شهادة شخصية عن أيامي الفلسطينية: من اللد إلى اللد
Date:
19 septembre 2023
Auteur: 

لدى لقائي إيلان بابه (المؤرخ والمفكر اليهودي المعروف بمناهضته للصهيونية) برفقة الصديق أسعد غانم (أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا)، خلال زيارتي إلى فلسطين (22/8 - 4/9/2023)، بادرني بالسؤال التالي: أين تقيم؟ للوهلة الأولى، انتابني شيء من الحيرة؛ الحيرة في الإجابة عن هذا السؤال المباغت، والعادي، والذي يبعث على الشجن في ظروفنا الخاصة. فمن أين أبدأ؟ هل يكفي أن أجيب بأنني أقيم ببرلين؟ وهل تفسر تلك الإجابة شيئاً، ولا سيما أنني أحمل الجنسية الأميركية، في حين أنني فلسطيني - سوري؟

هكذا، وجدت نفسي مضطراً إلى تقديم إجابة وافية، وذات دلالة، بدءاً بكوني ابناً لعائلة لاجئة عاشت في سورية، لوالد من اللد ووالدة من حيفا، إذ وُلدت في حلب، ثم انتقلت للإقامة بدمشق (1976)، حيث ولد أبنائي الأربعة (ابنتان وولدان). ابتسم إيلان لهذا السرد الطويل، وقاطعني بأن قصتي طويلة مثل كل الفلسطينيين، الذين لا يمكنهم اختصار قصصهم.

المهم أنني تابعت سرد بقية القصة، بأنني غادرت سورية (عام 2012) إلى الولايات المتحدة، التي غادرتها أيضاً بعد نيل الجنسية الأميركية (2016) إلى تركيا، حيث أقمت بإستانبول لأربعة أعوام، ثم أتيت للإقامة ببرلين التي جئت منها لزيارة بلدي فلسطين.

طبعاً، اعتذرت لإيلان عن تلك الإجابة الطويلة عن سؤال قصير، إذ ليس من الملائم أن أكتفي بالقول بأنني أقيم ببرلين، لأن ذلك لا يعني شيئاً لي، ولا يعبّر عني وعن مشاعري إزاء حرماني، ككل الفلسطينيين اللاجئين، من مكاننا الخاص، إن في فلسطين أو تحت سمائنا الأولى، حيث عشنا ووُلد أبناؤنا الذين باتوا في أكثر من بلد، وأكثر من قارة؛ ذلك بأننا نعيش "خارج المكان"، بحسب إدوارد سعيد، أو يسكننا شعور بأننا في "بلاد تتنقل"، بتعبير الياس صنبر، نحملها معنا أينما رحلنا، كأن الوطن حقيبة، وفق التعبير المجازي لمحمود درويش.

إذاً كانت تلك زيارتي الرابعة إلى البلاد، كما يطيب للفلسطينيين تسمية بلدهم فلسطين، الزيارة الأولى كانت في عام 2017 والثانية والثالثة في عام 2018. باختصار، نزلت في مطار اللد، كما يطيب لي تسمية ذلك المطار الذي أقيم على أرض مدينة أبي، وكان في استقبالي مضيفي الصديق العزيز أسعد غانم، الذي تفرغ تماماً لمرافقتي لأسبوعين كاملين. 

 

ماجد كيالي في القدس

 

في عكا وحيفا

كالعادة كانت الإطلالة الأولى على مدينتَي اللد ويافا، ثم حيفا، مروراً ببلد الشيخ (المدمرة)، في اتجاه بلدة "شعب"، حيث منزل أسعد، وهي تقع بين يافا وعكا في الجليل قرب البروة (بلدة الشاعر محمود درويش) والمغار التي تم تدميرها وإنشاء مستوطنة مكانها.

وتجدر الإشارة إلى أنني أتحدث هنا عن إحدى أجمل بقاع الدنيا، بجبالها ووديانها وسهلها وبحرها، وبمشاهدها التي تسحر الألباب. ويكفي أن تقف في منطقة أعلى جبال الجليل في حيفا لتشاهد أسوار مدينة عكا، ومرتفعات هضبة الجولان معاً، والعكس صحيح أيضاً. والمهم أن فلسطين التي أشاهدها بدت أجمل من فلسطين التي تخيلتها، إذ لم يسبق أن رأيت مثل كل هذا الجمع من جمال الطبيعة كي أتخيله.

حظيت في هذه الزيارة بأصدقاء تكرموا عليّ بلطفهم ووقتهم ومعرفتهم، فكانت البداية عندما أخذني أسعد في جولة في مدينة عكا القديمة، حيث أسوارها المهيبة وبحرها الجميل وأزقتها وسوقها ومطاعمها، التي تقص حكاية تلك المدينة التي شهدت حروباً كثيرة، منها الحروب الصليبية، والتي استعصت على كثيرين، ومنهم نابليون بونابرت؛ عكا التي قيل عنها إنها لا تخشى هدير البحر.

في حيفا لا بد من قعدة في مقهى "فتوش" المشهور، الذي ترى منه سفوح جبال الكرمل بكل بهائها وجمالها من جهة حديقة "البهائيين"، حيث التقيت بالمؤرخ جوني منصور، وبالكاتب السياسي أمير مخول بحضور أسعد، وكان بيننا حديث شيق أخذنا فيه جوني إلى تاريخ الناس والأمكنة، في أحوالهم وترحالهم أو ترحيلهم؛ وهو المختص بذلك.

أمّا أمير فأخذنا في جولة إلى أعلى جبل من جبال الكرمل، حيث هناك إطلالتان، واحدة على حديقة "البهائيين" من فوق والأُخرى على ميناء حيفا. بعدها نزلنا في جولة إلى حي وادي النسناس، ثم إلى حي وادي الصليب؛ في وادي النسناس شعرنا بأننا في حارة فلسطينية، ببيوتها وحوانيتها وناسها، حتى إننا تناولنا سندويشة فلافل من محل "نجلاء" ضيافة من صاحبه أليف سبيت، الذي بدا لطيفاً بترحيبه بنا.

 بعد ذلك أخذنا أمير إلى "وادي الصليب" الذي بدا شاهداً على النكبة كأنها حدثت البارحة، إذ بدت بيوت ذلك الحي التي أُغلقت شبابيكها بالبلوك كأنها تبكي أصحابها الذين تركوها؛ عمارات كاملة كان لها عز في يوم من الأيام بدت مهجورة، وظلت على حالها منذ 75 عاماً كأنها تنتظر عودة أصحابها. طبعاً، كان في الجوار جامع الاستقلال (الذي كان يؤم الصلاة فيه الشيخ عز الدين القسام)، ثم قرية بلد الشيخ التي درستها جرافات الاحتلال مع مئات القرى والبلدات العربية لدى إقامة إسرائيل (1948)، وحيث ضريح القسام شاهداً على تلك المرحلة وذلك الزمان.

في تلك الأثناء كان أمير يحدثنا بحرارة معجونة بالغضب والألم عن تلك الحارات والأماكن والناس، كأن النكبة حدثت بالأمس؛ كان يتحدث من قلبه، وبكل جوارحه، مع تأكيده أن العدل لا بد من أن يأتي، وأن هذه البلاد ستبقى لأصحابها، وهو الأمر ذاته الذي جرى مع مرزوق الحلبي (في دالية الكرمل المطلة على مرج بن عامر)، وجهاد الجاغوب (في قرية بيتا قرب نابلس وحوارة)، وغسان منيّر (في اللد)، وثابت أبو راس (في هربيا قرب غزة)، وجمال حويل (في مخيم جنين)؛ وكل واحد من هؤلاء رافقني في منطقته. 

حكاية اللد

في زيارتي لـ "اللد"، برفقة الصديق بكر عواودة (رئيس جمعية الجليل سابقاً)، أخذنا اللداوي غسان منيّر في جولة في المدينة حرص فيها على رؤيتنا لها حارة بحارة، شارحاً تاريخها وحوادثها، وقد أخذ بالاعتبار أنني لداوي أيضاً، لذا جمعني بوالدته المعمرة (أطال الله عمرها) التي رحبت بي مسترجعة ذكرياتها عن "الكيالية" الذين كانوا يقطنون في جوارهم.

أثار وجودي في اللد مشاعر مضطربة لديّ، فهذه مدينة الآباء والأجداد، ومن هنا رحل والدي وعائلته التي كانت معروفة، إذ كان رئيس بلديتها (محمد علي الكيالي) ابن خال والدي، وهو أول رئيس لتلك البلدية، وآخر رئيس لها. ومعلوم أن مدينة اللد هي من أقدم مدن فلسطين بعد أريحا، وكانت عاصمة على مر التاريخ، لموقعها المتوسط في فلسطين، وكانت مركز محطة السكة الحديد، وموقعاً للمطار، وهي قريبة من يافا، أهم ميناء في فلسطين.

عدا عن كل ذلك فإن مدينة اللد، التي تعتبر من المدن المختلطة، التي تضم يهوداً وعرباً، تبدو كمدينة تتكثف فيها حكاية النكبة (1948)، أي الحكاية المتمثلة في ولادة مشكلة اللاجئين وإقامة إسرائيل بواسطة القوة، وبواسطة المستوطنين، ثم مساعي الأسرلة والتهويد واقتلاع أو إزاحة السكان الأصليين من المكان. فقد تم تدمير معالم المدينة القديمة، وما تبقى مجرد أحياء أو بيوت قليلة لا يُسمح غالباً بتجديدها أو بتوسيعها.

 

ماجد كيالي في مدينته اللد

 

كذلك، تتعرض تلك البلدة لحملات هدم بيوت، بين فترة وأُخرى، لطرد السكان الأصليين منها، كما يجري الاستيطان في قلب المدينة، بحيث يبقى الصراع قائماً بين أهل اللد الأصليين والمستوطنين، ولا سيما المتدينين والمتطرفين، إذ لا يختلف الصراع فيها عن الصراع الجاري في الضفة الغربية بين الفلسطينيين والمستوطنين، وبين الفلسطينيين والقوانين العنصرية الإسرائيلية.

لكن ما أصابني بصدمة في مدينة اللد أن بعض الأحياء العربية فيها تبدو كأنها مخيمات لاجئين لشبهها بالمخيمات البائسة في سورية ولبنان، على الرغم من مرور 75 عاماً على النكبة، وأن بعض البيوت محاطة بجدران عالية وببوابات حديدية كبيرة لحمايتها من اعتداءات المستوطنين المتطرفين الذين يقطنون في الأحياء القريبة.

في الغضون كنا نستمع من محدثنا غسان إلى قصة مدينة اللد، بطريقة أمير ذاتها، أي الحكاية المعجونة بالمشاعر والألم والغضب، وبالتحديد عندما أخذنا إلى جامع "دهمش" وقص علينا حكاية المجزرة المهولة التي نفذتها العصابات الصهيونية عام 1948 بقتلها عشرات الفلسطينيين في باحة ذلك المسجد بدم بارد لإشاعة الرعب في اللد وما حولها، وإجبار الفلسطينيين على الرحيل.

ختام الرحلة في اللد كانت في لقاء جمعنا مع مجموعة من أبناء البلدة، منهم سامي أبو شحادة، الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، والباحث والأكاديمي محمود محارب، والأكاديمية مها النقيب، والمحامي تيسير شعبان (الذي قدم لي هدية قيّمة هي عبارة عن مجموعة أوراق بتوقيع رئيس البلدية محمد علي الكيالي، ووثائق تفيد بوجود أفراد من عائلتي في اللد قبل النكبة)، وهو ما شكل فرصة لتبادل الآراء بشأن مدينة اللد، ومكانة فلسطينيي 48 في العملية الوطنية الفلسطينية، وصولاً إلى حال الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة. 

نحو هربيا على حدود غزة

في تلك الزيارة اقترح علينا ثابت أبو راس (دكتوراه في الجغرافيا) تخصيص يوم كامل لجولة يصحبنا فيها إلى جنوبي فلسطين، من قلنسوة بلدة والده، إلى هربيا بلدة والدته المجاورة لقطاع غزة. هكذا أخذنا إلى حاجز إيرز، حيث الجدار يفصل غزة عن بقية فلسطين، وهي المنطقة التي تسمى غلاف غزة، والتي تصبح ساحة صراع أو مرمى صواريخ غزة.

اللافت أن ثابت عندما كان يتجول بنا في تلك المنطقة بدا لي أنه يعرفها كراحة يده، تراه يرفع صوته بحماسة كأنه ذلك الطفل الذي كان يلعب في تلك المرابع، فيصيح قائلاً: هناك شجرة جميز، وبعدها شجرة توت، وفي الطرف الآخر شجرة تين، ودوالي عنب، شوفوا الصبار ما أطيبه. كان فرحاً وحزيناً في الوقت ذاته، وكان المكان أشبه بجنة فواكه بكل إغراءاتها، لكن ما شغلني عن ذلك هو حماسة ثابت الذي رحل بذاكرته إلى سنيّه الأولى، إذ كان يأخذنا من شجرة إلى شجرة في هربيا ويقول: هنا كانت أمي تقعد، وهنا فعلت كذا وكذا، وهذه مدرسة أمي. لم يكتف ثابت بذلك بل هاتف خالته المقيمة بغزة، على بعد بضعة كيلومترات خلف الجدار، مطالباً إياها إعداد الغداء، من قبيل المداعبة والحنين.

أمّا الحادثة الأُخرى المؤثرة التي جرت في هربيا وأثارت الشجن فينا (أنا وثابت وأسعد وأحلام زوجته) فكانت لدى اتصالي بالصديق رزق المزعنن من أيام الدراسة الجامعية في دمشق، قبل خمسين عاماً، والذي ما إن تحادثنا بالصوت والصورة (بواسطة الواتس أب) وبيننا فقط الجدار حتى أجهش بالبكاء، الذي لم أستطع مقاومته بدوري، فما كان مني إلاّ تحويل الأمر إلى أسعد لتهدئة الحال.    

بين رام الله ونابلس وجنين مروراً بالقدس

في هذه الزيارة دخلت الضفة الغربية مرتين؛ الأولى من القدس إلى رام الله، والثانية من جهة الناصرة إلى جنين. في البداية تجد نفسك في القدس، مدينة السماء، أمام رهبة المكان الآتي من التاريخ والأسطورة، كما تجد نفسك في مدينة تحت الاحتلال مقسمة جغرافياً وسكانياً كأنها آتية من حرب أو ذاهبة إلى حرب، فالمجندون والمجندات من كل لون لا ينتمون إلى المكان، لكنهم يمتلكون وقاحة السؤال: من وين إنت؟ لوين رايح؟ عند مين؟ المهم أنك في القدس تجد نفسك في مدينة في وجه الإعصار، مدينة قابلة للانفجار في كل اتجاه، وهو ما كان موضع حديث بيننا مع د. سري نسيبة في بيته عن القدس وأحوالها، وعن حال الفلسطينيين وحركتهم الوطنية بصورة عامة.

أمّا رام الله، التي تدخلها بصعوبة بسبب الحاجز، فهي بمثابة عاصمة للسلطة الفلسطينية، وهي سلطة "فتح" في الضفة، وفيها شعرت بأنها باتت أوسع بكثير مما كانت في آخر زيارة لي قبل خمسة أعوام، إذ وجدت نفسي في مدينة تنفجر بالأبنية والطرقات والسكان والمطاعم والمقاهي والسيارات.

رام الله مدينة جميلة، وكانت من أجمل مصايف فلسطين، فهي تقع في مكان جميل بين جبال ووديان، لكنها باتت اليوم مدينة تعج بالفوضى، وتعيش بين حدَّي الاحتلال واللامبالاة، ولا سيما مع توسّع الطبقة الوسطى، وتفشي ثقافة الاستهلاك، والإقبال على الحياة في حياة يسكنها القلق من كل شيء، من السياسة والأمن وطريقة تدبر المعاش.

 

ماجد كيالي في جنين

 

وكونها بمثابة عاصمة، فإن رام الله تعج بالمثقفين والكتّاب والأكاديميين الذين يطرحون الأسئلة عن الواقع والمستقبل، وعن أين كنا وأين صرنا، وهو ما جمعنا في لقاء حواري في مركز مسارات الذي يديره الصديق هاني المصري، حيث التقيت ببعض الأصدقاء مثل خليل شاهين (معاون مدير المركز) والفنانة ميساء الخطيب، والأكاديميين مثل جورج جقمان وباسم الزبيدي، والكاتب السياسي والروائي عبد الغني سلامة، والدبلوماسي باسم الخالدي، بحضور القيادية في الجبهة الشعبية خالدة جرار. كما كنت التقيت في رام الله بالأصدقاء سعيد زيداني (الأكاديمي الفلسطيني)، ونبيل عمرو (السياسي المعروف)، وداود تلحمي (رئيس تحرير مجلة "الحرية" سابقاً)، وأحمد الحزوري (مدير تلفزيون فلسطين سابقاً)، وراجي مصلح (الشخصية المعروفة والطبيب وصديق التجربة المشتركة في حركة "فتح").

وكان لديّ الانطباع ذاته في مدينة جنين أيضاً، فالمدينة تتوسع في كل شيء، وما يميزها هو المخيم الذي غدا بمثابة أسطورة في مقاومته وتصديه للاعتداءات الإسرائيلية، وقد تمكنّا من لقاء أعضاء من اللجنة الشعبية في المخيم، وجمال حويل (عضو المجلس الثوري لحركة "فتح")، الذين عرضوا أحوال المخيم وما يتعرض له. لكن الاستنتاج هنا، أيضاً، أن الواقع في المخيم شيء، وفي المدينة شيء آخر، الأمر الذي يفسر استفراد إسرائيل بالمخيم، ويفتح على إشكالية تتمثل في افتقار الفلسطينيين إلى استراتيجيا وثقافة مقاومة ممكنة وواضحة ومستدامة يمكن للفلسطينيين تحمّل تبعاتها، واستثمار تضحياتهم فيها. 

في الجولان السوري - مجدل شمس

في هذه الزيارة كان لا بد من الجولان ومجدل شمس، وهو أمر اعتدت عليه في كل زياراتي السابقة لفلسطين، حيث يتم الحديث عن فلسطين وسورية والتحولات في القضيتين بمعية الأصدقاء أيمن أبو جبل ووئام عماشة وفوزي أبو جبل وأبو فارس. 

في حضرة البلاد

أسئلة كثيرة تظل تلح علّي لدى كل زيارة للبلاد، منها ما له علاقة بالسياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين من النهر إلى البحر، ومنها ما له علاقة بالفلسطينيين أنفسهم في كل أماكن وجودهم. فمن جهة إسرائيل ثمة سياسة تستبعد الفلسطينيين من المواطنة، ذلك بأنها تعتبر نفسها دولة لليهود، وهذا يشكل إجماعاً عند معظم التيارات الإسرائيلية المؤثرة، بغض النظر عن التفاوت في الخطاب بين تيار وآخر، فالجميع يشتغل عملياً على إزاحة الفلسطينيين من المكان والزمان، وتضييق حيزهم المكاني بطردهم، أو بإخفائهم خلف الجدران، أو بفصلهم عن بعضهم البعض، جغرافياً وسياسياً وحقوقياً، أي أن ثمة سياسة مركبة استعمارية وعنصرية، وهذا باعتراف إسرائيليين.

ومن جهة أُخرى، يواجه الفلسطينيون السياسة ذاتها، بمركباتها الاستعمارية والعنصرية والاستبعادية، لكنهم يخفقون في بلورة رؤية جامعة تفضي إلى ترسيخ روايتهم، أو سرديتهم التاريخية الجامعة والمؤسسة لهويتهم الوطنية كشعب، والتي تأسست على النكبة وولادة مشكلة اللاجئين وإقامة إسرائيل على حسابهم (1948)، كما إخفاقهم في بلورة ثقافة كفاحية، وأشكال نضالية جامعة وممكنة ومستدامة يمكن استثمارها ومأسستها ومراكمتها في إنجازات سياسية، وفي إيجاد أشكال عمل وإطارات مشتركة مع اليهود المناهضين لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية، وهذا تحدٍّ مطروح على الحركة الوطنية الفلسطينية. وبالتالي، لا يمكن لجزء من الشعب الفلسطيني أن يحتكر الرؤية الوطنية أو الاستراتيجية الكفاحية ويفرضها على الجزء الآخر، كما لا يمكن تصور شكل كفاحي يستنزف الشعب الفلسطيني أكثر مما يستنزف إسرائيل، أو شكل كفاحي عالي المستوى أكبر من قدرة الفلسطينيين على التحمل، ولا سيما أن الفلسطينيين في غزة أو الضفة رهائن في كل شيء لإسرائيل، بما يخص مواردهم من المياه والكهرباء والطاقة والسلع، وحتى العمل في إسرائيل، وهي أمور ينبغي ملاحظتها للجسر بين الإمكانات والطموحات، وبين الواقع والحلم.

وما حزّ في نفسي أنني عند كل معبر بين الضفة وأراضي 48 تواجهني أسئلة استفزازية من أشخاص لا علاقة لهم بالمكان، ولا يعرفونه، ولا يوجد لديهم أي ذاكرة فيه، هم فقط مستعمرون مستوطنون يستمدون سلطتهم من السلاح الذي يتأبطونه. تخيل أن تسألك صبية بعمر أحفادك: من وين إنت؟ أو شو جاي تعمل؟ ولدى مغادرتي في المطار سألتني موظفة أمنية عن جنسيتي فقلت لها: أميركية، لكنها عادت وأوضحت أن قصدها جنسيتي الأصلية فقلت لها: فلسطيني، أصلي فلسطيني، لكنني سألتها: إنت من وين أصلك؟ والحال فإن تلك الأسئلة تبين القلق المزمن الذي ينتاب الكثير من الإسرائيليين إزاء علاقتهم بالناس والمكان، وهذا ما يفسر سعيهم لإخفاء الفلسطينيين، أو التصرف كأنهم غير موجودين، أو العمل على إزاحتهم من المكان.

كما قلت فهذه لم تكن زيارتي الأولى للبلاد، التي قال شاعرنا إنها كانت تسمى فلسطين، وستبقى تسمى فلسطين، لذا فعندما أكتب وأنشر صوراً عن زيارتي لبلادي، فأنا أكتب عن الناس والأمكنة، عن الماضي والحاضر، عن الآلام والآمال. وما يشجعني على كتابة يومياتي الفلسطينية أن الكثير من الأصدقاء اللاجئين مثلي لا يستطيعون زيارة البلاد، لذا هم يطلبون مني زيارة أماكنهم المتخيلة، في حيفا ويافا وعكا وصفد وصفورية وجبل الشيخ والخليل ونابلس ورام الله وقلقيلية، وهذا ما أحاول فعله ما استطعت بمعية أصدقاء أعزاء هنا في البلاد.

هنا أجدد دعوتي إلى كل من يستطيع أن يأتي إلى البلاد مع أولاده، ففي ذلك إحياء للذاكرة، وشحن للمخيلة، وتجديد للأمل بأن هذه بلادنا، ولا سيما أن إسرائيل تنظم رحلات لأطفال يهود من أميركا وأوروبا للقدوم إليها كي تخلق لهم ذاكرة هنا، وبالتالي فإن عزوفنا عن المجيء يعني ترك المكان والزمان لها، كأننا نشتغل لمصلحتها، أو نسهّل لها احتلال الزمان والمكان، ونبدو كعدو مريح في حين يجب أن نثبت لها ولأنفسنا أننا عدو صعب وشعب عنيد بتمسكنا بأرضنا وبأملنا. دعوتي إليكم: تعالوا إلى البلاد يا أهل البلاد لنؤكد حقيقتنا كشعب واحد…تعالوا التقوا بالفلسطينيين المزروعين بالأرض…تعالوا ففي ذلك دعم لصمودهم…تعالوا إلى البلاد الجميلة بلادكم…

في الختام، معذرة لكل الأصدقاء الذين التقيتهم ولم يسعني ذكرهم هنا، مع الشكر والتقدير للعزيز أسعد غانم وزوجته أحلام العباسي غانم وابنتيه هلا ولبنى على الاستضافة الكريمة في بيتهم الجميل، ولكل من استضافني، ولا سيما الأعزاء: مرزوق الحلبي، وأنطون شلحت، وحنين الزعبي، وسعيد زيداني، وحسين العابد، وجورج جقمان، وباسم الزبيدي، وأحمد الحزوري، وسامي أبو شحادة، وباسل غطاس، ونهاد البقاعي، وفرحان صالح، وأيمن أبو جبل، وعلي حيدر، وعوض عبد الفتاح (ترتيب الأسماء زمني)؛ فإلى لقاء آخر في البلاد.