شمال الضفة وشمال شرقي رام الله: ملاحظات بشأن الوحشية والفصل العنصري والاستعمار
Date:
26 juin 2023

يتقاطع الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الاستغلالي والأبارتهايد الزاحف، والوحشية، والفاشية، في الممارسات الصهيونية الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية؛ أي تلك الممارسات التي تقوم بها دولة المستوطنين الإسرائيليين، وممارسات المستوطنين أنفسهم. فهناك تكامُل أدوار ووظائف بين الرسمي وغير الرسمي في المنظومة الاستعمارية الصهيونية؛ وهذا ليس غريباً في مجتمع مبنيّ بروح العسكرية الإسبارطية ببعدها البربري الفاشي؛ والتي تهدف إلى الهدم والمحو والإقصاء والإحراق؛ إحراق الأرض والإنسان ومحاولة إحراق الحكاية والهوية الفلسطينية وتشويههما؛ عبر مسار استعماري طويل يسير بشكل تراكمي؛ يراكم العنف البنيوي، وفعل المحو تارةً، والسيطرة والهيمنة تارةً أُخرى؛ لاستكمال عمليات المحو والإحراق المستمر. إن عمليات الحرق وتحويل الأشياء إلى رماد هي فعل محو وإزالة وإخفاء، فالحرق يساوي المحو، والمحو هو أحد أدوات الاستعمار وأهدافه، وهو جزء من المسار النكبوي، إذا لم تنتهِ عمليات الحرق والمحو؛ وهذا ما وسمه الياس خوري بـ"النكبة المستمرة" التي تحتاج إلى "مقاومة مستمرة".

يتضح من خلال المتابعات اليومية استهداف الاستعمار الإسرائيلي لكل فلسطين والفلسطينيين؛ لكن خلال الشهرين الماضيين، ومن خلال المتابعات اليومية، تبين أن هناك استهدافاً إسرائيلياً لمنطقة شمال الضفة الغربية، وبالتحديد محافظات جنين ونابلس وطولكرم، وكذلك استهداف قرية المغير الواقعة شمال شرقي مدينة رام الله، واستهداف قرية ترمسعيا في الجغرافيا ذاتها، واستهداف قرى ومضارب بدو ومخيمات على امتداد فلسطين. يتنوع الاستهداف الاستعماري ما بين عمليات عسكرية كبيرة، وأحياناً اقتحامات صغيرة بأهداف استعمارية محددة، وفي طابع قديم- جديد، استعاد المستوطنون فعل الحرق والنار والهجوم الوحشي على القرى الفلسطينية ومركبات الفلسطينيين وحقولهم ومحاصيلهم.

يستهدف الاستعمار الإسرائيلي وآلته الاستعمارية الإنسان الفلسطيني والمكان، فأحياناً، ترى أن عدد الاعتقالات مرتفع جداً في شمال الضفة الغربية، واستهداف المواطنين عبر فعل القتل المتعمد، وبدم بارد أحياناً، وفي السياق نفسه، يستهدف الاستعمار بيوت الفلسطينيين ومساكنهم، سواء بالهدم والتفجير بالآلة العسكرية الإسرائيلية، أو بالحرق والتكسير والتخريب بفعل ممارسات المستوطنين وعنفهم الفاشي. لا يقتصر فقه التوحش الاستعماري الإسرائيلي على مكان أو زمان في فلسطين، فالمكان والزمان والحاضر والماضي، كلها مستباحة بالحرق والتطهير والبتر، والاستهداف قائم للمدينة والمخيم والقرية، فلا جغرافيا ناجية من الحرق والإرهاب الصهيوني.

المدينة الفلسطينية ومخيمها: "بتر" شمال الضفة الغربية

يشهد شمال الضفة الغربية هجمة استعمارية عنيفة على المستوى الاستيطاني والعملياتي والخطابي الإعلامي، تُبرز عنف آلة الاستعمار الإعلامية وآلته الحربية في الهجوم على شمال الضفة الغربية ومخيماتها والتحريض عليها بشكل مستمر ومتواصل، فالمسعى الصهيوني الاستعماري هو بتر وتطهير أي محاولة نهوض للعمل الفلسطيني المقاوم، ومنع أي حالة إجماع فلسطيني على المستوى الميداني والسياسي، فما خلقته عرين الأسود وكتيبة جنين وكتيبة طولكرم من حالة تضامُن وإجماع مجتمعي، يسعى الاحتلال لإجهاضها واجتثاثها. وفي سياق متصل، وضمن سياسة التخطيط الاستعماري للشوارع والبنية التحتية، يعمل على استكمال عزل شمال الضفة الغربية عن وسطها وجنوبها، في محاولة خلق "إمارات"، أو جزر فلسطينية معزولة ومنفصلة عن محيطها.

إن الحرب الوحشية التي ينفّذها الاستعمار الإسرائيلي ضد المدينة الفلسطينية ومخيماتها لا تقتصر على مدن شمال الضفة الغربية، وإنما تشمل كل الجغرافيا الفلسطينية، بمدنها ومخيماتها وقراها، فالنكبة الفلسطينية سنة 1948 لم تقتصر على المدينة وحدها، بل شملت المدينة والقرية، وخلال النكبة المستمرة، فإن الاستهداف هو لكلّ الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية، ويهدف هذا الاستهداف والعنف البنيوي والمحو إلى تحقيق حالة من الفراغ الجماهيري والوطني، من أجل إذابة وصهر أي محاولة نهوض للمقاوم الفلسطيني الرافض لسياسات الاستعمار وسياسات أذناب الاستعمار، أو "عبيد المنزل"، وفق وسم مالكوم إكس.

وصف الممارسات الاستعمارية في شمال الضفة الغربية لا يغيّب الممارسات الاستعمارية في جنوب الضفة الغربية والجغرافيا الاستعمارية الفلسطينية، فهناك ممارسات المستوطنين بالاعتداء على مركبات المواطنين في مدينة الخليل ونابلس والقدس ومناطق أُخرى، وهي لا تنفصل عن سياسات الاستعمار في نشر الجريمة في المدينة الفلسطينية المستعمَرة سنة 1948، وغضّ الطرف عن مرتكبي الجرائم المتعاقدين باطنياً، والمتصالحين مع أجهزة الأمن الاستعمارية الإسرائيلية.

القرية الفلسطينية: حصار قرية المغير وحرق ترمسعيا

تعرّضت قرية المغير لهجمة استعمارية نفّذها الجيش الإسرائيلي وجيش المستوطنين، فقد أُغلقت قرية المغير مدة تزيد عن ثلاثة أسابيع خلال أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2023، وخصوصاً المدخل الشرقي والغربي للقرية، وجرى اعتقال العشرات من أهالي قرية المغير، وتم احتجاز إحدى السيدات كرهينة، ومارس المستوطنون هجمات متعددة في القرية، لكن السؤال المركزي ربما لماذا هذا الاستهداف لقرية المغير؟

يجري استهداف المغير ضمن التحولات في سياسات الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية على السكان والمكان الفلسطينيين، فقد لوحظ في الأشهر القليلة الماضية أن عملية تثبيت الاستيطان على أرض الواقع قد أخذت منحى متسارعاً؛ تقع قرية المغير على حدود (شفا) الغور، وهذا يجعل من السيطرة على قرية المغير مدخلاً لتسريع واستكمال عملية الضم الزاحف الذي تقوده الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في السنوات المنصرمة للهيمنة على الأغوار؛ وضمّها بشكل بطيء وحذر، وهذا ما يجعل قرية المغير نقطة الفصل والوصل ما بين منطقة الأغوار الفلسطينية وقرى ريف شرقي رام الله ومدينتها، فالسيطرة على المغير هي ضمن مساعٍ صهيونية لاستكمال طوق الهيمنة على الأغوار الفلسطينية.

إلى جانب ذلك، يسعى الاستعمار الإسرائيلي لحرمان قرية المغير من نصف أراضيها التي تقع شرقي شارع/ خط "آلون" الاستعماري، فأهالي القرية عُزلوا عن أراضيهم وامتدادهم الجغرافي والطبيعي في المنطقة الشرقية. أي أن الهيمنة على أهالي المغير ومصادرة أراضيهم وعزلهم عن منطقة الأغوار تهدف إلى تفتيت المكان الفلسطيني، أو ربما بلغة أدق التطهير المكاني لأراضي قرية المغير الواقعة شرقي خط آلون.

وهذا يطرح السؤال من جديد، لماذا جرى حرق قرية ترمسعيا؟ ربما الإجابة الأولية الميكانيكية أن بنية الاستعمار قائمة على المحو والحرق والإزالة؛ لكن التمعن في ممارسات المستوطنين وتغوّلهم الفاشي في القرية الفلسطينية يمكن أن يجعلنا نعيد التفكير مرتين في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عصفت بالقرية الفلسطينية وبقية المجتمع الفلسطيني، إن القرية الفلسطينية اليوم هي مجردة من قوتها الأساسية القائمة على العمل في الأرض والعلاقة بها، وقيمة الفزعة والترابط الاجتماعي الاقتصادي والسياسي أحياناً. إن حالة التفكك الاجتماعي والانفكاك عن الأرض، لم يجعلا القرية الفلسطينية حاضنة للعمل الثوري والمقاوم منذ ثورات 1929 و1936؛ فقيمة الفزعة والهبّة للمساندة غابت نوعاً ما عن القرية الفلسطينية، وإن وُجدت في قرى وأمكنة أُخرى، مثل المخيم والمدينة وساحات المواجهة المستمرة مع الاستعمار الصهيوني.

إلى جانب التحول الفلسطيني واندثار ثقافة القرية وفزعتها، وفي الوقت نفسه، بُنيت الهوية الاستعمارية الإسرائيلية على العلاقة بالأرض، عبر فعل التنزه "التيول"، وهذه العلاقة التي حاولت المؤسسة الاستعمارية نسجها بين الأرض والمستعمِر هي سابقة لبناء إسرائيل كدولة استعمارية، فمثلاً، إلقاء نظرة على ملفات القرى في أرشيف الهاغانا يعطينا لمحة عن دور عمليات التنزه والتخييم في جمع معلومات عن القرى الفلسطينية، والتي وُظّفت في عمليات التطهير العرقي والمكاني سنة 1948. مع تصاعُد اليمين الفاشي الإسرائيلي، أصبح المستعمِر الصهيوني لا يرى سوى "أرض إسرائيل" التي من المفترض أن تكون خالية من غير "اليهود"، وعمليات الإخلاء والتطهير لم تعد مهمة الحكومة وحدها؛ بل أصبحت جزءاً من ثقافة المستوطنين. لم تقتصر ممارسات المستوطنين وإرهابهم على ترمسعيا، وإنما هذا المشهد يتكرر في قرى فلسطينية أُخرى، مثل بتين وسنجل وجالود وأم صفا ورأس كركر وياسوف وغيرها، في هذه الآونة، وسابقاً، مورست هذه الأفعال الوحشية ضد الشهيد محمد أبو خضير سنة 2014، وضد عائلة دوابشة سنة 2015، وإحراق بلدة حوارة سنة 2023، وربما ستشهد الأسابيع والأشهر القليلة القادمة المزيد من ممارسات المستوطنين البربرية ضد الفلسطينيين.

البادية الفلسطينية: ترحيل أهالي عين سامية وتوطين المستعمِرين

عمل الاستعمار الإسرائيلي على مدار أعوام ماضية على تنغيص عيش أهالي عين سامية (شرقي رام الله)، ضمن سياسة استعمارية طويلة النفس، تهدف إلى الترحيل والتطهير المكاني والتهجير القسري، وفي سياق متصل ومتكامل من أجل ترحيل البدو الفلسطينيين من مناطقهم لاستكمال عمليات الاستيطان والاستعمار والفصل العنصري، وفي الوقت الذي يسير الترحيل على قدم وساق، تجري عمليات "تثبيت" بؤر استيطانية في مناطق البدو الفلسطينيين، فقد جرت، مؤخراً، إقامة بؤرة استيطانية جديدة قرب مضارب عرب الكعابنة شرقي قرية مخماس، لاستكمال طوق تهجير البدو وتحقيق منطقة خالية من الفلسطينيين لاستكمال الطوق الجغرافي حول القدس، لتحقيق مشروع "القدس الكبرى" الذي يهدف إلى تحقيق سياسة "عرب أقل ويهود أكثر"؛ وهذا جزء من عمليات الضم الزاحف للأغوار الفلسطينية وبترها عن الضفة الغربية.

تقع قرية عين سامية قرب السفوح الشرقية لقرية كفر مالك شمال شرقي مدينة رام الله، وضمن الحملة الاستعمارية للسيطرة على حدود منطقة الأغوار الفلسطينية، جرى تهجير ما يقارب الـ 200 فلسطيني من أهالي عين سامية، وهذا التجمع يعانى جرّاء السياسات الاستعمارية، وفق تقرير منظمة بيتسيلم، سواء عبر الاستهداف من الجيش الإسرائيلي، أو عبر عنف المستوطنين المستمر، ويعاني أهل التجمع جرّاء تقييد إنشاء المساكن والبنية التحتية، وسياسات الهدم، والتهديد بهدم مدرسة التجمع.[1]

لم يكن تهجير أهالي عين سامية مفاجأة، وإنما كان جزءاً من سلسلة طويلة من عنف المستوطنين واعتداءاتهم المتكررة على أهالي المنطقة، كذلك ارتبط التهجير وإخلاء المنطقة بعد عمليات طويلة من الهدم ومنع البناء، وممارسات عنصرية وإرهابية ضد أهالي عين سامية، وهو ما دفعهم إلى الهجرة أكثر من مره في  المنطقة نفسها، وهذا جزء من سياسة الترحيل المستمرة.

الفصل العنصري: الرصد من الأسفل

تشير الملاحظات والمتابعات الميدانية، والتي تتقاطع مع تقارير منظمات حقوقية إسرائيلية، إلى أن نصف الأراضي التي تتم مصادرتها في الضفة الغربية لأغراض عامة، مثل شق الطرق وغيرها، تخصَّص تلك الأراضي لخدمة المستوطنين فقط، ولا يستخدمها الإسرائيليون، وما نسبته تقريباً 2% فقط من تلك الأراضي يستخدمه الفلسطينيون فقط.[2] وهذا مؤشر إلى توغّل الاستعمار الاستيطاني في عمليات السيطرة وتحقيق سياسات الفصل العنصري بطريقة لا مرئية، على عكس الفصل العنصري الواضح بنسخته في جنوب أفريقيا؛ فالفصل العنصري في فلسطين لا يكون بالضرورة مرئياً ومقونناً وواضحاً؛ كونه في جوهر الممارسة والتطبيق الإسرائيلييْن، وهذا جزء من فقه الاستعمار الإسرائيلي الهجين والمركّب، ويتقاطع هذا مع استنتاجات تقرير منظمة هيومن رايتس وواتش لسنة 2021، بعنوان "تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد"، وصدر مؤخراً (2023) تقرير منظمة العفو الدولية، بعنوان "الأبرتهايد الرقمي: تكنولوجيات التعرف على الوجه وترسيخ الهيمنة" الذي يرصد العنصرية والمراقبة والمعاقبة الاستعمارية ويوضح فيه الأبارتهايد الرقمي الصهيوني، أي أن منظومة الفصل العنصري وظفت التكنولوجيا في بنيتها العنصرية الإقصائية.

تستند هذه المقالة إلى جهود مؤسسة الدراسات الفلسطينية في توثيق ممارسات الاستعمار الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين؛ بهدف رصد اتجاهات الممارسات الاستعمارية الصهيونية في فلسطين، من فصل عنصري، وممارسة سياسات استعمارية سائلة وصلبة، تهدف إلى المحو بأشكاله المتعددة والهيمنة والسيطرة والفصل العنصري؛ وذلك لتدشين مساحة معرفية وتوثيقية توضح طبيعة الممارسات الاستعمارية واتجاهاتها وتحولاتها وتمركزاتها في فلسطين على المستوى  الاستعماري الاستيطاني، والقانوني، والخطابي المرتبط بالتصريحات والخطابات وغيرها، والمستوى العملياتي اليومي، من اقتحامات واعتقالات وهدم منازل وغيرها؛ كون هذا العمل يحتاج إلى تأمّل عميق في التحولات البنيوية التي تمارَس ضد فلسطين والفلسطينيين؛ وقراءتها ضمن منظور تكامُل المشاريع الاستعمارية في الهيمنة على فلسطين والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وفلسطين المستعمَرة سنة 1948.

 

[1]إسرائيل تهجّر سكان تجمّع عين سامية، بالإكراه. 23 أيار/مايو 2023. على الرابط الإلكتروني. استرجع بتاريخ 19/6/2023. 

[2] انظر الرابط الإلكتروني.