في نهاية عام 2021 أعلن جيش الاحتلال نهاية مشروعه الجداري العازل حول قطاع غزة بطول 65 كيلومتراً بعد أكثر من ثلاث سنوات من العمل المتواصل، وتكلفة مالية قُدرت بمليارات الشواقل، وبثقة عالية لدولة تؤمن أن الجدران "خير وأبقى". وقد أعلن وزير الدفاع السابق بني غانتس في حفلة الإشهار التي رافقت تدشين الجدار "أن الجدار، وهو مشروع تكنولوجي، من شأنه أن يحرم حركة حماس من قدرتها على استغلال أنفاقها الهجومية."[1] وبحماسة شديدة رافقت تلك الأجواء الاحتفالية، أنهى غانتس حديثه بالقول إن "هذا الجدار سيساعد هذه المنطقة الجميلة (مستوطنات غلاف غزة) على الاستمرار في النمو والازدهار."[2] صفق الجمع العسكري بحرارة فاقت حرارة جنوب فلسطين المحتل، وذلك لقدرة هذه الدولة على صناعة مزيد من فوائض الأسمنت والرقابة.
صناعة التحصن بالجدران وقرون الاستشعار
في عام 2014 شنت إسرائيل عدوانها على غزة، وسمّت العملية العسكرية آنذاك "الجرف الصامد". وقد فشلت هذه العملية، عسكرياً وأمنياً، في مواجهة أنفاق المقاومة الهجومية، إذ تمكنت المقاومة من التسلل واختراق منطقة ما يسمى حدود غزة وقتل جنود إسرائيليين. بدأ التفكير بشكل جدي في إقامة منطقة عازلة بين غزة وجنوبها المستعمر؛ جدار أمني فوق الأرض وتحتها مزود بقرون استشعار ومجسات حساسة وخلطة من أبراج المراقبة ومئات الكاميرات. بدأ العمل بالجدار سنة 2017، ووظفت إسرائيل لهذا الغرض كل خبراتها في مجال التكنولوجيا العسكرية والأمنية (الهاي تك)، منطلقة من أسطورة مفادها أنها رائدة في مجال المعازل على مستوى العالم، فكيف لا وهي الدولة الاستعمارية الاستيطانية الوحيدة المتبقية من تجارب العالم الغربي، والتي تبيع بضاعة إخضاع السكان/عزلهم في غيتوهات في سوق العالم الرأسمالي على أنها بضاعة مجربة؛ فتروج شركات الأسلحة الإسرائيلية أن سلاحها مجرب، بصورة متواصلة ومستمرة، على شعب حولته ماكينة إسرائيل الاستعمارية إلى حقل تجارب، كما تروج لفعالية تلك الأنظمة العسكرية والأمنية.
تستمد إسرائيل يقينها من سلسلة الجدران التي نشرتها على عدة تلال، من جدار الفصل والوصل في الضفة الغربية إلى تصدير صناعة الجدران إلى المغرب العربي مع الصحراء المغربية مروراً بسيناء، إذ ساهمت شركات أمنية إسرائيلية في بناء جدار مع سيناء، وحصلت على امتيازات وعقود تجارية من أجل بناء جدران أمنية في كل من الصومال وكينيا، وليس آخرها الجدار الذي باشرت فيه على حدود لبنان عام 2018. لقد أصبحت إسرائيل أكبر مصدر أسمنتي، وأصبح قطاعها الخاص أكبر مروج لصناعة الجدران في أسواق الدول القومية الحديثة، مستغلة هوس تلك الدول، التي أصبحت حبيسة هواجسها القومية، بتصميم تجانس قومي/إثني.
دشنت إسرائيل مشروعها الأثير في جبال فلسطين الوسطى (الضفة الغربية)، والذي بدأ العمل به في إبان الانتفاضة الثانية عام 2002، والذي يمتد على طول 720 كيلومتراً، معتمدة على سياسات أمنية واستيطانية توسعية استراتيجية؛ وكان للجدار الذي بني قبل أكثر من عشرين عاماً وظائف عديدة، منها ما هو أمني (رقابي) هدفه منع العمليات الفدائية التي رافقت الانتفاضة الثانية داخل فلسطين المحتلة سنة 1948، ومنها ما هو توسعي قائم على فكرة عزل سكان الضفة الغربية وتحويلهم إلى تجمعات معزولة ومفصول بعضها عن بعض، ومنعهم من الدخول إلى الأراضي المحتلة سنة 1948، بالإضافة إلى السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية في الضفة، وفي الوقت نفسه إيجاد ممرات آمنة للمستوطنين. وفي المحصلة، كان الجدار يقوم بعمل مزدوج؛ يعيد ربط المستوطنات في الضفة مع المستعمرة الكبرى في فلسطين المحتلة سنة 1948، ويعزل أراضي الضفة الغربية بعضها عن بعض، ويضبط وينظم المرور إلى فلسطين المحتلة سنة 1948 عبر معابر مراقبة ومجهزة بأحدث أدوات الضبط والمراقبة من خلال ملف أمني تديره أجهزة الأمن الإسرائيلية عبر ما يعرف بعمليات إدارة السكان وتطويعهم.
البحر لا يبلع أهله
قيل ذات مرة إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق يتسحاق رابين تمنى ذات ليلة عاصفة من ليالي الانتفاضة الأولى أن يبتلع البحر قطاع غزة، بساحله الممتد من أوله إلى آخره، وببياراته ومخيماته، وبأزقته وأحلام أطفاله، ولا ضير أن يبتلع مستوطناته أيضاً. لم يلبِّ البحر أمنية رابين الذي رحل قبل أن يرى دولته تتورط أكثر فأكثر في معضلة غزة ورمالها، وقبل أن يقرر رمز العسكريتاريا الإسرائيلية أريئيل شارون الانسحاب من غزة وإدارة ظهره لها، بعد أن قرر أن بضاعة غزة خاسرة في الحسبة الإسرائيلية، أو كما يقال "مش جايبة همها"، وذلك بعد أن أعيته غزة في سبعينيات القرن المنصرم، كما أعيته في الانتفاضة الثانية على أعتاب القرن الجديد وقتها. رحل شارون أيضاً، وبقيت غزة، وبقي أهلها، وما زال بحرها عاصفاً.
من حواضر البيت
في صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، نفد مئات المقاومين من "حماس" هجوماً منظماً من البر والبحر وعبر طائرات شراعية محلية الصنع، فاستفاق العالم مذهولاً أمام هول صدمة إسرائيل؛ فقد اجتاح مقاتلو المقاومة الفلسطينية خط الدفاع الإسرائيلي الأول مع قطاع غزة (الجدار العازل)، مفخرة "الصناعة الوطنية" الإسرائيلية، ووصل ما يقارب ألف مقاتل وأزيد إلى قلب قيادة فرقة غزة، كما وصلوا إلى 11 موقعاً عسكرياً و20 مستوطنة على بعد عشرات الكيلومترات من قطاع غزة. قبل أيام قليلة كانت إسرائيل قد احتفلت بالذكرى الخمسين لما يسمى معركة الغفران؛ وفي تلك المعركة فشلت القوات الإسرائيلية في عرقلة عبور القوات المصرية خط الدفاع الأول لتأمين الضفة الغربية لقناة السويس، أو ما سمي وقتها خط بارليف. هذه الدفاعات المحصنة تم الترويج لها بأنها الحصن المنيع غير القابل للاختراق، قبل أن تذيبها خراطيم المياه المصرية وتغرق السواتر الترابية المنيعة.
كان تقييم أجهزة الأمن الإسرائيلية أن العرب غير قادرين على القتال، وأنهم ما زالوا تحت تأثير صدمة حرب 1967، وما زالوا يعيشون في أجواء الهزيمة، ولا يملكون الأدوات اللازمة للتغلب على هذه التحصينات. وعلى الرغم من المفاجأة التكتيكية المصرية، فإن الجيش الإسرائيلي استطاع تحويل الهزيمة إلى نصر، وعرقلة البناء على يوم العبور، فاستعادت إسرائيل مع الجسر الجوي الأميركي زمام المبادرة، وحاصرت الجيش المصري الثالث ومدينة السويس. إلاّ إن يوم الغفران الإسرائيلي لم يغفر لمؤسسة الجيش وأذرعها الأمنية ما سببه العبور من قلق وجودي قفز من اللاوعي في الذاكرة الصهيونية إلى سطح الذاكرة ووعيها.
بعد عمليات تمويه معقدة اعتمدتها المقاومة بعد معركة سيف القدس سنة 2021، اطمأنت أجهزة الرقابة الإسرائيلية إلى يقينها الأمني، وأدارت إسرائيل مرة أُخرى ظهرها لقطاع غزة، وصوبت نظرها نحو الضفة الغربية، فانشغلت بأزقة مخيم جنين وعقبة جبر ومخيم بلاطة وقصبة البلدة القديمة في نابلس وغيرها. في هذا الوقت، كانت المقاومة في قطاع غزة تصنع من حواضر البيت، كما يقال، وضمن المتاح والممكن، في ظل التحكّم في المعابر، وحصار طويل الأمد حوّل القطاع إلى سجن في الهواء الطلق يُحسب على أهله الهواء الذي يتنفسونه، وكمية السعرات الحرارية في الأغذية التي يتناولونها.
فقد شكّل أكتوبر العبور مرة أُخرى غضة وغصة في قلب التخمة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وصدمة جمعية في المجتمع الإسرائيلي، وللجدران المتناثرة في أسواق العالم. وجرى وضع إسرائيل، كجدار استعماري أوروربي-أميركي متقدم في المنطقة، على محك الاختبار والتشكيك.
عودة على بدء
وفي حرب سقط فيها آلاف الضحايا، ولم تضع أوزارها بعد، ما زالت المقاومة تصنع بطولاتها على أرض الميدان، وكله برسم الأمل، مع المعلومات الشحيحة التي تصلنا من أرض المعركة في حرب وجودية مدعمة بالبوارج الأميركية، بمعناها الأوسع، لتصفية ما تبقى من حضور للقضية الفلسطينية التي عادت إليها فعاليتها بعد ملحمة العبور الكبير.
قامت إسرائيل على رؤية آخروية خلاصية منطلقة من تنظيرات الزعيم الصهيويني زئيف جابتونسكي الذي دشن فكرة الجدار الحديدي في عقل المشروع الصهيوني، من خلال خلق جدار حديدي تبنته دولة الحركة الصهيونية إسرائيل بحذافيره، فلا يستطيع الفلسطيني هدمه، ولكثرة ما ضرب رأسه بهذا الجدار سال دمه! إلى أن يسلم الأخير، بوعيه ولا وعيه، باستحالة تجاوز هذا الجدار والتسليم بقوة وترسانة هذه الجدران.
وبين جدار جابتونسكي الحديدي وجدار المانحين وأموال المنظمات الأوروبية الرأسمالية العابرة للوطنيات، وجد الفلسطيني المحاصر نفسه يقاتل على أكثر من جدار؛ جدار أسمنتي محمل بمجسات حساسة وجدار شفيف غير مرئي ناعم الملمس ممول جيداً من المانحين ومن وكلاء محليين يعملون بجد لمصلحة سياسات مالية أقل ما يقال عنها أنها تجعل من خيوط الجدار الناعم حبلاً يلتف حول عنق الفلسطيني، ويستسلم لإرادة المانحين وخطاب التنمية على أرضية السوق المعولم، والذي تسود فيه لغة البنك الدولي وسياسات نيوليبرالية ترى في الاحتلال شريكاً في التنمية، وليس عائقاً أساسياً أمام تنمية التحرر بمعناها الشامل والواسع والمرتكزة على الناس؛ فقد علق الفلسطيني في قطار الدولة ونفقها، وتحاول المقاومة الآن الخروج من نفق الدولة إلى أنفاق التحرر، وما زلنا برسم الأمل.
درس في الإرادة
أمّا في الجنوب، ولا تُشدُّ الرحال إلاّ إليه، فقد كسر أبناؤه عين تلك الدولة المسلطة على رقابهم على مدى سنوات طويلة؛ تلك الدولة التي لطالما حدقت بهم بعين حمراء غاضبة مفتوحة على وسعها، لكن أبناء الجنوب فقأوا عين الوحش وكسروها. إسرائيل اليوم دولة مكسورة العين بعد أن كانت تقوم فكرتها على فائض الرؤية، وعلى أنها ترى من خلف الجدران، وتعلم ما تخفي الصدور. وفي لحظة العمى هذه عاد أبناء غزة على طريقتهم إلى أراضيهم المحتلة سنة 1948، وفتحوا في جدار إسرائيل المزوَّد بكل تقنيات الرقابة ثغرات عديدة، وحرروا تلك الأراضي لساعات طويلة كما حررونا من هزيمة الوعي التي لطالما عملت إسرائيل على تكريسها بكل ما ملكت من أدوات استعمارية وضبط حديثة. وإن كانت الرؤية كما يقال هي فن تبصير الآخرين بما هو ليس مرئياً بعد، وهنا سرّ النبوة وقوة الأنبياء والرسل، وإن كان البصر حاسة الرؤية أو حس العين، فإن أبناء الجنوب كان درسهم العظيم أن ما ليس مرئياً بعد هو المحقق لا محالة، وأن مَن زاغ بصره يوم سابع البصيرة يمكن أن يزول، وما زاغ البصر وما طغى.
[1] "صناعة الجدران العازلة الإسرائيلية تمنى بفشل ذريع"، مركز مدار، تقارير/تقديرموقف: من تداعيات "طوفان الأقصى"، 10/10/2023. تم الاطلاع عليه بتاريخ 8/11/2023.
[2] . المصدر نفسه.