كانت البداية مرتبكة، إذ ليس من السهل إجراء مقابلة مع فنانة تطرح بإجابتها عن كل سؤال سؤالاً جديداً، وإذا ما انتابتها الحيرة تأخذ الكلام في اتجاه بعيد عن السؤال الأساسي، وهي بذلك تمهد للإجابة التي تأتي على دفعات، متفرقة ومجتمعة. هكذا كان الحوار مع آية أبو هواش، الفنانة الفلسطينية - اللبنانية أو الفلسطينية من لبنان (كما تحب أن تعرّف نفسها)، المولودة في صيدا، جنوب لبنان، عام 1993، والتي تخرجت من كلية الفنون في الجامعة اللبنانية، وهي اليوم فنانة تستخدم عدة وسائط.
هوية مركبة
مستقرة في هويتها إزاء هويتها المركبة، فهي فلسطينية من جانب، ومن جانب آخر لبنانية، تقول: "أبي فلسطيني، وأمي لبنانية، أشعر بالانتماء إلى المكانين، لا أشعر باغتراب، وليس لدي أزمة هوية، في إمكاني التعبير عن الانتمائين، فكلاهما واحد بالنسبة إلي".
هويتان لشخص واحد تشكلان آية، أمّا الهوية الأعمق بالنسبة إليها فهي الإنسان. ترى آية أنها تنتمي إلى عالم واسع: "ليس في عالمي مكان للهويات المغلقة الضيقة؛ ففي تكويني، جدي وجدتي لأبي فلسطينيان من حيفا، وجدي لأمي من لبنان، وجدتي لأمي من يافا، وكلما نظرتُ إلى صور العائلة أراني ضمنهم، ولا أجد في تلك الصور إلاّ ما يدفعني إلى الانتماء أكثر إلى كل تلك الأماكن، فلي في حيفا ذاكرة حاضرة من جدتي أعود إليها كلما تذكرت جدتي في آخر عمرها حين أصيبت بالزهايمر ونسيت كل شيء إلاّ مدينتها، فعادت إلى طفولتها هناك".
لا أرض لجسدين في جسد ولا منفى في منفى في هذه الغرف الضيقة- باستيل
ومواد مختلفة على خشب -190*120سم -2018
جدة آية أبو هواش الحيفاوية، كاميليا، حضرت في العديد من أعمالها، من خلال "كولاج" جمعت فيه صوراً قديمة مع ألوان، وكانت اللوحة - الذاكرة، أو المشهد المطل على الماضي والمستقبل معاً. تبدو آية متأثرة جداً لدى حديثها عن جدتَيها، ولهذا الأمر خصوصية بالنسبة إليها، فتشرح: "لم أكن منتبهة إلى أهمية اللهجة، لكنني بعد أن زرت عدة بلدان عربية، واستمعت إلى اللهجة الفلسطينية، تلك التي كانت تتكلم بها جدتي، شعرت بالأمان، وصرتُ أبحث عن هذا الصوت في داخلي، فأنا أتكلم باللهجة اللبنانية أكثر، فاستمعتُ طويلاً إلى لهجة جدّتَي الفلسطينيتَين، وعندها شعرت باكتمال ما".
وبين فلسطينيتها ولبنانيتها، سألناها عن واقع كونها تنتمي إلى عائلة فلسطينية لاجئة في لبنان، وإذا ما كان الأمر يشكل مشكلة لها، فكان جوابها: "لا أنظر إلى نفسي كضحية، مشكلتي باللجوء أني لا أستطيع العبور إلى بلدي، إلى حيفا، حيث وُلدت جدتي، وحيث كان يجب أن يكون أبي وأكون أنا. وعلى الرغم من أن هناك بعض الحقوق الممنوعة عني في لبنان، فإن هذا لم يعوقني بل على العكس دفعني بقوة إلى الأمام في اتجاه تحقيق مزيد من الإنجازات".
الفن كتعبير
تبدو الأسئلة عن بدايات الفنان واللوحات الأولى وما يشاكلها من هذه الأمور تقليدية بعض الشيء، لكن آية أعادت سرد حكايتها علينا، إذ لا يبدو أنه في الإمكان فصل جانب ما من فنها عن حياتها، وبالعكس، فهما متلاصقان تماماً، ويشكلان جسماً واحداً.
عادت آية إلى الصفوف الأولى في مدرستها في صيدا حينما كان فهم الدروس لديها مرتبطاً بكل ما يمكن أن يشاهَد، تقول: "لم يكن سهلاً عليّ أن أفهم الكثير من الدروس من دون أن أشاهد صورة أو فيديو، ذلك بأن عينيّ تتلقيان المعلومات، ومن خلالهما أفهم الدروس، وما زلت حتى اليوم أفهم ما حولي بعينيّ. كان توجهي منذ الطفولة نحو كل ما هو فن، ورسم، وموسيقى، وأفلام، وغيرها، وحين كبرت قليلاً أدركت أن خياري هو الفن، فدرسته في الجامعة اللبنانية، وأنهيت البكالوريوس والماجستير فيها".
بين يديّ، بجانب قدميّ، زيت وأكريليك على قماش، 150* 120 سم – 2023
رفقة محمود درويش
كان لا بد من وقفات في الحديث مع آية، إمّا لتذكر مقاطع شعرية لمحمود درويش، وإمّا للعودة إلى هاتفها لقراءة مقاطع من قصائده على مسامعنا. فعلاقتها بدرويش لم تكن مقتصرة على إعجابها بشعره، ولم تتوقف عند قصائده فحسب، بل تعدت ذلك إلى اهتمام بشخصه وحياته وحبه وصداقاته: "قرأت محمود درويش كثيراً، وأقرأه دائماً، فأنا أشعر بأن تجربة بيروت مشتركة بيني وبينه. لمستني جداً قصائد 'أحمد العربي'، و'ملهاة الفضة.. مأساة النرجس'، و'شتاء ريتا الطويل'. هذه القصائد وغيرها، ساعدتني على فهم أعمق لذاتي". فقد رسمت آية سلسلة من اللوحات عن محمود درويش حاكت فيها قصته المستمرة منذ ما قبل الولادة حتى ما بعد الغياب: "أبحث كثيراً في حياة محمود درويش وجودياً وإنسانياً؛ بحثتُ طويلاً وسألتُ وقرأتُ عن قصة حبه لريتا، فرسمتهما في عمل واحد: ريتا ترقص ودرويش يواجه اللحظة الأولى للقاء".
الأرشيف ذاكرة الحاضر
تدخل الصور الفوتوغرافية في كثير من الأعمال الفنية لآية أبو هواش. وفي إحدى تجاربها الفنية، استخدمت أرشيف عائلتها، فجمعت عدة أجيال معاً؛ جيل النكبة الذي تهجر من فلسطين، والجيل المولود في لبنان بعد التهجير، والجيل الأحدث، فتقول عن هذا: "في هذه التجربة الفنية أعدتُ تركيب المشهد الفلسطيني بلوحات، وقمت بطرح سردية جديدة للعلاقة بين فلسطين ولبنان على المستوى الإنساني بعيداً عن الحرب والمعارك، مستفيدة من التاريخ المشترك للبلدين والشعبين. تلك حكايتي وحكاية عائلتي، لكنها أيضاً حكاية شعب لم يعد إلى أرضه، وينتظر؛ فجدتي كاميليا وصلت في عمرها إلى حد لم تعد تصدق أنها في صيدا، فعادت إلى 'حيفاها'، وأنا في اللوحات التي أنجزتها عدت إلى 'حيفاها' و'حيفاي' و'حيفانا'. واللوحة بذلك كانت نقلاً للقصة كي لا تقف عندنا، وإنما لتصل إلى المتلقي وتثير أسئلة كبيرة لديه، وأظن أن الأفكار تصل لأن أعمالي الفنية تتمحور حول الإنسان وعلاقته الحميمة بنفسه ومحيطه".
قد تكون ولادتها في بلد عربي، وتنقلاتها المتعددة، جعلتاها ترى أن مفهومي الرومانسية والحب في المنطقة العربية يكتنفهما الكثير من الغموض والتناقض، الأمر الذي دفعها إلى الاهتمام بالبحث في مفهوم الحب وتقديره في الثقافة العربية، فتقول: "بدأت بكشف الواقع الاجتماعي من خلال التفاعل مع القصص والصور وتسجيلها ومراقبتها، وعملت على ربط الحروب بالذاكرة السياسية، وكيف أثرت في فهم الأفراد لمفهوم الرومانسية والهشاشة، فاستخدمت الفن التصويري، والتصوير السينوغرافي، والفن الرقمي، كأدوات لتكوين سرديات، لتصبح الألوان والطبقات اللونية والرموز الموجودة في اللوحة نظام اتصال".
بطاقة هوية شخصية، ورق فوتوغرافي طباعة ابسون- 104*106سم -2019
اليوم إلى أين؟
يلمس المراقب لتطور تجربة الفنانة آية أبو هواش تغيرات كثيرة في التجربة، وفي شكل التعبير؛ فبعد أن بدأتْ بالأبيض والأسود انتقلتْ إلى "الترابيات"، لنرى اليوم في أعمالها اللون الليلكي والأزرق، وتوضح آية أن هذه التجربة تتأثر بقراءات وأحداث، وتضيف: "على سبيل المثال، حادث انفجار مرفأ بيروت أصابني بصدمة، فرسمتُ وأنا تحت وقع هذه الصدمة، أي أنني صرختُ، وأطلقتُ خوفي لأحارب الشر، وإن كنت أريد الإجابة عن سؤال رسالة الفن فهي بالنسبة إليّ فهم ماهية الخوف والشر، فأنا لا أستطيع فهمهما إلاّ من خلال الفن، ومن خلال التعبير بحرية".
وفي متابعة لأعمالها، تبدو الأيدي عنصراً حاسماً في هذه الأعمال وتكويناتها التشكيلية، ففي العديد من لوحاتها تبدو الأيدي في حالة حركة ليس فيها سكون، وتقول في هذا الصدد: "أراقب الأيدي لأني أشعر بأنها تفتح حواراً بين الإنسان وذاته، ومع الآخر، فالأيدي بالنسبة إلي تمثل جمالية عالية في شكلها، وهي الجزء من الجسد الذي تتجمع فيه الطاقة والقوة ليعبّر الإنسان عن حريته المطلقة في مواجهة الواقع. والأيدي على الصعيد الذاتي ليست أداتي الجسدية للرسم فحسب، بل هي أيضاً العلاقة بين الأشياء واللوحة؛ فحين أمسك الريشة والألوان والصور وأرسم لوحتي أتلمسها بيدي، فأشعر من خلال يدي بالطاقة التي أطلقتها في لوحتي، والتي أتتني منها لأنطلق نحو رؤية أُخرى، ولوحة أُخرى، وكي أتمكن من الإحساس بالمتلقي وبكيفية مشاهدته لوحتي".