في صباح يوم السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر، استيقظتُ على وقع عدد من إشعارات وسائل التواصل الاجتماعي، وإذ بالجميع يتحدثون عما يحدث في مستوطنات غلاف غزة التي هاجمها المقاومون الفلسطينيون (القسام) التابعون لحركة "حماس". أعيش حالياً على الأراضي المسلوبة لأمة Kanien’kehá:ka/Mohawk في مقاطعة كيبيك-كندا، والإعلام هنا في معظمه موالٍ لإسرائيل ولأنظمة العنف الشمالية، ويتبنى خطابها، ويغير الصورة ويحورها كما يشاء، ويخطئ كما يشاء، ويتراجع عن أخطائه عندما يشاء. ولَّد الهجوم الذي قامت به حركة "حماس" في مناطق غلاف غزة خطاباً إعلامياً غربياً يقوم بصورة واضحة على الإنسانية والأخلاق، وعلى حجم الرد الذي يجب أن يقابل هذه "الجريمة" التي قامت بها مجموعة من "الحيوانات البشرية". في هذا المقال أستعرض أبرز ردات الأفعال عند الإعلام الكندي تجاه ما حدث، موضحة كيف أن الإعلام الغربي لم ولن يتجاوز عنصريته وتحيزه إلى ارتكاب مزيد من الجرائم ضد المضطهَدين في جنوب العالم، حيث المنطقة العربية كانت البداية لهذا السيل الإعلامي الجارف والكثيف. ببساطة، تظل الصورة الغربية لتبرير القتل والسلب، منذ تأسيس أول مستوطنة في فلسطين العثمانية، ومنذ النكبة حتى وقتنا الحالي، كما هي مع تغيرات رتوش بسيطة.
أعتقد أن الفلسطينيين أكثر قدرة من الإسرائيليين على استيعاب عنف الطرف الآخر وتبريره، فبالنسبة إليهم، هذه هي طبيعة الطرف الآخر وواقعه، وهم لا يناشدون إنسانيته ولا يتعجبون من أفعاله، أمّا بالنسبة إلى الغرب وإسرائيل، الذين اعتادوا ممارسة العنف وليس تلقيه، فإن أي فعل يشبه وقيعة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، يظل صدمة لهم، ولا يعرفون كيفية التعامل معه، فيلجأون إلى تشكيل صور مضللة. هناك شيء ربما لا يدركه الفلسطينيون الذين يرفضون أن يظلوا ضحايا، ويحاولون الخروج من موقع الضحية باستمرار، وهو أن الشمال العالمي يريد أن يكون الجلاد والضحية معاً، لأن وجود أحدهما يبرر الآخر، وهذا هو منطق الإعلام الكندي أيضاً.
وقد وُجهت عدة انتقادات إلى قنوات الإعلام الكندية المتعددة بشأن تغطيتها أحداث العنف في فلسطين، وتغطية هذه الأحداث هو تحالف تقوم به وسائل الإعلام الكندية، والجامعات، والحكومة الكندية مع منظمات صهيونية تستخدم معاداة السامية كوسيلة لوقف أي تأييد أو تعاطف إعلامي أو أكاديمي مع الفلسطينيين. وفي سنة 2021، أصدر راديو كندا اعتذاراً عن استخدام كلمة فلسطين بدلاً من المناطق الفلسطينية في أحد البرامج التي استضاف فيها رئيس الجمعية الكندية-الفلسطينية، وهذا ليس حدثاً فردياً، إذ إن بعض كتب الإرشادات الإعلامية في كندا ما زالت تحظر تماماً أي ذكر لكلمة "فلسطين"، وأيضاً لا تستخدم كلمة "احتلال".
كذلك الأمر، من الأسهل على وسائل الإعلام الكندية اختزال الصراع وتبسيطه قدر الإمكان، كما أن هذه الوسائل تقوم أيضاً بتغطية الأحداث من دون الاهتمام بسياقها أو بسماع الصوت الفلسطيني، وقليلاً ما تقوم باقتباس تقارير صادرة عن منظمة هيومن رايتس ووتش. وخلال أحداث هبّة القدس والشيخ جراح سنة 2021، قام أكثر من 2000 صحافي وناشط في مجال حقوق إنسان بتوقيع بيان استنكار بشأن الموقف الإعلامي لوكالات الأنباء الكندية من أحداث القدس وفلسطين. وبعد ذلك، بدأت الوكالات الإعلامية استدعاء عدد من الصحافيين إلى اجتماعات مع الإدارة بشأن موقفهم، وتم وقف ثلاثة منهم، ومنعهم من تغطية أخبار المنطقة تماماً، كما طلب عدد كبير من الصحافيين إبقاء التكتم على معلوماتهم الشخصية خوفاً من التبعات وردات فعل وكالاتهم الإعلامية. وفي الوقت نفسه، كانت وكالات الإعلام الرسمية تصف أي حدث داخل المسجد الأقصى بأنه مجرد مواجهات بين المصلين من كلا الطرفين.
لم تتغير ردة فعل وسائل الإعلام الكندية الرسمية، وخصوصاً في الوقت الحالي، إذ يقوم خطابها الحالي بتبرير أمرين: ردة فعل إسرائيل تجاه عمليات "حماس"، وإثبات أحقية مواقفها المنحازة إلى إسرائيل تاريخياً. عند مشاهدة بعض مقابلات قنوات "راديو كندا"، و"غلوبال نيوز"، و"سي بي سي"، و"إي بي سي"، فإنها تتبنى خطاباً محايداً لمصلحة إسرائيل. ففي صبيحة اليوم الثاني للهجوم، بدأت وسائل الإعلام الكندية إجراء مقابلات مع بعض المشاركين في حفل الطبيعة الذي تعرض للهجوم أيضاً، لكنهم استطاعوا النجاة، وهذا أمر يحدث على غير العادة فيما يخص تغطية الحرب في فلسطين، كما أن الإعلام الكندي عادة لا يستضيف ضحايا فلسطينيين ويسألهم عن وصف تجربتهم، ويضع كل ما يقولونه موضع شك وتساؤل، بالإضافة إلى التشكيك في الرواية الرسمية الإعلامية الفلسطينية باستمرار، وتفضيل نقلها عبر الرواية الإسرائيلية الإعلامية الرسمية، فالضحية الفلسطينية في الإعلام الكندي تتحدث عبر الرواية الإسرائيلية عادة. بالنسبة إلى أحداث هذه الحرب، لقد قامت وسائل الإعلام باستضافة عدد من الإسرائيليين المقيمين بكندا ليحكوا عمّا تمر به عائلاتهم في مناطق غلاف غزة، فرواية "الضحية" الإسرائيلية تستحق التعاطف، وهي رواية فردية تعبر عن تجربة جماعية فظيعة، وليست في حاجة إلى أي تأكيد أو دعم رسمي، إنما هي قائمة بنفسها وبحد ذاتها، على عكس رواية الفلسطينيين التي تظل موضع شك وعدم تصديق أن إسرائيل قادرة على ارتكاب الفظائع.
كان الاستماع للضحايا الإسرائيليين نقطة البداية لتبرير القصف الذي يحدث، وعادة تكون عناوين الأخبار والصور التي يتم تداولها عن الوضع في غزة مجرد تسطيح وتبسيط كبير للواقع؛ فترْك نحو 2.2 مليون إنسان بلا طعام ولا ماء هو أمر مستهجن لكنه مبرر. كما أن الفلسطينيين يموتون وحدهم في غزة، و"حماس" هي المسؤولة عن حمايتهم وعن موتهم، كما هي مسؤولة عن سلامة المدنيين في غلاف غزة. إن الأسئلة التي يتم طرحها على مناصري القضية الفلسطينية تنصب في دائرة الاتهام، إذ يؤدي المذيع أو المراسل دور المحقق، ودائماً ما تكون الأسئلة الموجهة شخصية، على اعتبار أن رأي شخص واحد من فلسطين كافٍ ليمثل رأي الجميع على الرغم من تعقد المشهد السياسي هناك، وهذا الأمر يتناقض مع محاولة خلق صورة جمعية موحدة لردة فعل إسرائيلية، فإسرائيل هنا هي الضحية، وليست في حاجة إلى استنكار قتل المدنيين، لأنهم فقط يدافعون عن أنفسهم. بالإضافة إلى هذا، فإن وسائل الإعلام الكندية تتحدث عن صور بشعة لقتلى إسرائيليين يكمن وراء موتهم مقاتلو "حماس"، لكنها لا تقوم بعرض الصور من غزة، ذلك بأن صور قصف غزة غالباً ما تكون عبارة عن صور جوية سجلها الجيش الإسرائيلي، أو صور عمودية عن بعد، أو صور تُظهر حجم الدمار على الأرض، لكنها لا تُظهر حجم المأساة الإنسانية في القطاع، على عكس اللقطات المثيرة للعواطف التي تأتي من مستوطنات غلاف غزة.
فيما يتعلق بقضية النزوح، يحاول الإعلام أن يبين أن الجيش الإسرائيلي قام بإرسال تحذيرات إلى أهل غزة لدفعهم إلى التوجه إلى جنوب القطاع، ويستخدم الإعلام هذه التحذيرات للإشارة إلى أن الجيش كان قد أرسل تحذيراته، وأن سلامة المدنيين مرهونة بأنفسهم كأفراد الآن، من دون وضع أي علامة استفهام بشأن بدائل أقل عنفاً لردات الفعل الإسرائيلية، أو الصلاحيات التي تعطي جيش الاحتلال الحق في تهجير الناس مجدداً.
أخيراً، ثمة فصل مخيف بين غزة وفلسطين، وبين "حماس" وبقية الفلسطينيين. ولم يصحُ الإعلام بعد من صدمة هجوم "حماس"، فهم معتادون على هذا المستوى من العنف من جانب إسرائيل، وهو أمر مبرَّر ومفروغ منه، لكن ليس من جانب الفلسطينيين. وحتى الآن، ليس هناك صورة منطقية لتفسير ما حدث في الإعلام الكندي، ومجدداً، كان من الأسهل تبنّي الروايتين الإسرائيلية والأميركية بشأن الهجوم، أمّا "حماس"، فهم مجرد "حيوانات بشرية"، وهم مختلفون عن بقية الشعب الفلسطيني، وأكثر تطرفاً، إذ ترفض الحركة وجود إسرائيل مطلقاً. و"حماس" هي أيضاً "داعش"، ومن المعروف أن تصوير أحد ما بـ "داعش" في الإعلام الغربي يعني أنه خارج الوجود البشري العالمي، وهو الأسهل لتبرير كل عمليات القصف والقتل التي تقوم بها إسرائيل، ولذلك يرى هذا الإعلام أنه على كل الفلسطينيين إدانة "حماس" والتوقف عن دعمها، بل أيضاً مساعدة إسرائيل على التخلص منها. وهناك صورة أُخرى متداولة وتُستخدم لتبرير القتل في غزة، هو أن "حماس" تضطهد النساء، وتقوم بقتل الكوير عبر رميهم من الأبنية العالية، ويتعامل الإعلام مع هذا النوع من العنف ضد النساء والكوير على أنه جوهر هذه الحركة ومؤيديها وطبيعتهما، بدلاً من الحديث عن مسؤولية الاستعمار والاحتلال عن خلق كل أنواع العنف هذه واستمرارها.
لا تختلف أيضاً مواقف الإعلام الكندي عن مواقف الإعلام الأميركي على الرغم من كونها أكثر حدة بعد أن أصدرت الحكومة الكندية هذا العام قراراً يجبر شركات مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث على الدفع في مقابل نشر محتوى وسائل الإعلام المحلية. وفي إثر ذلك، أعلنت ميتا أنها ستغلق الوصول إلى الأخبار على منصتي فيسبوك وإنستغرام في كندا بعد أن أقرت الحكومة الفيدرالية في البلد قانون الأخبار عبر الإنترنت.
لكن حظر الأخبار لم يشمل فقط الوكالات الإعلامية المحلية في كندا، كـ "تورونتو ستار"، و"سي بي سي"، و"راديو كندا"، و"إي بي سي"، بل يشمل أيضاً كل منصات الأخبار العالمية، فلا تستطيع الوصول إلى أخبار "الجزيرة"، و"العربية"، و"الغد"، وغيرها من الوكالات المحلية في العالم باستخدام فيسبوك وإنستغرام. وفي الوقت نفسه، أعلنت غوغل أنها ستنتهي من إزالة روابط الأخبار الكندية من متصفحها بحلول نهاية هذا العام. وإذا كان في الإمكان الوصول إلى تقارير إخبارية مغايرة باستخدام هذه المنصات ممكناً سابقاً، فالأمر لم يعد كذلك الآن، وهذا يزيد من حدة خطر الخطاب الإعلامي الرسمي.