في حِمى النار
Date:
21 juillet 2023

قالت ستي: "الضبع بيخاف من النار، مرة من المرات لما ما كان في مي توصل عالبيوت، كنا نمشي مسافة طويلة تنعبّي جرار المي، نسري من صبحية ربنا حتى نلحق ننقل أكثر من نقلة، نقلة للشرب وثانية للغسيل وثالثة للحمام، والمرأة الحِدْقة كانت تنقل ثلاث وأربع نقلات، وكنا نلتقي إحنا "المَلّايات" عالنبعة، كان وادي الليمون والزرقا يسقي ثلاث قرى (عابود، وبيت ريما، ودير غسانة)، هذا الحكي قبل ما "يستحلونا اليهود " في الـ 67.

 مرة كانت السما قمر، القمر فارد حاله على عرض السماوات والأرض، أنا فكّرتها قريب الفجر، وأنه الصبح شقشق، حملت الجرة ونزلت على الوادي، كنا نيجي طريق لكثرة وعورتها كانت تتسمى "طريق الحمير"، يعني يا دوب الحمير تمشي فيها، صعبة على قد ما تتصور، طريق شو بدي احكيلك يا ستي، بتقطم الظهر، حتى أنه كان في آخر الطريق شجرة بلوط كنا نسميها "بلوطة المشهدة"، لأنه كانت المَلّايات وهني حاملات جرار المي لما يصلن لحدها يتشاهدن (أشهد أن لا إله الا الله)، الحاصلو يا ستي كانت السماء قمر، والقمر على قد ما هو حلو بس كذاب."

- يعني مثل ما قال عبد الحليم يا ستي "حلو وكذاب"، مازحتها.

- ظلك إتخِوِث، أنت كلشي عندك مسخرة، هو عبد الحليم كان يسأل بالمشحرات اللي مثلنا. الحاصل إني نزلت بطريق الوادي، وكان فش حدا في الطريق، بس أنا، خفت تكون الملّايات سبقوني، ولما كانت الملّايات يسبقوني، كنت أستوحش وأظل أتونس بذكر الله حتى أصل للنبعة، مشيت الطريق وفش حدا فيه غير صوت الواوية (أبناء أوى). وفي وسط الطريق، إلا وضبع مباريني (يمشي بمحاذاتي)، وأنا متت من خوفي، الضبع يا ستي بيسرق العقل.

- كيف يا ستي؟

- بيرش بوْله عليك وإنت بتصير تمشي وراه كأنك مش بِوَعْيك، زي ما تقول بيخدّر حواسك، بيصير كأنه أبوك، وبتصير تناديه يابا، وبتظلك تمشي وراه حتى تصل "الموتشرة" تاعته (وكره)، حتى يضرب راسك في عتبة المغارة، وبتستفيق وبتعرف إنك لاحق ضبع مش أبوك، بس بيكون وقع الفاس في الراس ووقعت في الموتشرة، وبيبلش يفصفص عظامك قبل ما تلحق تستوعب شو اللي بيصير، وبيكوِّم عظماتك جنب عظام اللي سبقوك.

-معقول يا ستي؟ قلت لها!!

- آه معقول، ستك لسا بعقلها، ما تخرفنتش أنا، بس إنت خربِتَك الكتب اللي بتظلك تقرا فيها!

- طيب وبعدين شو صار يا ستي؟

- صرت أولّع نار، كل ما أمُر بجنب نتشة أولعها، الضبع بيخاف من النار وما بيسترجي يقرّب منها، وظلّيت هيك أولّع في النتش حتى وصلت للنبعة، كان فش حدا غير أنا والضبع والنار. ظليت قاعدة هناك شوط طويل حتى بلشت تهل (تأتي) الملّايات وجرارهن.

- طيب أي ساعة نزلتِ انت يا ستي؟

- أنا عارفة؟ ما كان على أيامنا لا ساعات ولا شحار، كانت العين هي ميزان الوقت، تتطلع في السما وتقدّر تقدير، أنا فكّرتها قريب الصبح. بس خدعني القمر وضحك عليّ، الله يكسر خاطره.

- لو تسمعي الشعراء شو قالوا وكتبوا في القمر يا ستي ما بتدعي عليه، القمر دليل الحيارى والمسافرين ومُلهم العشاق والشعراء، ناغشتها.

- مُلهم الشعراء قلتلي، هذول مفلسفين زيك ومش لاقيين شغلة، قال شعرا قال، مهو الله هجاهم في القرآن، طول عمره الضبع بيستغل ضو القمر مشان يستفرد ويضبع ضحاياه، القمر والضبع بيكملوا بعض يا متعلم يا أبو المدارس.

- بتعرفي شو قال حسين البرغوثي يا ستي عن الضبع؟

- مين حسين، قالت متجهمة؟

- إبن جميل، قلت لها.

- آه من كوبر، الله يرحمه، إمه كانت بتعز عليّ، شو قال هالمسكين، مات بعز شبوبيته.

- قال إنه "الضبع أسطورة الجبل".

- طيب إسكت إسكت، دشّرني من خرافك بفهموش، الضبع إبن القمر. ياما خدع القمر الناس وجرهم من فراشهم الدافي وسلّمهم للضبع، القمر متواطئ مع الضبع يا ستي، ياما القمر استدرج عشاق ومسافرين وتايهين، وبلف (سرق) عقولهم زي الضبع بالزبط، وإنتوا تاعون الكتب أول ناس القمر بيستهبلهم وبيسلمهم للضبع! بدك تعرف شغلة إنه طول ما فيه ضباع، فيه مضبوعين، وفيه عظام مفصفصة وناس مخدوعة.

- طيب والحل يا ستي؟

- الحل النار يا ستي، الضبع بيخاف من النار.

من الأسطورة إلى التاريخ

 عاشت جدتي قرابة القرن وأكثر، وما زالت، أصبحت تشبه "بلوطة المشهدة"، نذهب إليها كلما عركتنا الحياة ونستريح في فَيِّها، لم تعد جدتي تخشى من الضبع، ولم تعد حكايته تُرعبها، لم تعرف جدتي أن الضبع "حيوان أليف" مع ضباع اليوم، وأن محض الخيال الذي رافق حكايته أصبح نكتة ممتعة في ليالي السمر، وأن دولة من الضباع سوف تبني أسطورتها على جماجم من العظام، وأن الفلسطيني اليوم في قلب "الموتشرة"، بعد أن صنعت إسرائيل من أسطورة الضبع ماكينة حديثة لصهر الوعي وكيّه؛ هذه الدولة التي أنزلت الضبع من أسطورته، وحوّلتها إلى تاريخ من القمع والقتل والإبادة وصهر الوعي، يحمل الفلسطيني اليوم ضبعه في داخله. وفي قصة حركتنا الوطنية ما يغري بالتشبيه، ففي قصة "مُجير أم عامر"، بعد أن أجار الأعرابي الضبع وأطعمه، انقضَّ عليه الأخير في أثناء نومه، وبقر بطنه وفصفص عظامه، فقالت العرب "مَن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مُجير أم عامر"، فلا تأمن الضبع، ولو كنت خادمه!

 بدنا الناس تصحصح

 بعد الانتفاضة الثانية، عملت إسرائيل على تفكيك البنية التحتية للعمل الانتفاضي وتدشين مرحلة جديدة، أو ما عُرف بـ "الفلسطيني الجديد" ومكافحة كل أشكال التمرد، حيث تغلغلت سياسات "الإصلاح الأمني والاقتصادي" عبر خطاب نيوليبرالي وأجندات الدول المانحة، وخلق فلسطيني يفكك بطله قبل أن تنتهي قضيته، ويتناغم مع لغة المانحين وأجندات التنمية. وتحويل الذوات الجماعية بالمعنى الوطني والسياسي إلى ذوات مفردنة ومستفيدة من خدمات المال الممنوح، ليصبح الوهم "وسرقة العقول" عقيدة يقايض الفلسطيني فيها وجوده بأمن عدوه، وتحوّل المال السياسي المدفوع على شكل منح إلى جدار ناعم يلتف حول عنق الفلسطيني ويشنقه، ويحول سردياته الكبرى إلى عظام بالية في" الأوكار السعيدة"، حتى اعتقد البعض أن الفلسطينيين يسيرون إلى كهوف ضباعهم باسمين! من رحم هذه اللحظة الفلسطينية المريضة وُلد "الثائر الجديد"، وبدأ يُراكم خبراته، وجعل من تضحيته المكثفة لحظة للممكنات والأمل والصحصحة. قبل عدة أشهر، كان همّ النابلسي ورفاقه "أن يصحصح الناس"، أن يزيحوا عصبة العمى عن أعينهم، وأن يستفيقوا من خدرهم اللذيذ الذي يوصلهم إلى مقبرة العظام، بعد أن صنعت إسرائيل من فلسطين وكراً للتوحش.

 في اتصال هاتفي بين وديع الحوح، أحد قادة عرين الأسود في نابلس، وفاروق سلامة، أحد قادة كتيبة جنين، "بدنا نخلي الناس تصحصح ". وفي الوصية التي كتبها عدي التميمي "أعلم أني سأستشهد عاجلاً أم أجلاً، وأعلم أني لم أحرر فلسطين بالعملية، لكني نفّذتها واضعا هدفاً أساسياً،" شيء يشبه صعقات الكهرباء، للناس، أو توسيع الحاضنة الشعبية وفضائها في مواجهة قوى اجتماعية تشتري العجز وتقايض به، هي حرب للبقاء أو الفناء، يتحول فيها الموت إلى رهان للحياة، حياة الجماعة عبر تصعيد طزاجة الدم والتضحية. رحل التميمي والنابلسي وغيرهما بعد أن رفضوا أن تستفرد بهم الضباع، وأعادوا للنار هيبتها في مواجهة الضباع وأوكارها، وصنعوا من موتهم حياة، أو لعلها حياة، فالضباع تخشى من النار.