فصل جديد لم تشهد المنطقة مثيلاً له
Date:
19 octobre 2023
Thématique: 

في وقت نترقب أن تصب إسرائيل جام غضبها بغرض الانتقام وتنفذ هجومها من أجل معاقبة شعب غزة، من المرجح أن تشهد الساعات المقبلة الخطوات الأولى في اتجاه فصل جديد لم يسبق أن شهدنا له مثيلاً في الهجوم المستمر منذ قرن من الزمن على فلسطين العربية.

في غزة، ألقت حملة جوية لا هوادة فيها أكثر من 6000 قنبلة أدت إلى مقتل أكثر من 750 طفلاً من مجموع 2750 قتيلاً[1]، جميعهم تعرضوا لعقوبة وحشية وجماعية بسبب أحداث لم يشاركوا فيها ولا يمكن أن يتحملوا مسؤوليتها.

ومن المرجح أن تتقدم الهجوم العسكري الإسرائيلي طوابير مدرعة ثقيلة يدعمها مهندسون قتاليون، ستقسم مساحة غزة البالغة 360 كيلومتراً مربعاً إلى قطاعات منفصلة بهدف تمهيد الطريق أمام القوات الخاصة والمشاة التي ستسعى إلى اقتلاع الفصائل المقاوِمة، وتدمير منشآتها العسكرية، وتوجيه ضربة نهائية وحاسمة لقدراتها القتالية. وعلى الرغم من أن القوات الإسرائيلية ستحاول تحديد مكان الإسرائيليين المحتجزين في غزة، فإن من الواضح الآن أن القادة الإسرائيليين على استعداد تام للتضحية بهؤلاء كجزء من حملتهم الانتقامية التي لا تعرف الرحمة.

ومع ذلك، فإن مشكلة إسرائيل الحقيقية ستبدأ بعد انتهاء المرحلة الأولى من الهجوم. ويبدو أن خطط "اليوم التالي" الإسرائيلية يكتنفها الارتباك، وتزينها الأماني الواهية. فحتى لو أدت المرحلة الأولى من الهجوم إلى دخول القوات الإسرائيلية إلى قلب غزة، فسوف يوفر هذا عدة أهداف لقوات المقاومة لخوض حملة من العمليات القتالية المستمرة، وستظهر أشكال جديدة من المقاومة في مرحلة ما بعد الاحتلال. كما أن إعادة احتلال القطاع ستخلق مشكلات أُخرى منها: فرض السيطرة، والحاجة إلى تلبية الحاجات اليومية للسكان في أعقاب الدمار الهائل والأعداد غير المسبوقة من الخسائر في الأرواح. وسوف يتطلب الأمر أيضاً وجود جهة مرجعية محلية وآلية للحكم، لكن من الصعب جداً أن نرى مَن يمكن أن يتقدم لتولي مثل هذا الدور، أو كيف ستحظى أي إدارة محلية ولو بذرّة من الشرعية في نظر أبناء شعبها. ومن الصعب جداً أيضاً أن نرى أي مجموعة خارجية من القوى ستكون جاهزة لأن ترث عواقب الممارسات الإسرائيلية، وأن تتولى إدارتها. وفي حال نجحت إسرائيل في الاستيلاء على غزة، فستتحمل عبئاً وتحدياً استثنائيين لا يمكن مقارنتهما بأي شيء واجهته في الماضي.

لقد تحدث القادة العسكريون والسياسيون الإسرائيليون عن جعل غزة غير صالحة للعيش وتحويلها إلى صحراء، لا في الوقت الحالي أو لفترة قصيرة فحسب، بل أيضاً على نحو دائم، أي بعبارة أُخرى: إحياء ممارسات التهجير الجماعي وفكرة الترانسفير باعتبارها استراتيجية إسرائيل الكبرى التي تستخدمها كوسيلة للتهديد بها، أو لتطبيقها كلما سنحت لها الظروف، لا في غزة فحسب، بل أيضاً في الضفة الغربية على وجه التقدير. لكن الحقيقة هي أنه، ناهيك عن الإبادة الجماعية الصريحة، لا يوجد خيار عملي لإخلاء غزة من سكانها، إذ لا مكان يمكن لأهل غزة أن يذهبوا إليه؛ مصر ليست خياراً، ذلك بأنها أوضحت أنها لن توافق على استقبال عشرات أو مئات الآلاف من الفلسطينيين في سيناء، وبالتالي يُنظر إليها على أنها متواطئة مع المخطط الإسرائيلي لمحو غزة عن الخريطة. ونحن نعرف من تجربتنا التاريخية المريرة ما الذي سيحدث ما إن يغادر الفلسطينيون ترابهم الوطني.

إن ما قد نراه يتشكل هو إعادة تعريف شروط احتلال إسرائيل لكامل أرض فلسطين. وستتمثل مشكلة إسرائيل على المدى الطويل في أن احتلالها المتجدد لن يؤدي سوى إلى انزلاقها في طريق مسدود جديد من الظروف غير المتوقعة.

وعلى الرغم من الصور الرهيبة التي تصلنا من غزة، فإن علينا أن ننوه بأن القطاع شكل حاضنة للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة في مختلف أشكالها: من "فتح" إلى الجهاد الإسلامي فـ "حماس". لقد جربت إسرائيل كل شيء على امتداد عدوانها المستمر على القطاع منذ 70 عاماً؛ من سحق اللاجئين العزل خلال محاولتهم العودة إلى ديارهم وحقولهم بعد عام 1948، إلى المجازر المتكررة خلال فترة الاحتلال الأولى في عام 1956 (التي لا يتذكرها العالم اليوم)، وعمليات الطرد الجماعي في عام 1967، وحملة "التهدئة" الوحشية التي نفذها شارون في الفترة 1970-1971، وعصر الاحتلال الاستيطاني حتى عام 2005، وصولاً إلى الحصار الذي لا نهاية له والهجمات الدموية المتكررة منذ ذلك الحين. وفي كل مرة يصب فيها قادة إسرائيل غضبهم ويستميتون للانتقام من إذلالهم، يتصرفون كأن تجربة التاريخ المريرة لم تترك لديهم مذاقاً مراً.

ربما يعيد الاعتداء الوحشي الأخير رسم الخريطة كما هدد نتنياهو، لكن ليس بالطريقة التي يتوقعها، وإنما مع إسرائيل الغارقة في مرحلة جديدة ورهيبة من الصراع ستكون لها عواقب طويلة الأمد لا يمكن توقعها. إن الدعم الأعمى وغير المشروط الذي تقدمه إدارة بايدن والغرب لإسرائيل يجعلهم متواطئين مع الاحتلال الجديد وجرائمه، وسيكون له أثر كبير في العلاقات بين الغرب والشعب الفلسطيني والشعوب العربية على مدى عقود مقبلة. وبدلاً من "تطبيع المنطقة وتحقيق الاستقرار فيه"، كما وعدت ما تسمى بالاتفاقات الإبراهيمية، وفي حال استمرت إسرائيل في حملتها الانتقامية واحتلالها، فمن المرجح أن تكون المرحلة التالية هي مرحلة الاضطرابات الشديدة، مع التهديد المستمر باندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق، وعلاقات إسرائيلية متوترة بشكل متزايد مع جميع الحكومات العربية المجاورة وشعوبها، بما في ذلك تلك التي أنهت ظاهرياً صراعها معها.

 

[1]  الإحصائية حتى ١٦ تشرين الأول/ أكتوبر 2023

À propos de l’auteur: 

أحمد سامح الخالدي: زميل متقدم في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

"أطفال غزيين داخل مركز لإيواء النازحين في احدى مدارس قطاع غزة، 11 أبريل/ نيسان 2024، قطاع غزة/ فلسطين" تصوير " apaimages ،Omar Ashtawy"
Razan al-Haj
فلسطينيون يسيرون أمام أنقاض المباني السكنية التي دمرتها الغارات الإسرائيلية خلال حرب الإبادة، قطاع غزة/ فلسطين، 24 أبريل/نيسان 2024. (تصوير خالد داوود، apaimages)
Sama Hassan
Yasser Manna
نجوم منتخب كرة الطائرة إبراهيم قصيعة (يمين) وحسن زعيتر (مواقع التواصل) استشهدا بقصف إسزائيلي على مخيم جباليا.
Ayham al-Sahli
Maher Charif
Uday al-Barghouthi