

 

كنيسة القديس برفيريوس: تقع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في حي الزيتون، وتُعد ثالث أقدم كنيسة في العالم، إذ بُنيت في القرن الخامس الميلادي، الأمر الذي يكسِبها أهمية دينية عالمية، وهي مرشحة لتكون على لائحة التراث العالمي. وقد سُميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها القديس "برفيريوس"، والذي دُفن فيها. تكتسب الكنيسة أهميتها الثقافية من ثقافتها المعمارية التي تتركز على العمارة المسيحية والرموز واللوحات الفنية التي تعبّر عن قصة السيد يسوع المسيح المزينة على جدرانها، بالإضافة إلى الأعمدة الرخامية التي تسند سقف الكنيسة. لم يتم تدمير الكنيسة بالكامل، لكنها تعرضت لتدمير جزئي، الأمر الذي أدى إلى استشهاد 20 شخصاً وتدمير أجزاء من معالمها التاريخية والأثرية.[7]

 

 

المستشفى المعمداني: يقع في منطقة سكنية في حي الزيتون، وهو من أقدم مستشفيات غزة، وقد تم تأسيسه سنة 1882 على يد البعثة التبشيرية التي كانت تابعة لإنكلترا. تنبع أهمية المستشفى المعمداني من موقعه المهم، الواقع في منطقة الشمعة، وهو محاط بكنيسة ودير ومعبد، كما تحتوي المنطقة على أهم المعالم العثمانية في القطاع، كما استمر بتقديم خدماته على مر 141 عاماً، على الرغم من الضرر الذي أُلحق به في الحروب السابقة، والخلاف على تولي إدارة المشفى أكثر من مرة. وقد ارتكبت إسرائيل واحدة من أبشع المجازر في القطاع حين استهدفت طائراتها المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، الأمر الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 500 فلسطيني، أغلبيتهم نساء وأطفال اتخذوا من المستشفى ملجأً آمناً من الغارات الإسرائيلية، وقد أدت الغارات إلى اندلاع حريق ضخم في أجزاء منه، وتدمير جزء كبير أيضاً.[8]

هذه بعض الأماكن المدمرة والمتضررة، والتي يصعب حصرها لكثرتها، فقد دُمرت 8 أحياء في إثر هذا العدوان، كحي الكرامة وحي النصر، كما قُصف 47 مسجداً، كمسجد المغربي الذي أقام به الولي الصالح الشيخ محمد المغربي، ولحقت الأضرار عدداً من الكنائس أيضاً. بالإضافة إلى هذا، لم تسلم المقابر، كـ"مقبرة الشهداء"، و"مقبرة الشيخ رضوان" التي دُفنت فيها إحدى أعظم شخصيات المقاومة الفلسطينية، الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية "حماس". هذا فضلاً عن الحمامات كحمام السمرة العثماني، وهو الوحيد الباقي إلى غاية الآن في مدينة غزة، وكذلك السُّبل، كسبيل السلطان عبد الحميد الذي أُنشئ في العهد العثماني، وجُدد في عهد السلطان عبد الحميد الثاني،  والعديد من الأماكن الأثرية الأُخرى.

غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل هي أيضاً مدينة لها تاريخ حافل وطويل. إن استهداف الاحتلال المستمر للأماكن الأثرية فيها هو محاولة لمحو التاريخ الفلسطيني وتمثيلاته.

 

 

[1] "أحياء البلدة القديمة في مدينة غزة"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا؛ أحمد، التميمي، "النداف: طائرات الاحتلال تدمر متاحف غزة وتقصف معالمها التاريخية"، "الغد"، 6/11/2023.

[2] أباهر السقا، "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني، 1917 – 1948" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018).

[3] "’الجندي المجهول‘ بغزة.. نُصب تذكاري أضحى ساحة وطنية"، "فلسطين أون لاين"، 19/1/2017.

[4] خالد عزب، "غزة.. تراث تدمره الحرب وتحاصره إسرائيل"، "الجزيرة"، 17/10/2023؛ أحمد، فياض، "فلسطيني يؤسس متحفاً بخان يونس"، "الجزيرة"، 27/10/2009.

[5] رشا أبو جلال، "غزة تحلم بعودة قطارها الوحيد لنفث دخانه"، "شبكة نوى"، 18/2/2023.

[6] "المسجد العمري في غزة.. شاهد على الفتح الإسلامي لفلسطين"، "الجزيرة"، 14/4/2023.

[7] "كنيسة القديس برفيريوس بغزة.. تاريخ ممتد لقرون وملاذ وقت الأزمات"، "الحرة-دبي"، 20/10/2023.

[8] "المستشفى المعمداني في غزة.. أسسته الكنيسة وارتكبت فيه إسرائيل أكبر مجزرة"، "الجزيرة"، 23/10/2023.