ضاعفت حكومة نتنياهو - بن غفير الاقتطاعات من أموال المقاصة الفلسطينية من 51 مليون شيكل إلى 102 مليون شيكل، وذلك بدلاً من الأموال التي تحولها السلطة إلى عائلات الشهداء والأسرى في المعتقلات الإسرائيلية، بالإضافة إلى اقتطاع مبلغ 200 ألف شيكل ستحوَّل إلى عائلات إسرائيلية من قتلى العمليات التي تُنسب إلى مقاومين فلسطينيين. وفي إجراء استفزازي قرر وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، مصادرة مبلغ قدره 500 ألف شيكل، ومركبة تعود إلى عائلة الأسيرين المحررَين كريم وماهر يونس. وتترافق هذه القرصنة مع إعلان إدارة السجون حرباً شرسة ضد الأسرى الفلسطينيين طالت إغلاق الكانتينا، ووضع أقفال على الحمامات، وقطع المياه الساخنة، ووقف الرياضة الصباحية، وتقليص زمن الفورة، وغير ذلك. هذه القرصنة المالية وإعلان الحرب على الأسرى لهما أكثر من هدف، في مقدمها كسر إرادة الأسرى التي لا تتجزأ عن إرادة الشعب الفلسطيني المصممة على التحرر، وتحويل النضال الفلسطيني بكل أشكاله إلى إرهاب، توطئة لتثبيت الاحتلال وتصفية الحقوق الإنسانية والوطنية المشروعة لكل الشعب الفلسطيني.
لا ينفك صانع القرار الإسرائيلي يستخدم ورقة اقتطاع أموال المقاصة التي يجب تحويلها إلى الخزينة الفلسطينية للضغط على السلطة الفلسطينية ودفعها نحو اتخاذ إجراءات تتماهى والسياسة الإسرائيلية من جهة، ومن جهة أُخرى لتحويلها لمصلحة عائلات القتلى والجرحى من الإسرائيليين. في المقابل تعهدت القيادة الفلسطينية بعدم الاستجابة إلى الضغوط الإسرائيلية من خلال الإبقاء على دفع المخصصات الشهرية للمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وعائلات الشهداء. وتضاعفت الخطورة بعد أن عمدت السلطات الإسرائيلية إلى إضفاء الصبغة التشريعية على عملية اقتطاع الأموال، إذ أقر الكنيست الإسرائيلي، بتاريخ 8/7/2018، قانون تجميد مخصصات المعتقلين والشهداء الفلسطينيين وعائلاتهم، بعد أن صادقت عليه لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي، بالقراءات الأولى والثانية والثالثة، والذي يهدف إلى اقتطاع أموال من العائدات الضريبية التي تحولها الحكومة الإسرائيلية إلى خزينة السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية الموقعة بينها وبين دولة الاحتلال بتاريخ 29/4/1994.
وفي سياق متصل أعلن مجلس الوزراء الفلسطيني، في مستهل جلسته التي عُقدت بتاريخ 9/1/2023، أن مجموع اقتطاعات سلطات الاحتلال المتعلقة بمخصصات الأسرى والشهداء بلغت نحو 2 مليار شيكل منذ بداية سنة 2019 حتى أواخر سنة 2022، وبلغ مجموع الاقتطاعات المتعلقة بالصحة والكهرباء والمياه وغيره ما يقارب 1.6 مليار شيكل عن سنة 2022 فقط. كما اقتطعت، ولا تزل، حكومة الاحتلال ما مجموعه 350 مليون شيكل سنوياً بدل عمولة لتحصيل أموال السلطة الفلسطينية المستحقة من المقاصة، كذلك تحتجز دولة الاحتلال المستحقات المترتبة على ضريبة المغادرة عبر الجسور، والتي بلغت أكثر من مليار شيكل.
وكانت اللجنة الوزارية لشؤون الأمن القومي أصدرت، بتاريخ 17/2/2019، قراراً يقضي بتنفيذ القانون المذكور، عبر استقطاع ما يعادل 138 مليون دولار سنوياً من أموال العائدات الضريبية، وحسبما جاء في القانون من إجراءات ووسائل، فإنه منح تلك اللجنة صلاحية مباشرة عملية الاقتطاع بناء على تقرير سنوي يقدمه وزير "الدفاع الإسرائيلي"، يرصد بموجبه قيمة الأموال التي تدفعها السلطة الفلسطينية للمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وعائلاتهم، ويتم بناء على ذلك تجميد نسبة الأموال من المقاصة.
وفي ضوء ما سبق من إجراءات نفذتها سلطات الاحتلال بحق أموال السلطة الفلسطينية، فإنها تبدو ماضية في تنفيذ ورقة اقتطاع أموال المقاصة خلال السنوات القادمة، تحقيقاً لرغباتها في إجبار السلطة الفلسطينية على التماهي مع سياساتها، الأمر الذي من شأنه التأثير في واردات الخزينة العامة للسلطة، وتقليص حجم الموازنة العامة، وبالتالي إضعاف قدرتها على الإنفاق، وصرف المخصصات الشهرية لعائلات المعتقلين والشهداء الفلسطينيين.
رأي القانون الدولي
إن تناول مسألة اقتطاع أموال السلطة الفلسطينية من المقاصة من منظور قانوني، يوجب استجلاء إرادة المشرع الدولي فيما يتعلق بطبيعة الحقوق المكفولة للدول والمتصلة بالموضوع محل الورقة، ثم تحديد طبيعة العلاقة القانونية بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال، وصولاً إلى وضع مسألة اقتطاع الأموال الفلسطينية في ميزان القانون الدولي.
كفل المشرع الدولي حق الدول في عدم التدخل في شؤون بعضها البعض، وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 103/63 بتاريخ 9/12/1981 بشأن عدم جواز التدخل في شؤون الدول الأُخرى، وبالنظر إلى إجراءات قانون اقتطاع الأموال الفلسطينية من العائدات الضريبية وأهدافه، فإنه يتدخل في شؤون فلسطين، ذلك بأنه يقتطع ويُرجئ تحويل أموال من العائدات الضريبية إلى السلطة الفلسطينية، إلى حين توقف الأخيرة عن دفع مخصصات مالية للفئات التي ينطبق عليها القانون -كالمعتقلين والمفرج عنهم وعائلات الشهداء- إذ ورد في ديباجة القرار المذكور: "إن الجمعية العامة؛ إذ تؤكد من جديد وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، أنه لا يحق لأية دولة أن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، لأي سبب كان، في الشؤون الداخلية والخارجية لأية دولة أُخرى..."، كما وضع الإعلان مجموعة واسعة من القواعد التفصيلية التي تؤكد مقاصد الجمعية العامة للأمم المتحدة المتصلة بعدم جواز التدخل في شؤون الدول الأُخرى.
أمّا اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب، فقد أنشأت التزامات قانونية تستوجب على الدولة القائمة بالاحتلال ضمان احترامها،[1] وبين تلك الالتزامات التي وضعتها الاتفاقية، ما ورد في القسم الرابع المتعلق بقواعد معاملة المعتقلين، والتي أوجبت على الدولة الحاجزة ضمان إعالة الأشخاص المعتقلين ومن يعولهم، بموجب المادة 81 من الاتفاقية التي تنص على أن: "تلتزم أطراف النزاع التي تعتقل أشخاصاً محميين بإعالتهم مجاناً، وكذلك توفير الرعاية الطبية التي تتطلبها حالتهم الصحية، ولا يُخصم أي شيء لسداد هذه المصاريف من مخصصات المعتقلين أو رواتبهم أو مستحقاتهم، وعلى الدولة الحاجزة أن تعول الأشخاص الذين يعولهم المعتقلون، إذا لم تكن لديهم وسائل معيشية كافية أو كانوا غير قادرين على التكسب."
يلاحظ من منطوق المادة 81، سالفة البيان، أن الاتفاقية تُلزم القوة القائمة بالاحتلال بإعالة الأشخاص المعتقلين وعائلاتهم، وفي ظل قيام دولة فلسطين بتلك المسؤولية، التي هي في الأصل من مهمات الدولة الحاجزة، من خلال صرف مخصصات شهرية، فإن القانون يهدف لا إلى الحيلولة دون وفاء دولة الاحتلال بالتزاماتها فحسب، بل يحظر أيضاً أي إعانة أُخرى من السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يخالف المادة 98 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على أن: "يتسلم جميع المعتقلين بانتظام مخصصات للتمكن من شراء أغذية وأشياء من قبيل التبغ، وأدوات الزينة، وما إلى ذلك. ويمكن أن تأخذ هذه المخصصات شكل حساب دائن أو أذون شراء، وعلاوة على ذلك يجوز للمعتقلين أن يتلقوا إعانات من الدولة التي يكونون من رعاياها، أو من الدولة الحامية، أو من أي هيئة تساعدهم..."
وفي سياق متصل أكد الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي، بتاريخ 9/7/2004، والذي فصل في الطلب المقدم من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 3/12/2003، بشأن الآثار القانونية الناشئة عن إقامة الجدار الفاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى جانب عدم مشروعيته، أن اتفاقية جنيف الرابعة تنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي أورده الرأي الاستشاري في الفقرات من 89 إلى 101، والذي جاء فيه: "وفقاً للفقرة الأولى من المادة الثانية من اتفاقية جنيف الرابعة؛ تسري الاتفاقية بخاصة في أي إقليم يحتله خلال النزاع طرف من الأطراف المتعاقدة، إذا تحقق شرطان هما: أن يكون ثمة نزاع مسلح (سواء اعترف بحالة حرب أم لا)، وأن يكون النزاع قد نشأ بين طرفين متعاقدين، والهدف من الفقرة الثانية من المادة 2 التي تشير إلى ’احتلال إقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة‘ لا يُعد تقييداً لنطاق الاتفاقية، حسب تعريفها بمقتضى الفقرة الأولى، بأن تستبعد منها الأراضي التي لم تندرج تحت سيادة أحد الأطراف المتعاقدة، وإنما الغرض منها هو أن توضح أنه حتى إذا كان الاحتلال الذي جرى خلال النزاع لم يُقابل بمقاومة مسلحة، تظل الاتفاقية سارية."
كما يشكل قانون اقتطاع أموال المقاصة، انتهاكاً لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، والتي تُعد بمثابة المرجع القانوني بشأن المنازعات المتصلة بالمعاهدات المبرمة بين الدول، سواء كانت جماعية أو ثنائية، وتشتمل اتفاقية فيينا على قواعد تفسيرية لما يرد من شروط في المعاهدات القائمة، أو التي لا يرد فيها ذلك، ويتضح من ديباجتها المقاصد التي تروم إليها الاتفاقية، في كونها تعمل على تقدير الدور الأساسي للمعاهدات الدولية، وباعتبارها سبيلاً لتطوير التعاون السلمي بين الدول مهما تكن نظمها الدستورية والاجتماعية. وفي إطار الموضوع محل الورقة، فقد وقعت دولة الاحتلال، بتاريخ 29/4/1994، اتفاقية باريس الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية، والتي أضحت الإطار الحاكم للعلاقة الاقتصادية بين الجانبين، كونها وضعت جملة من القواعد المتعلقة بالنشاط الاقتصادي، ومن هذا المنظور فإن الاتفاقية أنشأت على دولة الاحتلال مجموعة من الالتزامات.
وارتباطاً بإبرام دولة الاحتلال لاتفاقية باريس، فإنها ملزمة بما ورد فيها من التزامات تتمثل في وجوب قيامها بتحويل أموال مقاصة الإيرادات إلى السلطة الفلسطينية كل 45 يوماً، إلاّ إن إجراءات اقتطاع الأموال وعدم تحويلها يشكلان إخلالاً بالتزاماتها الناشئة بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية.
وعليه فإن عدم وفاء دولة الاحتلال باتفاقية باريس ينطوي على مخالفة أيضاً لاتفاقية فيينا، إذ تنص المادة 27 من الاتفاقية الأخيرة، على أن: "...لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كمبرر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة..."، كما تنص المادة 26 من الاتفاقية نفسها على أن: "كل معاهدة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية."
في ضوء ما تقدم فإن استمرار نفاذ القانون الذي أقره الكنيست سنة 2018 واقتطاع أموال المقاصة من شأنه أن يعرقل قدرة فلسطين على ممارسة حقها في الخلاص من الاحتلال، وإنفاذ قوانينها، وخصوصاً القانون الأساسي الفلسطيني المعدل لسنة 2003 وتعديلاته، الذي كفل بموجب المادة 22/2 منه حقوق المعتقلين والشهداء، والتي نصت على أن: "رعاية أسر الشهداء والأسرى ورعاية الجرحى والمتضررين والمعاقين واجب ينظم القانون أحكامه، وتكفل السلطة الوطنية لهم خدمات التعليم والتأمين الصحي والاجتماعي"، أضف إلى ذلك يمنعها من إنفاذ قانون الأسرى والمحررين رقم 19 لسنة 2004، كما أنه ينتهك التزامات دولة الاحتلال الناشئة عن أحكام القانون الدولي والاتفاقيات التعاقدية.
ويُتوقع أن تُضعف قرارات الاقتطاع من واردات الخزينة العامة للسلطة الفلسطينية، ما يعني تقليص الموازنة العامة، والتي تُشكل العائدات الضريبية أكثر من 50% منها، الأمر الذي سيؤثر في قدرتها على الإنفاق ودفع المخصصات الشهرية، وبالتالي يحول دون قدرتها على الوفاء بالتزاماتها.
إن استمرار دولة الاحتلال في اقتطاع أموال العائدات الضريبية فيه تحدٍّ لإرادة المشرع الدولي الذي حظّر التدخل في شؤون الدول الأُخرى، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أضف إلى كونها تتعارض واتفاقية جنيف الرابعة التي أوجبت على الدولة الحاجزة إعالة المعتقلين ومَنْ يعولوهم.
وعليه فإن السلطة الفلسطينية مدعوة إلى تقديم البلاغات اللازمة للأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة بشأن انتهاكات دولة الاحتلال لقواعد معاملة المعتقلين، ولا سيما أن تلك الأطراف، بموجب المادة الأولى من الاتفاقية، مُلزمة بأن تكفل احترامها في جميع الأحوال. كما أن السلطة مطالبة بالعمل مع الدول العربية للحصول على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يقضي بمطالبة دولة الاحتلال بالكف عن اقتطاع أموال العائدات الضريبية، والعمل أيضاً للحصول على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة لطلب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في تثبيت عدم مشروعية الاقتطاع، وآثاره القانونية على قدرة السلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى تكثيف النشاط السياسي مع الاتحاد الأوروبي والجهات الأُخرى للضغط على دولة الاحتلال بغرض وقف الاقتطاع، وإرجاع الأموال المستقطعة سابقاً.
إن الاستمرار في دفع المخصصات المالية لعائلات المعتقلين والشهداء الفلسطينيين محل إشادة وتقدير، لما فيه من إعمال لأحكام القانون الدولي، وترسيخ للحقوق الفلسطينية.
[1] صادقت دولة الاحتلال على اتفاقية جنيف الرابعة بتاريخ 6/7/1951.