يشير العديد من الأدبيات إلى أن نشأة نمط الإنتاج التعاوني في فلسطين التاريخية تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، إذ يشير بعض البيانات إلى أن أول تعاونية في عكا كانت لزراعة التبغ،[1] وتشير بيانات أُخرى إلى أن الحركة التعاونية كحركة عملت منذ سنة 1928 تحت حكم الانتداب البريطاني لأرض فلسطين التاريخية.[2] واستمرت الحركة التعاونية ما قبل النكبة في المدن المختلفة، وازداد عدد الجمعيات التعاونية حتى وصل في سنة 1934 إلى 50 جمعية، مختلفة الأنواع، وارتفع عددها في سنة 1937 إلى 127 جمعية.[3] ويتطابق ذلك مع السياق القانوني للتعاون حينها، في ظل السياقات السياسية والاقتصادية المختلفة، إذ كان أول قانون تعاوُن ناظم للعمل التعاوني هو القانون رقم 53 لسنة 1920، والذي جاء في زمن الانتداب البريطاني، ونتيجة لزيادة عدد الجمعيات التعاونية، تم تعديل القانون المذكور وصدر القانون رقم 50 لسنة 1933 ونظام التعاون لسنة 1934، والتي بلغ عددها حتى نهاية سنة 1946 نحو 244 تعاونية.[4]
وبعد النكبة وقيام الكيان الصهيوني، أصبحت الضفة الغربية وقطاع غزة تابعين للوصاية الأردنية والمصرية على التوالي، وبذلك اعتُمد القانون التعاوني الأردني في الضفة الغربية والقانون المصري في قطاع غزة.* وبعد حرب 1967، احتلت "إسرائيل" الضفة الغربية وقطاع غزة، ووضعت عراقيل ومعيقات أمام تطوُّر الحركة التعاونية، لكن تم تنشيط بعض التعاونيات بفضل دعم هيئات تنموية دولية، وبعض الأوامر العسكرية التي أتاحت، تجاوزاً، إنشاء بعض التعاونيات التي لا يكاد عددها يُذكر، إذ كانت المسألة معلقة في يد الحاكم العسكري حينها، والتي بديهياً، قيّضت أي محاولات حقيقية لإنشاء بنيان اقتصادي إنتاجي مستقل عن اقتصاد الكيان. وبقيت الجمعيات التعاونية المسجلة في الضفة الغربية تعمل بموجب القوانين السابقة حتى بعد احتلالها، لكن الاحتلال فرض الأوامر العسكرية الصهيونية والإجراءات المجحفة التي تعمد إلى منع تطوير الجمعيات التعاونية والتضييق عليها، ولذلك، اشـترط ضرورة حصول أعضاء الجمعيات على إذن مسبق لممارسة أي نشاط تعاوني.[5] وتشير الأدبيات إلى أن الأوامر العسكرية الصهيونية زادت في الرقابة على التعاونيات،* ففي الضفة الغربية، وخلال الفترة 1970- 1990، تم تسجيل 373 جمعية تعاونية في الضفة الغربية و10 جمعيات تعاونية فقط في قطاع غزة.[6]
جاءت السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو لتبقى حال القانون الناظم للتعاونيات على ما هي عليه، لكن مع تطوُّر السياقات المختلفة على الصعيدين العالمي والإقليمي، تحتّم على المشرّع إصدار قانون فلسطيني ينظّم التعاونيات الفلسطينية. على الصعيد الرسمي الفلسطيني، يُعتبر إقرار القانون رقم 20 لسنة 2017 أحدث القوانين، والذي شرّع إنشاء هيئة عمل تعاوني في مطلع سنة 2018، بعد إقرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس القانون الناظم لعمل التعاونيات الفلسطينية، والذي حمل الرقم 20 لسنة 2017، إذ نصّ على إنشاء هيئة العمل التعاوني في المادة الرابعة، وأيضاً على إنشاء صندوق للتنمية التعاونية، وأيضاً معهد للتدريب التعاوني.[7] ولا يوجد حتى اللحظة أي تطور يُذكر على صعيد هذا الملف، إذ سرعان ما قام رئيس الحكومة محمد اشتية في سنة 2020 بحلّ ودمج مجموعة من الهيئات المحلية التي كان من ضمنها هيئة العمل التعاوني، وإلحاق اختصاصاتها ومهماتها وموظفيها بوزارة العمل،[8] لتبقى الحال على ما هي عليه، مع محاولات طفيفة للتحسين على هذا الصعيد.
التعاونيات ما قبل أوسلو وما بعدها: من شبكة حماية إلى أجساد مطوعة
اختلاف السياق في فترة ما قبل أوسلو وإنشاء تعاونيات تحت "أوامر الحاكم العسكري" وما بعدها يُعتبر جوهر النقاش الذي يتوجب علينا النظر فيه وإعادة الاعتبار إليه، إذ كان التحدي في إنشاء أجساد إنتاجية تعاونية بمختلف أشكالها تحت حكم الاحتلال بشكل مباشر، يأتي في سياق المقاومة لفرض مخططات الاستعمار وسياسته في السيطرة على الفلسطينيين، اقتصادياً وجسدياً أيضاً. ويشير العديد من الأدبيات إلى هذه الجزئية، بمعنى أن فلسـفة التعـاون والتعاونيـات ليست غريبة عن الفلسطينيين، وتتقاطع مع بعض القيم والتقاليد الموروثة فلسطينياً، والتي تطورت عبر إنشاء تعاونيات زراعية في فترة ما قبل أوسلو، بهدف التمسك بالأرض ومواجهة تبعية قوى الاستعمار المتعددة.[9]
وبعد أوسلو، لا يمكن الإنكار أن مجموعة من القوانين التي تنظّم قطاع الإنتاج التعاوني قد تخفي (بشكل غير مباشر) أشكال التبعية للاستعمار وأذرعه المختلفة تحت غطاء "التشريع الفلسطيني". وتكون الإشكالية المركبة في هذا السياق أنه علاوةً على أن الاستعمار لم ينتهِ، فإن المنظومة الاقتصادية التي تتبناها السلطة الفلسطينية هي نظام السوق الحرة،* والذي لا يحمي الأجساد التعاونية، وخصوصاً في ظل السياق الاستعماري الذي يعيشه الفلسطينيون وتغوّل رأس المال المرتبط بالاقتصاد الصهيوني. وبمراجعة المؤشرات، تسيطر "إسرائيل"على ما يصل إلى 76% من المساحة المصنفة (ج) بشكل مباشر من الاحتلال، ما بين توسّع المستعمرات والمناطق العسكرية والاستحواذ على الأراضي والآبار المائية، بحجج أمنية،* ووصل عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية الإسرائيلية في نهاية سنة 2021 في الضفة الغربية إلى 483 موقعاً،[10] تعود إلى الواجهة التعاونيات كنمط إنتاجي يحمي الأرض، وطريق للانفكاك عن سوق الاستعمار بقدر الإمكان، وخصوصاً أن نِسب البطالة بين صفوف الشباب عالية جداً، ولضرورة مواجهة السيطرة الاستعمارية على الموارد.
إن النقطة التي تغيب عن المشرّع وصانع السياسات الفلسطيني هي أن الحركة التعاونية قامت ببناء دول عبر التعامل معها كشبكات حماية اقتصادية واجتماعية أساسية ، وقام القطاع التعاوني بتغطية أجزاء واسعة من اقتصادات دول، مثل الدول الاسكندنافية وبريطانيا وفرنسا وماليزيا، ونال درجة عالية من الاستقلالية، شكّل من خلالها اقتصاداً بديلاً في هذه الدول، وتكمن الخطورة في تحويل التعاونيات، كمكون أساسي لشبكة الحماية الاقتصادية والاجتماعية كما كان جوهرها تحت تبعية الحاكم العسكري الصهيوني، إلى أحد أشكال الاقتصاد وإخضاعه لنظام السوق السائد (السوق الحرة) وسياساته النيوليبرالية.[11]
حتى أن محاولات تعديل التشريع بقرار بقانون رقم 20 لسنة 2017، والذي شرّع إنشاء هيئة عمل تعاوني في مطلع سنة 2018، تُسجَّل عليه مجموعة من الملاحظات التي يرى فيها المختصون أنها تصعّب سير القطاع التعاوني، ولا تتعامل معه كشبكة حماية، بل كجزء من المنظومة الاقتصادية القائمة.
إن إعادة الاعتبار إلى القطاع التعاوني يجب أن يكون في مضمونها التأكيد أن العمل هو أساس للتعاون، ويجب الحرص على إنشاء منهج واضح وصريح لتجنّب الفهم الخاطئ للتعاون، إذ يتعين أيضاً التمييز بين العمل الجماعي والعمل الاجتماعي، بحيث يتم إدماج العمل الجماعي في الأنظمة الاجتماعية والتكريس لها، بينما يتم تحقيق العمل الاجتماعي بعد دخول المجتمعات في مرحلة التعاون الجذري الكامل، وهو رابط مباشر بالتنمية المجتمعية.[12] بمعنى أن يتم تسخير كافة القطاعات لتطوير وتقوية شبكات شبابية واسعة تواجه الهجمة الصهيونية الشرسة على الأرض، وتعمل على إفقارنا وزيادة تبعيتنا لها، عبر سلب سيادتنا على اتخاذ القرار. ومن المهم الإشارة إلى النقطة التي تناولها عادل سمارة في إحدى أدبياته بشأن الشروط الأساسية للتعاون والتنمية بالحماية الشعبية، وهي توفر ثقافة ووعياً بالتعاون، وأن تكون الممارسة تجلياً للفكر؛ إذ يرى سمارة أنه من واجب الأفراد المساهمة في المشاريع العملية، سواء بالجهد المطلوب أو بالمساهمة النقدية.[13] أي أن يكون القطاع التعاوني مبنياً أساساً على مفاهيم مجتمعية وجماعية وطنية، لا مجرد إسقاطها على المجتمع، وفقاً لاختلاف السياقات العالمية والإقليمية، أو وفقاً لأجندات لا تتقاطع مع توجهات قطاع تعاوني وطني حقيقي.
هذه المسائل تستوجب منا التفكير في شكل التعاونيات الإنتاجية التي نريد في ظل السياق الاستعماري، وهي تقدم مدخلاً لما يجب أن يكون وما هو كائن، وبين المفارقة في الإنتاج الجماعي سابقاً واليوم، في ظل مواجهة الاستعمار وأدواته. على صانع القرار الفلسطيني الذي يتبنى الخطاب التحرري أن يمهد الطريق ويعطي هامشاً واسعاً للحركات التعاونية، وبالتحديد الشبابية، للعمل بعيداً عن مأسسة القطاع تحت مظلة تشريعات وقوانين تتبع للسوق وأحكامها.
* تبعت الضفة الغربية للوصاية الأردنية وقطاع غزة للوصاية المصرية، لذا، بات القانون الذي يسري في الضفة الغربية هو قانون التعاونيات الأردني 17 لسنة 1957، وفي قطاع غزة القانون المصري 50 لسنة 1933.
* فرضت على عمل التعاونيات، وفقاً للقرار العسكري رقم 686 المتعلق بضرورة الحصول على الإذن المسبق لممارسة كافة الأنشطة، والأمر العسكري رقم 766 الخاص بالحصول على الإذن المسبق للمؤسسات المالية، والأمر رقم 832 الذي يحظر على التعاونيات تقديم خدمات للجمهور، والأمر رقم 843 الذي يأمر بالإشعار بموعد الاجتماع وساعته ومكانه والحضور، والأمر رقم 875 المتعلق بمراقبة الهيئات العمومية للجمعيات.
* تنص المادة 21 من النظام الأساسي الفلسطيني على أن "يقوم النظام الاقتصادي في فلسطين على أساس مبادئ الاقتصاد الحر". انظر/ي الرابط التالي.
* تتحكم المجالس الإقليمية للمستعمرات في 63% منها. كما يقتنص الاحتلال المساحات لتوسيع المستعمرات، والتي بلغت ما يقرب من 537 كلم2 في نهاية سنة 2022، والتي تمثل نحو 10% من مساحة الضفة الغربية. كما تم استيلاء الاحتلال على مساحات أُخرى لأغراض القواعد العسكرية ومواقع التدريب العسكري، والتي بلغت نحو 18% من مساحة الضفة الغربية، بواقع 1,016 كلم2. وبالإضافة إلى ذلك، فإن جدار الضم والتوسع الذي عزل أكثر من 10% من مساحة الضفة الغربية تسبب بأضرار لأكثر من 219 تجمعاً فلسطينياً. ومنذ سنة 1967، تمت مصادرة نحو 353 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية وتصنيفها كمحميات طبيعية، تمهيداً لاستيلاء سلطات الاحتلال الإسرائيلي عليها.
[1] الصالحي، عبدالعزيز. "التعاونيات في ظل السياق الاستعماري". المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات، 2022، ص23. انظر/ي الرابط التالي.
[2] حامد، مهند. "سياسات لتفعيل الحركة التعاونية الفلسطينية". معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، 2012، ص27.
[3] معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان. "التعاونيات في فلسطين: بطالة الشباب، الفقر، اللامبالاة، والتعليم العالي". فلسطين: جامعة بيرزيت، حزيران/يونيو 2021، ص48.
[4] الشروف، جهاد. "تطور التشريعات التعاونية في فلسطين". وزارة العمل الفلسطينية – الإدارة العامة للتعاون. صدر في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2010، ص1. انظر/ي الرابط التالي.
[5] الشروف، مصدر سبق ذكره، ص3.
[6] السروجي، فتحي. "إصلاح وتطوير القطاع التعاوني الفلسطيني". معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، 2015، ص41.
[7] إقرار قانون رقم 20 لسنة 2017م بشأن الجمعيات التعاونية. انظر/ي الرابط التالي.
[8] قرارات مجلس الوزراء الفلسطيني، جلسة رقم 90. انظر/ي الرابط التالي.
[9] معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان. "التعاونيات في فلسطين: بطالة الشباب، الفقر، اللامبالاة، والتعليم العالي". فلسطين: جامعة بيرزيت، حزيران/يونيو 2021، ص20.
[10] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. "د. عوض، تستعرض الذكرى السنوية الـ 47 ليوم الأرض بالأرقام والإحصائيات". نُشر في تاريخ 29 آذار/مارس 2023. انظر/ي الرابط التالي.
[11] الصالحي، عبدالعزيز. "الإطار القانوني للتعاونيات في الضفة الغربية وقطاع غزة". المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات، 2022، ص13. انظر/ي الرابط التالي.
[12] سمارة، عادل. "التعاونيات/الحماية الشعبية: إصلاح أم تقويض للرأسمالية". الأرض المحتلة، 2018، ص22.
[13] المصدر نفسه.