منذ بدء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، اعتاد المتابعون سماع عبارات تدعو إلى احترام مبادئ القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، وفي المقابل تعلو يومياً الاتهامات بارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية. لكن كل هذه الدعوات والاتهامات تذهب أدراج الرياح إزاء تعنّت آلة الحرب الإسرائيلية التي يعلو صوتها فوق كل القوانين الدولية.
لماذا التشديد على أهمية القوانين الدولية في حماية المدنيين؟ وما الذي يمكن أن تحققه هذه القوانين في إطار مبادئ العدالة الدولية التي من المفترض أن يحققها المجتمع الدولي، هذا المجتمع الذي اعتبر أن إنجاز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948، هو بمثابة تكفير عمّا ارتُكب من أهوال وجرائم بحق الإنسانية خلال حربين عالميتين.
في قراءة للمبادئ التي تندرج تحت إطار القانون الدولي الإنساني وتتفرع منه، يظهر جلياً أنها تغطي الانتهاكات التي تُرتكب بحق الإنسانية كافة، كما أنها تضع أسس معاقبة المرتكبين التي من شأنها أن تشكل رادعاً وتمنع ارتكابات لاحقة.
لكن النصوص وما يرد فيها شيء وما يحدث على أرض الواقع شيء آخر مختلف تماماً، إذ على مدى عقود لم تتمكن هذه القواعد القانونية من منع جرائم الحروب والمجازر والتهجير والقتل التي تطال الإنسانية على يد أفراد من المجتمع الدولي نفسه الذي وضع هذه القوانين.
وفي مقدمة هذه الانتهاكات تأتي الجرائم التي ترتكبها إسرائيل حالياً في قطاع غزة لتفضح إخفاق آلية الردع القانونية الدولية في منع الانتهاكات أو معاقبة مرتكبيها. وقد تُوجّت هذه الجرائم بارتكاب مجزرة مروّعة في المستشفى المعمداني في غزة الذي يضم مرضى وجرحى وطواقم طبية بالإضافة إلى نازحين نشدوا الأمان في منشأة طبية غير عسكرية، وما أسفرت عنه من سقوط أكثر من 500 شهيد ومئات الجرحى.
وفي لحظة المجزرة استعاد المحللون مصطلحات القانون الدولي الإنساني للمطالبة بمعاقبة إسرائيل استناداً إلى مبادئ هذا القانون.
فما هو القانون الدولي الإنساني؟
"يقوم القانون الدولي الإنساني على مجموعة من المبادئ الأساسية التي كُرّست لحماية الفئات غير المشاركة في القتال، أو لم تعد قادرة على ذلك، وتشمل هذه الحماية فئة الأشخاص المدنيين، والأعيان المدنية [الأهداف المدنية] التي لا تسهم مباشرة في سير العمليات العسكرية. لذلك ترتكز حماية الأعيان المدنية على مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والأعيان غير العسكرية (المدنية)."
"ويوجب هذا المبدأ على أطراف النزاع في جميع الأوقات ضرورة التمييز، أثناء سير العمليات العدائية وكذلك في حالة الاحتلال، بين الأهداف العسكرية التي تساعد في المجهود الحربي، وبين الأعيان المدنية كدور العبادة والمشافي والمباني التي تأوي المدنيين بشرط عدم استخدامها في الأغراض العسكرية." وهذا ما نصت عليه المادة (48) من البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 التي جاء فيها:
"تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية."
هذه مبادئ لا لبس فيها تؤكد ضرورة حماية المدنيين وتحييد المنشآت المدنية خلال النزاعات المسلحة. وتكرّس مواد اتفاقية جنيف لحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/ أغسطس 1949، مبدأ حماية المدنيين وتعهد الأطراف بهذا المبدأ، وخصوصاً المادتين (18) و(19)، ومما جاء فيهما:
"لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات...."؛ "لا يجوز وقف الحماية الواجبة للمستشفيات المدنية إلاّ إذا استُخدمت، خروجاً على واجباتها الإنسانية، في القيام بأعمال تضر العدو. غير أنه لا يجوز وقف الحماية عنها إلاّ بعد توجيه إنذار لها يحدد في جميع الأحوال المناسبة مهلة زمنية معقولة ...."
وحدد نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية الذي اعتمدته الأمم المتحدة في 17 تموز/ يوليو 1998 بوضوح الأفعال التي تندرج ضمن اختصاصات هذه المحكمة والمعاقبة عليها.
وجاء في ديباجة النظام أن الدول الأعضاء تضع في اعتبارها "أن ملايين الأطفال والنساء والرجال قد وقعوا خلال القرن الحالي ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة"، وأن هذه الجرائم تهدد السلم والأمن في العالم ويجب ألاّ تمر من دون معاقبة مرتكبيها، وأن هذه الدول عقدت العزم على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب والمساهمة في منعها...
أمّا الجرائم التي تدخل ضمن اختصاصها، فهي: جريمة الإبادة الجماعية؛ الجرائم ضد الإنسانية؛ جرائم الحرب؛ جريمة العدوان. فجريمة الإبادة الجماعية، بحسب نظام روما تتضمن "الأفعال التي تُرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية .... إهلاكاً كلياً أو جزئياً."
أمّا الجرائم ضد الإنسانية فهي أفعال تُرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين وتتضمن: "القتل العمد؛ الإبادة؛ الاسترقاق؛ إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان ....؛ الاختفاء القسري للأشخاص؛ جريمة الفصل العنصري؛ الأفعال اللاإنسانية الأُخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية."
ولا تشذ جرائم الحرب عن الجريمتين السابقتين، إذ تشكل بحسب نظام روما، انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف، وهي أفعال تُرتكب ضد الأشخاص أو الممتلكات، وتتضمن: القتل العمد؛ التعذيب ....؛ تعمد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة؛ إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات ....؛ الإبعاد أو النقل غير المشروعين.
ونتوقف عند اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948، والتي اعترفت في ديباجتها أن "الإبادة الجماعية قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية"، وأقرت أن هذه الجريمة تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها بمقتضى القانون الدولي. وتضمنت مواد الاتفاقية تعهداً بمنع هذه الجريمة والمعاقبة عليها. ومن الأفعال التي تندرج تحت جريمة الإبادة الجماعية التي وردت في المادة الثالثة [وأشدد هنا على المصطلحات]: التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛ الاشتراك في الإبادة الجماعية.
ووفق المادة 25 (3) من نظام روما الأساسي فإن كل من يساعد شخصاً على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو الشروع في ارتكابها أو يحرضه على ذلك أو يساعده بأي شكل من الأشكال يعد مذنباً بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
بعد التمعّن في هذه القائمة الطويلة من الجرائم التي تندرج ضمن القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة، يمكن للقارئ أن يحدد نوع الجرائم التي ترتكبها إسرائيل منذ 75 عاماً حتى الآن، وأن يستنتج بالتالي أن إسرائيل ما كانت لترتكب كل هذه الجرائم من دون مساعدة واشتراك وموافقة من ممثلين للمجتمع الدولي، وعليه، فهي لم تُعاقب منذ قيامها، على أي من هذه الجرائم التي تجسّدها الحرب الحالية:
- إبادة جماعية تطال أكثر من مليوني نسمة في بقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها 365 كلم2
- عقاب جماعي يشمل قطع: الماء والكهرباء والغذاء ووسائل التواصل مع العالم الخارجي
- استهداف المنشآت المدنية والطبية ودور العبادة بشكل متعمّد
- مخططات "ترانسفير" وتهجير قسريّ على غرار نكبة 1948
مَنْ المسؤول، إذاً، عن عدم محاسبة أو معاقبة إسرائيل على انتهاكها قواعد قانونية أقرتها هيئات الأمم المتحدة ممثلة المجتمع الدولي؟ الجواب: هو المجتمع الدولي نفسه. المجتمع الدولي الذي يقدم دعماً مطلقاً لإسرائيل على الصعد كافة: عسكرياً ومادياً وسياسياً ودبلوماسياً. أمّا إعلاميّاً، فحدث ولا حرج، ربما هي أول مرة في تاريخ إسرائيل تحظى فيها بهذا الحجم من الدعم الإعلامي من خلال تسخير وسائل الإعلام الكبرى في عملية التحريض وتزييف الحقائق.
لقد أظهرت الحرب الأخيرة بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا المجتمع الدولي ينظر بعين واحدة، ويسوّق الحرب الدائرة على أنها "صراع حضارات" بين عالم متحضر ومجموعات "بربرية"، وفق النظرية التي تروّجها إسرائيل. هذا، طبعاً، سبب معلن، لكن الأسباب الحقيقية تكمن في مصالح إقليمية ودولية تتخطى هذا التفسير الضيّق.
وهنا، توضع مبادئ القوانين الدولية، والعدالة الدولية، جانباً، وتتحوّل إلى مجرد شعارات ترددها الألسن. فالأولوية الآن هي لتحقيق الأهداف. أمّا الجرائم، فلا بأس أن توثّق علّ العدالة تزورنا يوماً ما.
عندما تُسيّس مبادئ العدالة الدولية، تخضع المبادئ لقانون "القوة"، وتنتفي عنها صفتا "القانون" و"العدالة".
طوبى لأطفال غزة الذين لا يكبرون،
طوبى للصامدين والقابضين على جمر معاناتهم
المصادر:
- اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/ أغسطس 1949. الأمم المتحدة: حقوق الإنسان، مكتب المفوض السامي.
- اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. الأمم المتحدة: حقوق الإنسان، مكتب المفوض السامي.
- حماية الأعيان المدنية في القانون الدولي الإنساني. سلسلة القانون الدولي الإنساني رقم (9). الميزان (2008).
- المحكمة الجنائية الدولية: صحيفة الوقائع (3). الملاحقة القضائية لمرتكبي جرائم الإبادة الجماعية. 1 آب/ أغسطس 2000.
- نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. مكتبة حقوق الإنسان. جامعة مينسوتا.