في شهر تموز/يوليو سنة 1913، زار الأديب اللبناني المتمصر جرجي زيدان (1861-1914)، مع عقيلته، مدينة القدس، فنظم أدباؤها لجنة لاستقباله، وأقاموا احتفالاً تكريمياً له في "نزل مرقص"، حضره، نيابة عن متصرف لواء القدس، رئيس مجلس بلدية المدينة، وتحدث فيه أهم أدباء القدس وكُتابها في ذلك الوقت مثل إسعاف النشاشيبي، وخليل بيدس، وعيسى العيسى، وعلي الريماوي، وأفتيم مشبك وأنطون لورنس.
وقد ذاع صيت جرجي زيدان في العالم العربي بفضل مجلة "الهلال" الشهرية التي أصدرها في القاهرة، وصدر العدد الأول منها في شهر أيلول/سبتمبر سنة 1892 لتكون "مجلة علمية تاريخية صحية أدبية"، وكذلك بفضل مؤلفاته ورواياته التاريخية، مثل "تاريخ مصر الحديث"، و "مصر العثمانية"، و"العرب قبل الإسلام"، و"تاريخ التمدن الإسلامي"، و "تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر"، و "خلاصة تاريخ اليونان والرومان"، و"الأمين والمأمون"، و "فتح الأندلس"، و"العباسة أخت الرشيد"، و "فتاة القيروان"، و"صلاح الدين الأيوبي" و "شجرة الدر"..إلخ.
وفيما يلي المقال الذي نشرته جريدة "القدس"، التي أصدرها في مدينة القدس جرجي حبيب حنانيا ما بين سنتَي 1908 و 1914، وعرضت فيه وقائع ذلك الاحتفال التكريمي، علماً أن أعداد هذه الجريدة الـ 391 موجودة على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهي من ضمن محفوظاتها الرقمية. وقد استندت إلى أعداد هذه الجريدة في إعداد كتابي الجديد: "جريدة القدس وبواكير الحداثة في لواء القدس"، الذي سيصدر خلال الأشهر القليلة المقبلة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
"تكريم ذو شأن لجرجي بك زيدان" (جريدة "القدس"، العدد 359، السنة الخامسة، الجمعة في 2 و 15 آب سنة 1913، ص 2-3).
"اشتُهرت مدينتنا بإقامة احتفالات كثيرة متنوعة في كل سنة، أخصها الاحتفالات الدينية لكل فرقة تحتفل بأعيادها المذهبية احتفالاً شائقاً، وتقام أيضاً احتفالات وطنية لكل أمة وجنس من سكان القدس.
أما الاحتفال التكريمي الذي أقيم لعزتلو جرجي بك زيدان صاحب مجلة الهلال، بمناسبة زيارته هذه المدينة المقدسة مع عائلته الكريمة، فهو أول حفلة تكريمية أقيمت لوطني سوري عندنا، ونحن لم نألف ولم نرَ حفلة كهذه لأديب ينطق بالضاد، ولعلها ستكون فاتحة خير للاحتفال بالأدباء الذين سيزورون بلدتنا للتبرك منها.
شكّل بعض الأدباء لجنة لهذا الاحتفال، وطبعوا أوراق دعوة ووزعوها على بعض أدباء وأعيان القدس، وما أزفت الساعة الثانية ونصف، من مساء الاثنين (ليلة الثلاثا) الواقع في 22 تموز حتى غصت قاعة نزل مرقص بالمدعوين، وقد ناب صاحب المعزة حسين هاشم أفندي الحسيني، رئيس بلديتنا، عن عطوفة متصرفنا في هذا الاحتفال.
وافتتح أفتيم أفندي مشبك، وكيل مجلة الهلال، الحفلة مشيراً إلى أن هذا التكريم يجري من دون إرادة المحتفل به وأنه قد استبد بالأمر، ثم قدم للحاضرين بولس أفندي الخولي، أحد أساتذة الكلية الأميركية في بيروت وكلفه بأن يكون مديراً لهذه الحفلة. فقام بولس أفندي الخولي وتكلم عن كيفية إقامة هذه الحفلة وأسبابها، وذكر طرفاً من تاريخ حياة جرجي بك زيدان، مشيراً إلى أنه في الثامنة عشرة من عمره لم يكُ حظه من مجالس التعليم إلا المدرسة القديمة البسيطة، ودرس على رفيق له ثلاثة أشهر الدروس اللغوية والرياضية والعلمية التي أهلته للدخول في الدائرة الطبية من المدرسة الكلية الأميركانية، حيث قضى سنة واحدة ونصف سنة فقط، ثم خرج من المدرسة للعمل وطلب الرزق، لكنه في ساعات الفراغ كان ينكب على موائد البحث والتنقيب حتى أصبح بمثابرته هذه الفائقة في مقدمة علمائنا الأعلام. فأولاً، أدار مجلة المقتطف ثم تولى رئاسة تدريس اللغة العربية في المدرسة العبادية، ووضع تاريخ مصر الحديث واقتنى مطبعة الهلال التي كبرت مع الزمان وتوسعت دائرتها، وأصدر من مجلة الهلال إلى الآن 21 مجلداً، ومن مصنفاته التاريخية واللغوية والعلمية والفكاهية 40 مصنفاً، تُرجم أكثرها إلى الفارسية، والهندستانية، والتركية، والأذربيجانية، والتايلية، والإنكليزية، والفرنساوية والبرتوغالية.
ثم انتصب القس فرهود قربان ورحب بالمحتفل به، وحيّاه بالنيابة عن تلامذة الكلية المذكورة قبلاً في القدس، ثم قام حضرة الأستاذ الشيخ علي أفندي الريماوي، وبعد أن حيا الحاضرين التفت إلى السيدات وقال مقدمة صغيرة معتذراً عن الغزل، ثم تلا هذه القصية الغراء:
............
زيدان يا رب الفضا ئل والبراعة واللسان
يهنئك هذا المهرجا ن فأنت زين المهرجان
أنت الذي كشف الغطا ء عن العقول بما أبان
ملأت فضائلك الزما ن فراح يحمدك الزمان
في الشرق لاح هلالك الزا هي فضاء المغربان
وبفضلك الأمثال سا رت غير قاصدة مكان
زيدان أوجدك الإ له بك العلى أبداً تزان
فخلقت في الدنيا عمو ميّ الشمائل والمعان
ماضي العزيمة واليرا عة والبراعة والجنان
فخدمت بالعلم البلا د ورحت بالإسلام عان
فأنّا لك الأمراء رتـ بة عزة وعلو شان
لو أن في الأيام إنصـ افاً لبست الأرجوان
بك رحب البيت المقـ دس باسماً والملتان
أنت المعز لدولة العـ لم الصحيح ولا مدان
فإذا مدحتُ مقام فضـ لك في الورى فأنا ابن عان
هذي الخواطر عن بني قومي وعني ترجمان
جئناك محتفلين نهد يك التحية والتهان
العلم والوطن العز يز هما لعمري الجامعان
والدين لله العلي فإن وقت العلم حان
يجب التفاهم والتعا رف والتقارب والحنان
جئناك يا رب التآ ليف الجليلة والحسان
إن قصر القول البلي غ فمنك قد خجل البيان
وبعد أن انتهى من تلاوتها، لفّها وسلّمها إلى قرينة جرجي بك الفاضلة، وعلى القارئ أن يقدّر ما لها من التأثير الفائق الذي جعل الحاضرين يصفقون عدة مرات لاستحسانهم إياها، فنحن نكتفي بالإشارة لئلا نتهم بالتزلف لفضيلة الشيخ المومى إليه.
ثم قام القس إبرهيم باز وتكلم مرحباً بالبيك، وذكر ما له من الفضل في عالم الكتابة، وتلاه حضرة الكاتب الشهير إسعاف أفندي النشاشيبي، وقال هذه الأبيات الشعرية العامرة المتينة:
مؤرخ هذا العصر أنقعت غلة لذا البلد الصادي لطلعتك الغرا
لقد كان ظمآناً إليها فنلته أمانيه حتى اغتدى مترعاً كبرا
وراح أخا زهو وتيه لأن رأى محيا قريع العرب مؤتلقاً بشراً
لَأنت الذي أحييت ميت مجدنا وغادرت في لوح العظام لنا ذكرا
وحبرت ما حبرت للعلم وحده ولم ترجون شكراً ولم تسألن أجرا
ففرض على قومي أن احتفلوا لمن له في علوم العصر معجزة كبرى
لئن أكرموا رب "الهلال" فإنه أشف رجال الفضل في شرقنا طراً
ثم تكلم حضرة الأستاذين جرجس الخوري المقدسي صاحب مجلة المورد الصافي، والأستاذ حبيب الخوري، وتلاهما حضرة الأديب الفاضل أنطون أفندي لورنس بهذه القصيدة الرنانة:
أهلاً بأبلغ من أملى ومن كتبا ومن تخطى إلى هام العلى رُتبا
بالحجة الثبت لا وهن ولا عوج والنير الراي إما خط أو خطبا
زيدان فارس ميدان اليراع إذا لجّ الجدال وفصل القول قد صعبا
على الحقيقة من برهانه قبس كالشمس رأد الضحى يجلو به الريبا
صبا إلى العلم مذ نيطت تمائمه وحاز في سبق أشياخ النهى القصبا
من مثله راوياً علامة ثقة من مثله كاتباً أو فاتناً أدبا
له الهلال له تاريخ مصر له من نجوه عدد يسترخص الذهبا
شكت إليّ القوافي فرط وحشتها مذ آنست عنده مضمارها الرحبا
لولا اقتضاء زمان القول أوجزه راح الثناء عليه يملأ الكتبا
فرحت من ذاك والإيجاز غلّ يدي أجيد نظمي مجزوءاً ومقتضبا
في ذمة القوم إن قصرت تكرمة يقضي بها الفرض والحق الذي وجبا
قام بعده حضرة الأديب خليل أفندي بيدس صاحب مجلة النفائس العصرية، وذكر أهمية المحتفل به وفضله في خدمة البلاد، ثم فاه حضرة الفاضل عيسى أفندي العيسى صاحب جريدة فلسطين بهذه الأبيات النفيسة:
خدمت البيان خدمت الأدب فنلت بذلك أسمى الرتب
وأضحى هلالك في المشرقين ينير الظلام ويجلو الريب
نهجت به منهجاً للهدى جعلت البعيد قريب السبب
وأحييت تاريخ مجد عفا وأعليت شأن لسان العرب
لئن أكرموك بمصر فذلك فرض على كل قطر وجب
ويطربننا أننا الآن قد رأيناك ما بيننا عن كثب
فخذ من فلسطين إعجابها بشخصك يا خير شخص كتب
ولا تنسَ أننا اجتمعنا هنا لنكرم فيك النهى والأدب
وأخيراً، قام صاحب المعزة جرجي بك زيدان وشكر الأدباء الذين قاموا بهذه الحفلة التكريمية، وأثنى على أهالي القدس لما رآه من الحفاوة والإكرام منهم".