انتهى اجتماع الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية في مصر، ورشح عنه مطلب بإنجاز المصالحة، واقتراح بتشكيل لجنة لمتابعة عمل طاقم الحوار الوطني، من دون بيان ختامي للاجتماع.
هل من الممكن معارضة المصالحة؟
للمصالحة، في رأيي، مفهومان: مفهوم اجتماعي عاطفي له بُعد وطني، وهو التصالح بين الفرقاء وعودة الوئام والمحبة بين أبناء الشعب الواحد، وهذه المصالحة مباركة لا غنى عنها، ومناقشتها أمر مفروغ منه، أما المفهوم الآخر للمصالحة فهو سياسي بحت، لا علاقة له بالعواطف والميول، وهو الأدق والأهم، وهو موضوع السؤال.
لا بد من أن نتذكر أن الحل المطروح حالياً لإنهاء الصراع هو حل مجحف، يقوم على الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات سيادة، من دون القدس وحق العودة، وفي المقابل، دويلة موعودة على ما تبقى من الأرض المحتلة سنة 1967، منزوعة السلاح، ليس لها سيطرة على حدود أو مياه أو سياسات خارجية أو أمن، والقضاء على ما تبقى من حق العودة وثقافة المقاومة، بمعنى المضي قدماً في برنامج سيؤدي إلى منح الاحتلال المزيد من الشرعية والرضا والتسليم بحقه في الوجود على هذه الأرض. وهنا نلاحظ أن السلام تلاشى وبقيت العملية، عملية السلام.
الجديد هنا هو لقاء الفصائل على إيقاع التصعيد في شمال الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية بصورة عامة، لقاء قد لا ينال الثقة بمدى جديته. أما مفهوم المصالحة من وجهة نظر مختلفة، فيعني أن القاعدة الشعبية المؤيدة لحل سياسي سوف تتسع، أو يُراد لها أن تتسع، بمعنى أن الاتفاق النهائي المفصّل على المقاس الإسرائيلي، والذي رفضته فصائل كثيرة، سيصبح مطلباً؛ إن المصالحة لا تعني اختيار الكفاح المسلح وضم المعتدلين إلى الأغلبية المعارِضة، بل بالعكس، المصالحة تعني، ويُراد لها أن تعني، استدراج فصائل المعارضة إلى موقف موحد يقوم على أساس الاعتراف بالاتفاقات الموقّعة، والقبول بإسرائيل، ونبذ العنف (المقاومة)، ووقف التحريض... إلى آخر القائمة التي نعرفها جيداً.
إن المصالحة بهذا المفهوم هي خطوة في اتجاه إعادة تشكيل وعي الفلسطينيين وترتيب أولوياتهم، و"تربيتهم" على قبول الأمر الواقع، والتطبيع مع الاحتلال، وتجرُّع الحل النهائي على مراحل، لكن هذه المرة بواسطة التفاف شعبي، وعدم الاكتفاء بقرار سياسي يمثل الذين وقّعوه فقط.
لقد مرّت القضية الفلسطينية بمراحل دقيقة وحساسة، ولعل آخرها مرحلة "ما بعد عرفات"، إذ تحولت الرؤية الإسرائيلية إلى استراتيجية إدارة الصراع بدل تسوية الصراع، أي التعامل مع الوضع الحالي بسبب عدم إمكانية العمل على حل الصراع بصورة نهائية. ولم تخرج السياسة الإسرائيلية وسياسة السلطة الفلسطينية حالياً عن السياسة القديمة الجديدة القائمة على مراجعة عمل أجهزة الأمن الفلسطينية وإعادة بنائها بما يناسب المتغيرات، وضبط الإعلام الفلسطيني والخطابة في المساجد، ومراجعة الخطوط العامة للمناهج الفلسطينية بما لا يتعارض مع رؤية إدارة الصراع، وبما يضمن ما تسميه إسرائيل وقف التحريض. كما لم تغير إسرائيل من استراتيجيتها – وإن غيرت التكتيك- بضرورة حماية السلطة كشريك في بناء واقع جديد يسمح بتوقيع اتفاق نهائي لإنهاء المطالب الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، بلا قدس، ولا حق العودة، ولا إطلاق سراح الأسرى، ولا دولة مستقلة سياسياً واقتصادياً وأمنياً عن إسرائيل.
وتبدو المصالحة، في نظري، خطوة جديدة في اتجاه فرض حل نهائي، لا تنفصل عما سبقها، خطوة تنطوي على الخطورة، ربما لن نشعر بنتائجها في القريب المنظور، ولكن سيكون لها آثار حاسمة في المستقبل، والفرق كبير بين إعلان اللاءات والمواقف من المعارضة، وبين السلوك السياسي الواقعي على الأرض، وأعتقد أن هذا المأزق ينتظر "حماس" فيما بعد، تكليل المصالحة المرجوة من لقاء العلمين.
طُرح في مقدمة المقالة سؤال: هل يمكن أن تكون معارضاً للمصالحة؟ وما معنى ذلك؟! والمفارقة أن المصالحة، بقدر ما تحمل من الأمل إلى الشعب الفلسطيني، إلا أنها تنطوي على المجازفة والسير في المجهول! وإذا كانت ستؤدي إلى توسيع التيار الموافق على تسوية من دون طموحات الشعب الفلسطيني، فمن يريدها! حتى المصالحة أصبحت حقل ألغام؟! ليس من السهل التشكيك في منطلقات المصالحة والسير ضد التيار، والمرحّب بها، هذا يجعلك تبدو كأنك تقف في وجه أناس يحلمون بالخلاص صباحاً ومساءً، لتفسد عليهم فرحتهم! فهل بات هنالك تيار عام يعوّل على المصالحة كسبيل للخلاص؟
ومن ناحية أُخرى، فإن ظاهرة جنين يمكن أن تُفهم في هذا السياق، احتواء لآثار العدوان، وعلى أعلى مستوى، بعد ضربة عسكرية إسرائيلية لإنهاء المقاومة، وتوزيع المسلحين الفلسطينيين بين المقابر والسجون، بحسب التعبير الإسرائيلي، وانتظار استيعاب الشارع الفلسطيني للدرس، بحسب التصور الإسرائيلي. مع تأكيد فلسطيني رسمي أن التنسيق الأمني هو استراتيجيا ثابتة (مقدس)، وليست تكتيكاً موقتاً.
وأخيراً، لم يكن الفلسطيني يوماً عقبة، ولا تهديداً للوحدة، ولا للقرار، التهديد هو من المحتل ومؤسساته، وليس من فصائل العمل الوطني، حتى وإن اختلفت مع السلطة في الرؤية.
لقد تحولت الرؤية الإسرائيلية، وخاصة في مرحلة ما بعد عرفات إلى استراتيجية إدارة الصراع بدل تسوية الصراع، أي التعامل مع الوضع الحالي بسبب عدم إمكانية العمل على حل الصراع بشكل نهائي.
مثال من الماضي للتذكير
إن الأوضاع السياسية والميدانية على الأرض تذكّرنا بالجمود والانسداد السياسي في سنة 2000 عندما فشلت مفاوضات كامب دايفيد، وبدأ كل طرف يحمّل مسؤولية الفشل للطرف الآخر، في ظل غليان الشارع المحبَط من الاحتلال، ومن التسوية، ومن السلطة الوليدة في آن واحد.
في تلك الأيام، كانت إسرائيل حسمت أمرها وحمّلت الرئيس الراحل عرفات المسؤولية عن الفشل، ورسمت الآلة الإعلامية والمستشارون حول رئيس وزراء إسرائيل، حينها، باراك صورة مفادها أن عرفات غير جدي، وأنه ليس شريكاً، وأن المطالبة بعودة اللاجئين هي خطر وجودي على إسرائيل، أضف إلى ذلك القرار الإسرائيلي الظاهر - والخفي بضرورة تركيع الفلسطينيين، وكسر عظامهم قبل إرادتهم، لدفعهم إلى القبول بحل نهائي على المقاس الإسرائيلي، لقد كان قرار المواجهة العنيفة، بحسب رأيي، قراراً إسرائيلياً مخططاً سلفاً، ومحدد الأهداف، وما كان دخول شارون إلى الأقصى سوى الغطاء لفتح المواجهة على مصراعيها، فلا أظن أن مواجهة دامية ومفصلية بحجم انتفاضة الأقصى كانت لتنفجر لمجرد دخول قيادي إسرائيلي إلى المسجد الأقصى، فهذا يتكرر كل يوم، ونتعرض كل يوم لاستفزازات كافية لشن انتفاضة عارمة، فلماذا لم تحدث؟ لأن القرار لم يُتخذ بعد! دخول شارون كان مجرد طلقة البداية، وكل شيء كان محسوباً وتحت السيطرة... إذ صرّح شارون لاحقاً: "يجب علينا إعادة تربية الفلسطينيين".
ما تريده إسرائيل في المحصلة النهائية، في رأيي، هو قيادة فلسطينية لديها القدرة والاستعداد والدعم الشعبي لتوقيع اتفاق نهائي من دون القدس واللاجئين، اتفاق ينهي المطالب الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، أي تصفية القضية نهائياً، ويبدو أن الشارع الفلسطيني غير جاهز- بالمفهوم الإسرائيلي- لهذه المرحلة النهائية حتى الآن.
ولو نظرنا بعيون إسرائيلية لرأينا الأهمية البالغة للدعم الشعبي التام الموجه من الفلسطينيين إلى قيادتهم، إذ تعتبر إسرائيل أن الاتفاق مع السلطة من دون الشعب مقامرة خاسرة، لماذا؟ لأن إسرائيل تحتل الأرض من أصحابها الأصليين، وهي بحاجة إلى نيل قبولهم التام والواضح بالتسوية، ذلك بأن اتفاقات السلام مع الأردن ومصر على سبيل المثال، هي مع الحكومتين هناك، وليست مع الشعبين الرافضيْن في المجمل للسلام، وهذا لا يُقلق إسرائيل بالقدر الذي يقلقها في موضوع السلام مع الفلسطينيين، هنا الوضع مختلف، فهي "تتقاسم" الأرض ذاتها مع الشعب الفلسطيني، ولذلك، يهمها قبوله التام بالتسوية التي لا تساوي شيئاً إذا ما تمت فقط مع السلطة، وكذلك فإن معارضة الشعبين، الأردني والمصري، للسلام الموقّع لا تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل، فالشعبان لا يتصارعان معها على الأرض نفسها كما هي الحال مع الفلسطينيين.
وأخيراً، هل تتجه الأحداث نحو تكرار سيناريو سنة 2000، بموجة جديدة من العنف والاستنزاف؟ تمهيداً لمحاولة فرض التسوية مرة أُخرى؟
إن (ورطة) الذهنية الإسرائيلية مع الفلسطينيين أعمق مما تظن تلك الذهنية، ومحاولة فرض الحل النهائي على مقاسها تبدو في كل يوم أكثر صعوبة وتعقيداً، لماذا؟ ربما لأنه لم يخرج من بين الفلسطينيين، ولا أظن أنه سيخرج مَن يستطيع أن يوقّع اتفاقاً نهائياً ينهي المطالب الفلسطينية.
ولذلك، يبدو أن الجهود الإسرائيلية لصناعة قيادة فلسطينية قادرة وجاهزة ومستعدة لحل هزيل ومدعوم من الشعب الفلسطيني هي ضرب من الخيال.