يشي عنوان هذه المادة بالمشاهدة، لكنها في الحقيقة عبارة عن شهادات لأشخاص شردتهم الحرب في مناطق متفرقة في قطاع غزة، بعضهم لا حول له ولا قوة. جُمعت هذه الشهادات من خلال كثير من المحادثات والتسجيلات مع أشخاص تطوعوا لمثل هذه المهمة ضمن مهمات أُخرى يقومون بها.
هذه الشهادات، بالإضافة إلى شهادات أُخرى غيرها، تبدو حكايات مألوفة في الحروب، لكنها في قطاع غزة، الصغير مساحةً، تبدو غريبة وتحمل ألماً مضاعفاً، ولا سيما أن الفارين من الموت لا يصلون إلى أمكنة تأويهم وتحميهم، فينتظر بعضهم موته مع عائلته، والبعض الذي هو خارج غزة ينتظر سماع خبر موت عائلته عبر الهاتف.
محمد يعتذر من ابنه
كنت في البيت في مشروع بيت لاهيا، ونزح إلى بيتنا أقارب من بيت حانون. تعرض بيتٌ في حينا للقصف، وكان أغلب شارعنا "منخل"، فكانت مجزرة.
خرجنا من الدار بعد تجدد القصف واستمراره، وجلسنا في مركز إيواء في مناطق شمال قطاع غزة. فجاء اليوم الذي رمت فيه طائرات الاحتلال، المنشورات الداعية إلى مغادرة الشمال نحو الجنوب. غادرت الأونروا مقارها في الشمال وتوجهت نحو الجنوب، وبقيت المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء بلا إدارة، فتشكلت إدارات ذاتية لها. أنا وعائلتي وأقربائي الذين نزحوا إلينا، خرجنا أيضاً نحو الجنوب مشياً على الأقدام مسافة تصل إلى 40 كيلومتراً حتى وصلنا إلى دير البلح.
جلسنا نحو 7000 مواطن في مدرسة للأونروا تم تحويلها إلى مركز إيواء. لم أعرف في حياتي طعماً للذل قبل الآن، ذللنا بكل ما للكلمة من معنى. الناس هم الذين يؤمّنون ما أمكن من الماء، وأيضاً الناس وأهل الخير هم من وزّعوا علينا بعض المعونات، ولم تأت الأونروا إلى المدرسة التي نحن فيها إلاّ بعد يومين من مكوثنا فيها، فالذين أتوا هم من المعلمين. لا يمكنني أن أعتبر أن الوكالة لديها خطة طوارئ، وإلاّ كنا لمسناها.
الحمامات لا أستطيع استخدامها بسبب اكتظاظ الناس، فالمدرسة التي نحن فيها أوى إليها 7000 شخص فقط.
لا فرق لدي بين ما يجري الآن وبين ما جرى عام 1948 سوى أنني نازح بين جدران أسمنتية، بينما أجدادي كانوا في خيام، والآن في خان يونس نُصبت خيام.
لدي طفل اسمه غيث، إني مدين له باعتذار كبير.
وسام وعبد الرحمن وعائلتاهما
يقيم وسام ببيروت منذ سنتين بداعي الدراسة مع زوجته وأطفاله. قبل نحو شهرين أرسل ابنته البالغة من العمر 12 عاماً مع صديقه وعائلته إلى قطاع غزة لرؤية جدها وجدتها. عادت طفلته إلى بيروت، وحين سأله الأصدقاء عن جرأته بإرسال طفلة وحدها، قال: أريدها أن تشعر بقوتها.
منذ نحو أسبوع التقيت وسام مع صديقين، سألناه عن أهله وأحوالهم في هذه الحرب، فكانت إجاباته مليئة بالصبر والحزن، قال: "بقيت أكثر من أسبوع لا أعرف عن عائلتي أي شيء، حتى تمكنت من التكلم مع أختي التي أخبرتني بأنهم بخير. أمّا أخي فمنذ بداية الحرب لم أعرف عنه أي شيء."
يوم الاثنين (30/10) رن هاتف وسام هذه المرة من غزة، وكان الخبر: "استشهدت والدته مع عدد من أفراد عائلته." نجا والد وسام لأن المنزل الذي كان يأويهم استُهدف في وقت الصلاة، وكان والده في المسجد.
قبل استشهاد عائلة وسام بأيام، استشهدت عائلة عبد الرحمن المقيم ببيروت من أجل الدراسة أيضاً. استشهد عمه، وبعد يومين استشهد شقيقه وزوجته وابنتاهما، وأيضاً استشهدت شقيقتاه وزوج شقيقته وأولاد شقيقته الثلاثة، وأصيب والده إصابات خطرة.
وسام وعبد الرحمن استقبلا المعزين في بيروت، وهما مثل غيرهم من أهل غزة في الخارج، يعيشان بحسرة وألم وحرقة، لن تكون أصعب لو كانا في غزة، كما قالا معاً.
بهاء والاتصالات وأمه
انقطعت الاتصالات في قطاع غزة، ليلة الجمعة (27/10) ولم يعد هناك من يتصل بالعالم خارج قطاع غزة، وظلت الأمور هكذا حتى يوم الأحد تقريباً. أرسلتُ إلى صديقي بهاء رسالة كي أتأكد أنه في قيد الحياة، فأجابني: "بهاء لمّا يغيب ما بيغبش أونطة.. بهاء لما غاب تعلّم إنه الحياة الحضرية مش كويسة.. أنا بخير.. تعرفت ع ناس كانوا معاي بالبيت اسمهم أهلي..".
بعد قراءة ما كتبه صديقي، وجدتني أسأله: "إنت شو بدك يا صديقي"، فقال: "أنا بدي الأسرى الفلسطينيين يطلعوا.. والله رسمي بحكي.. أنا عاصرت خروج وفاء الأحرار [صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال سنة 2011] ضليتني أعيط ست سنين، ما عمريش فرحت قد هالفرح."
فسألته أيضاً: "الناس شو بدها، شو بتسمعها بتقول؟"، فأجابني بهاء وهو متطوع لمساعدة الناس في الحرب بين مراكز الإيواء والمستشفيات: "الناس بدها متنفس عشان ترجع ع بيوتها تجيب أغراض وتكمل في الإيواء."
حليب الأطفال
قال المتحدث باسم اليونيسف جيمس ألدر: "لقد أصبحت غزة مقبرة لآلاف الأطفال. إنها جحيم حي لكل الآخرين." ويوضح ألدر في لقاء أجرته معه قناة "سي إن إن" أن في غزة "أكثر من مليوني طفل يعيشون في الجحيم."
هذه المعلومات التي أوردتها اليونيسف ومثلها وقائع أُخرى، دفعتني إلى سؤال بعض مَن أعرف في قطاع غزة عن حليب الأطفال، فكانت الإجابات في معظمها تشير إلى عدم توفره. فقال لي أحد الأصدقاء: "ذهبتُ اليوم إلى أربع صيدليات، لجلب الحليب، وأنا أيضاً أحتاج إلى أدوية ضرورية أتناولها يومياً وبدأت تنفد لدي. سبب بحثي عن الحليب، هو أن أحد أصدقائي في مركز الإيواء لديه طفل بعمر ثلاثة أشهر، أخبرني بأن آخر علبة اشتراها له كانت منذ أسبوع، وطفله لم يأكل بعد أن انتهت. فوجدتني أبحث عن الحليب بدلاً من دوائي. لم أجد الحليب، لا 'صحة1' ولا 'صحة2'، وهذه الأنواع من الحليب موجودة في بعض المولات، وقد نفدت أيضاً."
ما قاله هذا الصديق، يؤكد أن هناك ضحايا لا تقتلهم القذائف، إنما يقتلهم سوء التغذية، وفي ظروف القطاع الحالية، من الممكن جداً ألاّ تتمكن المستشفيات من إنقاذهم.
الدفن في القبور
خلال إحدى المحادثات مع بهاء، سألته عن القبور والدفن مع ارتفاع أعداد الشهداء، فأخبرني عما يشاهده في دير البلح: "بدأنا في دير البلح بإزالة حجارة من سور المقبرة، لوضعها كشواهد على القبور، للتعرف على المدفون في هذا القبر.. وحالياً لم يعد هناك مجال لدفن كل شخص في قبر بمفرده، بدأ الدفن في قبور جماعية. وحتى الفواصل بين القبور، طولاً وعرضاً، يتم استخدامها حالياً للدفن، وبالتالي حين ندخل إلى المقبرة لدفن الشهداء، تكون الناس، غالباً، واقفة على قبور أُخرى."