اعتقلتني قوات الاحتلال في شهر تموز/يوليو 1989، ونُقلت إلى سجن عسقلان في شباط/فبراير 1990. دخلته وكان عمري 17 عاماً. وكان سجن بئر السبع مخصصاً للأطفال دون الـ 18. وأكتب هنا بعض ما شاهدته وعايشته من أمور مع رفاقي في هذا السجن.
****
"تفتيش، تفتيش". صرخ ضابط السجن بملء صوته في وجه الأشبال، على الرغم من أن عصا غليظة كانت تسبق كلامه، ينهال بها السجّان على مَن بقي من الأسرى، مستسلماً لنوم عميق فوق سرير حديدي بارد. يلفون أنفسهم بأغطية ممزقة أطرافها، يغطون بها أجسادهم في إحدى ليالي كانون الباردة أوائل سنة 1990.
اقتاد الحراس الأطفال بقوة الهراوات والصراخ، أسرى القسم 4 في معتقل بئر السبع، وحشروهم عند باب الغرفة، أوقفوهم شبه عراة، بعد أن أجبروهم على خلع ملابسهم. أبقوهم بثيابهم الداخلية فقط. زجّوا بهم في ساحة أشبه بغرفة صغيرة محاطة بجدران أربعة، في زاوية أحد حيطانها باب حديدي بني اللون يفضي إلى غرفة الأسرى. تعلو الساحة قضبان مغطاة بشباك ذي فتحات ضيقة جداً بالكاد تخترقها أشعة الشمس. في النهار الصحراوي، يصبح المكان مثل وعاء ساخن يصعب تحمُّل المكوث فيه طويلاً من شدة الحر. وفي الشتاء، يتحول إلى ثلاجة ينخر بردها العظام.
ساعة مرّت على انتصاف الليل، أو أكثر بقليل، حين بدأت أعداد من حراس السجن باقتحام الغرفة الكبيرة المخصصة لاحتجاز الأشبال ممن هم دون سن الثامنة عشرة، الذين استفاقوا مذعورين خائفين. بعضهم ظن أنه يحلم، البعض الآخر اعتقد أن ما يجري عملية نقل جماعية للأسرى إلى سجن آخر.
مستودع "الأسرى"
يوجد في الغرفة الكبيرة 26 سريراً حديدياً، كل سرير منها مؤلف من طبقتين. يتوزع عليها 52 أسيراً ممن لم تتجاوز أعمارهم الـ 18 عاماً ولا تقل عن الـ 13. كلهم معتقلون على خلفية مشاركتهم في فعاليات الانتفاضة الشعبية. وحشة العيش في الصحراء تكفي، لكن الاحتجاز في غرفة مستطيلة أشبه بمستودعات حفظ البضائع. فتحات التهوئة فيها عبارة عن نوافذ تحت السقف بقليل لا يمكن الوصول إليها لمشاهدة ما خلفها، نظراً إلى ارتفاعها من جهة، ومن جهة أُخرى لتعذُّر اختراقها من ضوء الشمس من كثرة الأسلاك الشائكة. باب الغرفة الرئيسي يقع في الزاوية ضمن قفص حديدي كبير مفصول عن بقية الغرفة. له (أي القفص) باب، يقوم الأسرى بفتحه بعد أن يفتح السجّان الباب الرئيسي من الخارج ويضع وجبات الطعام الثلاث، أو النزلاء الجدد.
نصف حائط يفصل "مستودع الأسرى" عن غرفة توجد فيها حنفيات للاستعمال، وثلاثة حمامات لقضاء الحاجة تتقابل، وثلاثة قساطل تتدلى من السقف مخصصة للاستحمام، منعزلة عن بعضها البعض، مغطاة بحرام عند مدخل كل قسطل من المياه التي لا تتوفر باستمرار، وأحياناً يجري قطعها عمداً في أثناء قيام أحد الأسرى بالاستحمام. يعلق الأشبال ملابسهم فوق الأسرّة بحبال صنعوها من كنزات الصوف المهترئة، تتدلى كلوحات جدارية تخبئ خلفها لون الحائط الباهت. لون شاهد على عبور المئات من الأسرى ممن كانوا يخضعون للعزل في القسم قبل تحويله مع انطلاقة الانتفاضة الأولى إلى سجن مخصص لاحتجاز أشبال الحجارة.
الزنزانة أرحم من الصقيع
بدت ملامح الخجل على جمال "الفتحاوي" ابن الـ17 عاماً من مخيم جباليا، وهو يقف عارياً بين زملائه. اختفت خلف خجله حكايات البطولة التي كان يرويها لزملائه يوم أمطر ورفاقه بالحجارة دورية مشاة، ضلّت طريقها ودخلت عن طريق الخطأ إلى أحد أزقة المخيم الضيقة. كان يحكي عن صراخ الجنود، كيف كانوا يتوسلون عدم رميهم بالحجارة، يفعلون ذلك بينما كانوا يطلقون النار بلا توقف، وفي كل الاتجاهات؛ يومها، أصيب عدد من الجنود بالحجارة، واعتُقل عدد من الشبان، بينهم جمال. في أثناء تجوّله في الباحة عارياً، تذكّر جمال مرحلة الاستجواب والضرب الذي تعرّض له. تمنى وسط الصقيع لو أنه في تلك الزنزانة الضيقة الحارّة في سجن غزة المركزي، حيث خضع للتحقيق.
خالد أخ جمال في حركة "فتح"، والذي لا يكبر الأخير إلا ببضعة أيام، حنّ هو الآخر إلى الزنزانة، لكن ابن رام الله حاول الاقتراب أكثر من مرة من الباب ليعرف ما الذي يجري في الغرفة الكبيرة، إلا إن سجّاناً أمره بالابتعاد. الأصوات المنبعثة تشي بأن عملية تفتيش تعسفية تجري. بدا قلقاً بعض الشيء. هو يخبئ رسماً لعلم فلسطين الذي اعتُقل بسببه، يخبئه تحت وسادته. وهو الذي اشتهر بين أترابه بقدرته على تعليق العلم من أول رمية. كان خالد يربط علم فلسطين بحبل يذيّله بحجرين، يصوب نحو أسلاك كهربائية، يلتف الحبل عليها، فيتدلى العلم فوق الطريق.
الصحو المفاجئ مزعج
كان على فراس أن يقوم بسرعة، لكن نومه الثقيل أدى إلى عدة صفعات وركلات إضافية كي يقفز من "البرش". في البداية، ظن أنه غارق في حلم، وأنه موجود في أقبية التحقيق، وأن ما يسمعه من صراخ ليس سوى كابوس لم ينتهِ منه. "التأفف" في الأوقات العادية من عدم الصحو المبكر في السجن، إحدى أهم عادات الأسرى الطبيعية، لكن في حالة فراس، الكل كان متضامناً معه، كانوا يعون أنهم لا يحثونه على النهوض من أجل الوقت المخصص للقراءة الذاتية، ولا من أجل القيام بدوره في الخدمة "من جلي أواني الطعام وتنظيف الغرفة". مشى فراس بتخبّط، بخلاف عماد ونافذ ابني عمه ومجموعته، واللذين كانا أول الواصلين إلى باب "التعري". علماً بأنه بعد أن رمى فراس زجاجة "مولوتوف" على باص تابع لشركة "ايغد" (مصلحة النقل العام الإسرائيلية) وتسبب بإحراقه بالكامل، سبق رفاقه بالجري في أثناء الانسحاب. الشبان الثلاثة من قرية سلوان قرب القدس، وينتمون إلى الجبهة الشعبية، تسللوا يومها إلى مرآب حافلات في القدس الغربية وأحرقوا الباص. لم يكن مضى على انتقالهم من مركز التوقيف في "المسكوبية" إلى بئر السبع عدة أشهر، حتى نُقلوا إلى المحكمة المركزية في القدس، والتي أصدرت بحق كل واحد منهم حكماً بالسجن لمدة سبع سنوات. طوال فترة الرضوخ لبرد "الصحراء"، كان الرفاق الثلاثة منشغلين في احتساب العمر المتبقي لهم خلف القضبان، مرّت سنة على اعتقالهم وباق لهم ست سنوات، أسابيع معدودة في بئر السبع، وبعدها يكبر "الأشبال" ويبلغون سن الثامنة عشرة، فإلى سجن نفحة، أو إلى سجن عسقلان.
كمال كان هو الآخر يعاني مشكلة في النهوض السريع من النوم. لكن ما إن انهالت عليه أول عصا حتى قفز ابن اللد ويافا (أبوه من اللد وأمه من يافا) من مكانه. كان طوال الوقت يلعن "ساعة البرد"، علماً بأنه في أوقات التفاعل، لم تخلُ أحاديثه من ذكرياته البحرية في أيام الشتاء العاصف عند شاطئ يافا. الفتى ذو الميول اليسارية دفع به انتماؤه الفلسطيني إلى كتابة شعارات وطنية في مدينة اللد المحتلة، حيث يقيم، فكانت السبب في اعتقاله وتحويله إلى واحد من أشبال الانتفاضة. في تلك الليلة الباردة جداً، اكتشف كمال أن الذي يصنع الفرق بين برد الشاطئ وبرد الصحراء، برد السجن ذاته والذي لا يشبه أي برد آخر. اكتشاف آخر ضمّه كمال إلى "اللائحة"، أن البرد أيضاً أنساه "الجرب" الذي عاناه مع عدد غير قليل من نزلاء الغرفة. فطوال فترة الصيف، ومروراً بفصل الخريف، وصولاً إلى الشتاء، عانى أطفال بئر السبع جرّاء إصابتهم بداء "الجرب"، والبعض منهم كان يصاب بهستيريا "الحكاك" لدرجة أن منهم مَن أحدث جروحاً في الأماكن المصابة التي كانت أغلبيتها في "الأماكن الحساسة من الجسد".
اللهو بالبرد
يدخل القفص فتى صغير، بالكاد يبلغ الثالثة عشرة من عمره. بدا خائفاً بعض الشيء، يغلق السجّان الباب، يتقدم أحد ممثلي الأسرى منه، يفتح باب القفص لجهة الغرفة، يرحب بالضيف، ثم يشرح له بشكل سريع عن طبيعة السجن، يطمئنه إلى أنه بين "أشبال الانتفاضة"، ويقول له إن السجن عبارة عن تنظيمات فلسطينية تتولى إدارة الحياة في داخل السجن، وأن على كل معتقل أن يخضع لتنظيم معين. يشرح ذلك قبل أن يسأل "النزيل الجديد" عن وجهته الحزبية، فيجيبه نائل "أنه لا يعرف إلا أبو عمار". في ساعات المساء، تقام حلقة ترحيب جماعية رسمية بالأسير الجديد، يجلس الجميع في حلقة دائرية، يتولى أحد مسؤولي الأسرى التعريف بنظام الحياة داخل السجن، من الصحو المبكر إلى أوقات حضور التلفاز، والمحددة بين الخامسة والثامنة مساءً، إلى تقسيم الخدمة الإلزامية من جلي الأواني وشطف الغرفة إلى تنظيف الحمامات، وفق برنامج يومي يضمن مشاركة الجميع، إلى الجلسات الثقافية العامة والتحضير لها بما توفر من كراسات أو كتب تم إدخالها عن طريق الصليب الأحمر الدولي، إلى الأوقات المحددة لزيارات الأهل التي تجري مرة كل شهر.
في ليلة وصول نائل ابن مخيم شعفاط ذاتها، جرت عملية المداهمة والتفتيش والقمع للأسرى. جسده الصغير جداً أنقذه من تلقّي الركلات فغاب بين الأجساد الأكبر منه. ولما وجد نفسه في أتون الصقيع، تقدّم باكياً من أسير آخر يشكو له من أنه مضى على اعتقاله عدة أيام، وأن المحقق في مركز التحقيق في "المسكوبية" قال له "في المساء سوف تعود إلى بيتك". ثم تابع، "هذه ليلتي الثالثة وأريد أن أعود إلى أمي". التفت نحوه الأسير ولم يجد معه منديلاً، وليس عليه ثياب كي يمسح بها دموع الطفل الصغير. سأله "ألا تشعر بالبرد، أنت الآن سجين"، فأجابه بنعم. سأله ثانية "وماذا كنت تفعل حينما تبرد"، أجاب الطفل الأسير "إنه كان يركض"، وهذا ما فعله.