أنا سارة صبيح، فلسطينية من مدينة غزة المحاصرة، وهي الآن كما يعلم الجميع، تحت قصف الاحتلال الإسرائيلي ومجازره.
أكتب هذه الكلمات وعيناي تمتلئان بالدموع، وقلبي يرتجف من الخوف والقلق على عائلتي وأصدقائي وأحبتي في غزة، وعلى غزة الحبيبة. أسكن حالياً في العاصمة اللبنانية بيروت، بينما عائلتي في قطاع غزة، وأود أن أسرد عليكم تجربتي، وأنا لأول مرة بعيدة عنها، في حرب تُشن على قطاعنا الحبيب. إنها أول حرب لا أعيشها مع أبناء شعبي.
لا أعرف من أين أبدأ، هل من تلك اللحظات التي فقدت فيها الاتصال بعائلتي؟ أم من اللحظة التي علمت فيها أن صديقتي بقيت تحت الركام لمدة ليست بقصيرة ولا أعلم عنها أي شيء؟ أم من حين علمنا أن غزة قد قُطع عنها الماء والطعام والمعدات الطبية وغيرها؟ أم من البرهة التي فقدتُ زملاء دراسة وعمل وأصدقاء وأقارب شهداء؟ أم عندما رأيت الاحتلال يجرّب أن يعيد النكبة مرة أُخرى؟ أم لمّا علمت أن أهلي قد خرجوا من بيتهم، وباتوا مشردين من منطقة إلى أُخرى بحثاً عن أمان مفقود؟ وغيرها من اللحظات التي أحسست خلالها بأنني أختنق ولا أستحق الحياة لأنني بعيدة عنك يا غزة.
بدأت الحرب على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ومنذ أول غارة استهدفت القطاع شعرتُ بأنني أخون وطني بوجودي بعيدة عنه، لكنني أقنعت نفسي بطريقة ما أن هذه هي الحال، وليس في يدي شيء سوى متابعة الأخبار والنشر عمّا يحدث في الوطن الذي لطالما حلمت في أن أراه يتمتع بالسلام، من دون أصوات القصف والطائرات التي تجول في سمائه.
كنت على اتصال مستمر بعائلتي عن طريق تطبيقات الإنترنت المتاحة، أطمئن عليهم، وأسمع صوتهم، فأعرف أن الغارة التي وقعت بالقرب منهم لم تصبهم، وأنهم بصورة ما على ما يرام، إلى أن دقت الساعة الثالثة والنصف من يوم الأربعاء 11 تشرين الأول/أكتوبر؛ حين انقطع الإنترنت عند عائلتي، ومن لحظتها لم أتمكن من سماع صوت أحد منهم، ولا الاطمئنان عليهم. ولأنها المرة الأولى التي ينقطع فيها الإنترنت في غزة خلال حرب، ظننت في لحظتها أنني فقدتهم تماماً، وأن غارة إسرائيلية استهدفت مبنى العائلة، وأنهم استشهدوا جميعاً، فلم أستطع تمالك أعصابي في حينها، وبدأت بتصفُّح كل شبكات الأخبار المحلية في قطاع غزة لأعرف إن كانت هناك غارة إسرائيلية بالقرب منهم، وظللت أحاول الوصول إليهم بشتى السبل الممكنة، حتى إنني حاولت الاتصال بهم دولياً، لكن ليس سهلاً إتمام اتصال دولي من لبنان إلى فلسطين لأسباب متعددة. وبينما كنت أجرب الاتصال بهم من بيروت، كانت أختي في ألمانيا أيضاً تجرب، وفي نهاية المطاف، نجحت هي في الاتصال بهم، واطمأنت عليهم، وطمأنتني بأنهم على قيد الحياة، وأن شبكة الإنترنت قد انقطعت عنهم، وحتى شبكة الاتصال داخلياً قد أصبحت ركيكة للغاية. ومنذ ذلك الاتصال، وأنا لا أستطيع أن أعرف إن كانوا بخير أم لا!
أصبحت أعيش كميتة؛ أستيقظ في الصباح للذهاب إلى عملي، بعد ما يقارب الساعتين من النوم المتقطع، وأتفقد هاتفي لأرى إن كان هناك أي خبر يتعلق بعائلتي، وأصبحت مقتنعة بأنني سأفقدهم في هذه الحرب، فبدأت أنتظر الوقت الذي سوف يصلني فيه خبرهم، وذلك بسبب الموت الكثير، ومعرفتي باستشهاد العديدين ممن أعرف في قطاع غزة؛ إذ فقدت عدداً من الزملاء والأصدقاء والأقارب بصورة مفاجئة في هذه الحرب الغاشمة. في طريقي إلى العمل أستمع إلى الأخبار، وبمجرد وصولي إلى المكتب، أحاول أن أشتت انتباهي بالعمل، إلاّ إن صوت الأخبار لا يمكن أن ينطفئ في أذني. كما أصبحتُ أكره الأكل، وكلما رأيتُ طعاماً ألوم نفسي؛ كيف يمكنني أن آكل وأنا لا أدري إن كانت عائلتي تستطيع الأكل؟ وأصبح شُرب الماء بالنسبة إلي كأنه إثم؛ فكيف أستطيع شُربه وعائلتي تبحث عن الماء النظيف للشرب؟ أكره نفسي لأنني أمارس حياتي التي لم تعد طبيعية، وهم لا يستطيعون حتى فتح النافذة لاستنشاق الهواء، والذي غدا في قطاع غزة مليئاً بغبار الأبنية المدمرة ودخان الصواريخ التي دمرتها، ورائحة الدماء والموت التي تحيط بهم من كل مكان. حتى إجاباتي عن عائلتي أصبحت مختلفة، فكان كلما سألني الأصدقاء هنا في لبنان عن أحوالهم، أجبت بابتسامة مرسومة على وجهي: "إنهم بخير"، لكن إجابتي بعد الحرب اختلفت، إذ لم أعد أبتسم، وصارت إجابتي: "لسا عايشين الحمدلله"، وهذه هي إجابة أي شخص في غزة تسأله عن حاله: "لسا عايش"، فأصبحنا فقط نصلي كي يبقى أحبتنا على قيد الحياة، وأصبحنا نغمض أعيننا على أمل أن نستيقظ بعد ساعة أو ساعتين وأحبتنا لا يزالون على قيد الحياة.
أذكر أنه في اليوم التالي لانقطاع الإنترنت عن العائلة في غزة، شنت إسرائيل غارة إسرائيلية عنيفة بالقرب من منزلي هناك، فحاولتُ بشتى الطرق الاطمئنان على عائلتي، حتى أختي في ألمانيا حاولت الاتصال بهم، إلاّ إن خطوط الاتصال في غزة لم تكن تعمل لنطمئن. ثم بعد ما يقرب من النصف ساعة من اعتصار القلب ألماً وقلقاً، تمكنت أختي من سماع أخبار عن والدتي وأبي وأختي وأخي الصغير، لكن حتى والدتي لم تكن تدري إن كان أخي الأكبر وعائلته بخير، فهو لم يكن في البيت حين شُنت الغارة، إنما كان مع زوجته يعزّي أقارب باستشهاد قريب للعائلة، وكانت الغارة أقرب إلى بيت الأقارب من بيتنا، فكانت أمي ضائعة لا تدري إن كان ابنها وزوجته قد استشهدا، أو أصيبا بهذه الغارة، ولا سيما أنها لم تعد قادرة على الاتصال بهم، وخصوصاً أن شبكات الاتصال الداخلية (الأرضية) لم تعد تعمل بصورة سليمة. وبعد نحو ساعة كاملة، علمت أن أخي على قيد الحياة (بحسب تعبيره)، ولا يمكن شرح المشاعر التي تملكتني في هذه الساعة؛ كنت أختنق بشدة، وقلبي يخفق من الخوف كما لم ينبض من قبل، وكنت أرتجف قلقاً على الروح التي لطالما كانت بجانبي، وكانت دموعي تنهمر كأنها شلال لا يمكن إيقافه، وأحسست فعلاً بأنني أخذل روح أخي الذي لم يخذلني قط، فكرهتُ نفسي لأنني لست إلى جانبه، وأصبحت أتمنى الموت قبل أن يصيبه أي مكروه.
لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن أنتظر خبر موت أحد من عائلتي، لكنني الآن أنتظر خبر استشهاد أحدهم، وأقسم بكل ما هو عزيز على قلبي، أن هذا الانتظار أقسى من الموت بحد ذاته!