لم تكن الهجمات التي شنها مئات المستوطنين الإسرائيليين، في الأيام الأخيرة، على بلدات وقرى حوارة، واللبن الشرقية، وبيت فوريك، والساوية، وجالود، وترمسعيا، وأم صفا، والمغير، والزاوية، ودير استيا وكفر الديك، في محافظات نابلس ورام الله وسلفيت، سوى حلقة في سلسلة هجمات باتت يومية في الليل والنهار -بل قد يشهد اليوم الواحد أكثر من هجوم - وهي تستهدف حياة المواطنين الفلسطينيين وأراضيهم ومصادر رزقهم وأماكن عبادتهم. وقد أدى توسع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة إلى زيادة مطردة في عنف هؤلاء المستوطنين في السنوات الأخيرة، إذ بينما سُجّلت في سنة 2008 195 إصابة بين صفوف الفلسطينيين جراء هجمات المستوطنين، ارتفع هذا العدد ليصل إلى 304 إصابات في سنة 2022، وسجّل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية 1049 اعتداءً على الفلسطينيين في الفترة ما بين كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر 2022، بزيادة قدرها 170٪ مقارنة بسنة 2017، ويبدو أن هذا الاتجاه استمر في التصاعد في سنة 2023[1].
وفضلاً عن توسع الاستيطان، يقف وراء هذا التصاعد في عنف المستوطنين عاملان: الأول هو تطوّر "قوة ضاربة" ثابتة تضطلع بالدور الأبرز في شن الهجمات الدموية على الفلسطينيين، وتتمثّل في مجموعة "شبان التلال"؛ والثاني هو خطة الوزير بتسلئيل سموتريتش المعروفة باسم "خطة الحسم" في الضفة الغربية المحتلة.
"شبان التلال" قوة استيطانية ضاربة دموية
ظهرت حركة "شبان التلال" في أواخر تسعينيات القرن العشرين. ففي سنة 1998، أنشأ مستوطن يدعى أفري ران مزرعة كبيرة باسم "تلال العالم" في منطقة نابلس، وصار هذا الضابط المتقاعد يستقبل في مزرعته شباناً "مضطربين"، راحوا يشتغلون في البناء وفي الحقول. وهكذا، ولدت المجموعات الأولى لـ "شبان التلال" وهو اسم أطلقته عليهم وسائل الإعلام الإسرائيلية. وشهدت حركة "شبان التلال" تطوراً خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وازداد عدد أعضائها بعد تفكيك المستوطنات اليهودية في قطاع غزة في سنة 2005. ثم راحت هذه الحركة تتطوّر مع الوقت، بحيث صارت تضم نواة صلبة مشكّلة من بضع مئات من المستوطنين الشبان، ويتجمع حول هذه النواة آلاف من المتعاطفين، يشكّل معظمهم جزءاً من سكان "البؤر الاستيطانية" المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية المحتلة. وتتراوح أعمار هؤلاء الشبان ما بين 15 و 30 عاماً، وهم يمثّلون الجيل الثاني من المستوطنين، أي هم، في الغالب، أبناء أو أحفاد المستوطنين الذين أقاموا مستوطناتهم في الضفة الغربية بعد احتلالها في عدوان حزيران/يونيو 1967، وهم استقروا في التلال، وفي المناطق الصحراوية القاحلة وغير المأهولة من الضفة الغربية، حيث يعيشون في خيام أو كرفانات بسيطة أو منازل متنقلة، أو حتى في منشآت مسبقة الصنع مصنوعة بأيديهم، ويمارسون الزراعة وتربية الغنم، ويدرس بعضهم في المدارس التلمودية الأشد تطرفاً. وتقوم ثقافتهم على عنصرية فاضحة، مدفوعة بأيديولوجية راديكالية، تعتبر أن استيطان "يهودا والسامرة" [الضفة الغربية] هو "وصية دينية وإرادة إلهية وواجب"، تحضيراً "لحلول العصر المسياني"، وأن أي إخلاء للمستوطنين اليهود "سيكون ضد الإرادة الإلهية"، وأن إنشاء دولة فلسطينية على هذه الأرض هو "بدعة". ويذكر إيتان عضو هذه الحركة، البالغ من العمر 19 عاماً، أنه "انتقل مع زوجته للعيش في البؤرة الاستيطانية إيش كوديش في وادي شيلو، المذكور في التوراة"، بين رام الله ونابلس، وهو "يربّي الغنم ويطمح للعيش على أرض أجداده، كما في زمن الآباء البطاركة التوراتي". ويضيف: "عندما تزرع الأشجار، فأنت تغزو الأرض؛ إنها لسعادة أن تعيش هنا، إن هذا جيد جداً للروح، إنه الرب الذي وعد إبراهيم بكل هذا"[2].ويحظى هؤلاء الشبان، الذين يشنون هجماتهم الدامية على الفلسطينيين وممتلكاتهم تحت راية "جباية الثمن"، بدعم ثابت من قوى "الصهيونية الدينية"، الذين يتلقون منها، في حالات اعتقالهم، مساعدة قانونية ومساعدة مالية مجانية، كما يستفيدون من تواطؤ بعض قضاة المحاكم معهم، إذ تشير المعطيات إلى أنه من بين 642 شكوى قدمها فلسطينيون ضد المستوطنين المتطرفين ما بين سنة 2005 وسنة 2011، تم رفض نسبة 91٪ منها لعدم وجود أدلة أو بسبب استحالة التعرّف على "الجناة"، بينما تلقى، أولئك الذين حوكموا في نهاية المطاف، أحكاماً مخففة أو أحكاماً مع وقف التنفيذ أو غرامات بسيطة[3]. وبعد الهجوم الذي قام به مئات المستوطنين على بلدة حوارة في 26 شباط/فبراير الفائت، حيث أحرقوا عدداً كبيراً من المنازل والسيارات وتسببوا في مقتل مواطن فلسطيني، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية ثمانية مستوطنين شبان اشتُبه فيهم بتنفيذ أعمال عنف في البلدة، لكن أُطلق سراح ستة منهم، بحسب صحيفة "هآرتس"، بعد يوم من اعتقالهم، وأطلق سراح الاثنين الباقين بعد يومين[4].وعلى الرغم من أن السلطات الإسرائيلية أعلنت في سنة 2013 عدم قانونية المنظمات التي تدّعي مسؤوليتها عن أعمال "جباية الثمن"، فإن هؤلاء الشبان استمروا في هجماتهم الدموية بعد ذلك، والتي اتخذت طابعاً وحشياً صارخاً عندما أُلقيت، في تموز/يوليو 2015، زجاجة حارقة على منزل في قرية دوما الفلسطينية، ما أودى بحياة عائلة بأكملها، لم ينجُ منها سوى طفل واحد فقط ، يبلغ من العمر أربعة أعوام، رغم إصابته بحروق بالغة، مستفيدين في ذلك، كما كتب الباحث الفرنسي توماس فسكوفي، "من الدعم الضمني من الإدارة الاستعمارية"، الذي يجعلهم يرون في أنفسهم "طليعة استعمارية، والجزء الفاقع والمرئي من الاستعمار الذي لا يحب الإسرائيليون رؤيته، مع أنه في الواقع نتيجة أيديولوجية هي في قلب تأسيس دولتهم"[5]. كما يحظى هؤلاء الشبان بتواطؤ من بعض وحدات الجيش الإسرائيلي المنتشرة في الضفة الغربية المحتلة، كما كشف تحقيق أجراه الصحافي الإسرائيلي المقيم في القدس، يوفال أبراهام، الذي بيّن، في 3 أيار/مايو الفائت، "كيفية دمج المستوطنين الإسرائيليين العنيفين من البؤر الاستيطانية في "حدود الصحراء" - وهي وحدة عسكرية جديدة مسؤولة عن انتهاكات خطيرة ضد الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية"، مستشهداً بما قاله له مسؤولون عسكريون، اشترطوا عدم الكشف عن هويتهم، ومفاده "أن وحدة حدود الصحراء، التي تم إنشاؤها في سنة 2020 وتخضع للواء وادي الأردن، تتكوّن بصورة أساسية من شبان التلال..الذين تمّ تجنيدهم على أساس فكرة أن الخدمة في الوحدة هي طريقة لإعادة تأهيلهم: فهذه الوحدة فريدة من نوعها تماماً، فنحن نأخذهم ونحوّلهم إلى جنود". ونظراً إلى أن هناك "فراغاً أمنياً" في شمال الأغوار، بحسب هؤلاء المسؤولين العسكريين، فإنه يُنظر "إلى تجنيد هؤلاء المستوطنين بكونه وسيلة مناسبة لملء هذا الفراغ". ويتابع الصحافي نفسه، فيكتب: "وفقاً لهؤلاء المسؤولين، فإن العديد منهم [هؤلاء الشبان] لديهم تاريخ من العنف"، وهم يتجندون في "وحدة قتالية ذات قدرات خاصة توفر استجابة عملياتية للتحديات في وادي الأردن، وقد شهدت العديد من الإنجازات والنجاحات العملياتية"[6].
خطة سموتريتش لحسم مستقبل الضفة الغربية المحتلة
لا يخفي بتسلئيل سموتريتش زعيم حزب "الصهيونية الدينية"، حتى بعد أن أصبح مسؤولاً إسرائيلياً يشغل منصبَي وزير المالية ووزير في وزارة الحرب في حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة، نواياه إزاء الشعب الفلسطيني، إذ هو صرّح في الأول من آذار/مارس الفائت، بعد قيام المستوطنين بهجوم دموي على بلدة حوارة في 26 من ذلك الشهر، بأنه ينبغي "محو حوارة" من الوجود، ثم ذهب، في 20 من الشهر نفسه، إلى حد الدعوة إلى "محو" الشعب الفلسطيني بأسره، وذلك عندما نفى وجود هذا الشعب وصرّح، في حفل خاص نظمته في باريس جمعية "إسرائيل إلى الأبد" الفرنسية المتعاطفة مع القوميين العنصريين اليهود، بأن "الحقيقة التاريخية، الحقيقة التوراتية"، تفيد بأنه "بعد 2000 سنة من المنفى، بدأت نبوءات (الكتاب المقدس) تتحقق وأبناء شعب إسرائيل يعودون إلى ديارهم...هناك عرب حولهم لا يحبون ذلك، فماذا يفعلون؟ هم يخترعون شعباً وهمياً ويطالبون بحقوق وهمية على أرض اسرائيل". وأدلى بتسلئيل سموتريتش بهذه التصريحات من خلف مكتب تظهر وراءه خريطة بحدود إسرائيل تشمل الأراضي التي احتلتها منذ سنة 1967 وأراضي الأردن المجاورة[7].
كان بتسلئيل سموتريتش، الذي تسلّم مفاتيح الضفة الغربية المحتلة، بصفته وزيراً ثانياً في وزارة الحرب الإسرائيلية، قد طرح "خطة الحسم"، الرامية إلى ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، في مؤتمر حزبه المنعقد في أيلول/سبتمبر سنة 2017، وصارت هذه الخطة، بعد ست سنوات، بمثابة سياسة رسمية لحكومة بنيامين نتنياهو الحالية. فبعد أن أصبح بتسلئيل سموتريتش، وفقاً للاتفاق الائتلافي الذي وقّعه حزب "الصهيونية الدينية" مع حزب "الليكود"، مسؤولاً عن الإدارة المدنية ومنسقاً لعمليات الحكومة في المناطق الفلسطينية المحتلة، تقرر، في الاجتماع الذي عقدته الحكومة الإسرائيلية، في 18 حزيران/يونيو الجاري، تسليمه مسؤولية تخطيط البناء في المستوطنات - وهي صلاحية كانت حتى ذلك الحين تقع على عاتق وزير الحرب-، كما تقرر تبسيط هذه العملية التي كانت تمر سابقاً بست مراحل، بحيث تقتصر على مرحلتين، يقدم بتسلئيل سموتريتش في الأولى منها موافقته المبدئية على إطلاق المشروع، الذي تراجعه لجنة التخطيط وتصادق عليه، من دون المرور عبر أي سلطة أخرى، سياسية أو عسكرية، أي أن المستوطنين بات في مقدورهم أن يقرروا بأنفسهم مشاريع البناء في المستوطنات وتوسيعها، وتقدم الدولة لهم الدعم لاحقاً[8].
وهكذا، بات الطريق ممهداً أمام تطبيق "خطة الحسم"، التي تهدف إلى الضم الكامل للضفة الغربية المحتلة، بما يقضي على أي "وهم" بقيام دولة فلسطينية، والتي تمر بمرحلتين: في المرحلة الأولى، يتم توسيع الاستيطان إلى الحدود القصوى، وهو ما يجري حالياً بوتائر متسارعة، وخصوصاً بعد أن صادق الكنيست، في 15 شباط/فبراير 2023، على قانون يلغي قانون "فك الارتباط" لسنة 2005، بما يعيد إعمار بؤرة حومش الاستيطانية وعودة المستوطنين إلى مستوطنات كديم وغنيم وسانور في شمال الضفة الغربية. ويتم في المرحلة الثانية، بعد إقرار الضم، طرح ثلاثة خيارات أمام السكان الفلسطينيين، المحرومين من الحق في تقرير المصير، وهي: البقاء في الضفة الغربية، في ظل نظام فصل عنصري، يمنحهم سلطات بلدية محدودة؛ ترك الضفة الغربية والانضمام إلى سبعة ملايين لاجئ يعيشون في بلدان الشتات؛ وفي حال رفض الفلسطينيون هذين الخيارين واستمروا بالمقاومة، يتم اللجوء إلى القوة المفرطة للجيش الإسرائيلي وقوى الأمن من أجل ردعهم والقضاء على مقاومتهم، وهو الخيار الثالث[9].
وماذا عن الموقف الفلسطيني إزاء هذا العنف المتصاعد؟
على الرغم من خطورة اعتداءات المستوطنين، في الأيام الأخيرة، على عدد من البلدات والقرى الفلسطينية، فإن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لم تبادر حتى الآن إلى عقد اجتماع طارئ يبجث في كيفية الرد على هذه الاعتداءات. ومع أن "القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية" عقدت اجتماعاً لها قبل أيام للبحث في كيفية حماية الشعب الفلسطيني، إلا أن هذه الهيئة التي تجتمع في المناسبات ولا يُعرف كيف تشكّلت ومتى، لا تزال هيئة غير فاعلة على أرض الواقع. من الصحيح أنه صدرت دعوات من بعض قادة الفصائل الفلسطينيية إلى العمل على تعزيز المقاومة الشعبية، وتشكيل لجان حماية أو حراسة شعبية في القرى والبلدات، ووقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وحتى تسليح الشباب الفلسطيني وإنشاء حرس وطني[10]؛ ومن الصحيح أن هناك نضالات متفرقة يخوضها شبان يصرون على التحدي ويضحون بحياتهم في سبيل حماية مخيماتهم ومدنهم من تعديات جنود الاحتلال ومستوطنيه، وتخوضها لجان شعبية للدفاع عن الأراضي والتصدي للاستيطان، إلا أن كل هذا لا يمكن تثميره، وتحويله إلى حركة مقاومة شعبية واسعة، طالما ظلت قيادة منظمة التحرير مرتهنة لـ "اتفاقات أوسلو" وغير مستعدة لسحب اعترافها بإسرائيل، وطالما بقي الانقسام قائماً ولم يتم الاتفاق على استراتيجية مقاومة موحدة، تغطي ساحتَي النضال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
[1] https://www.msf.fr/grands-formats/en-toute-impunite
[2] https://www.slate.fr/story/53647/israel-jeunes-collinnes
[3] https://www.lepoint.fr/monde/israel-la-derive-des-jeunes-des-collines-16-12-2011-1409432_24.php
[4] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/1-3-2023.pdf
[5] https://orientxxi.info/magazine/armee-colons-et-terrorisme-juif-une-sainte-alliance-contre-les-palestiniens,5217
[6] https://ismfrance.org/index.php/2023/05/06/une-unite-de-larmee-israelienne-transforme-les-jeunes-des-collines-en-soldats/
[7] https://www.leparisien.fr/international/il-ny-a-pas-de-peuple-palestinien-5-minutes-pour-comprendre-la-polemique-bezalel-smotrich-21-03-2023-262HFDYCLJDI5JLT3LKNOO4G4I.php
[8] https://www.lemonde.fr/international/article/2023/06/20/le-gouvernement-israelien-fait-un-pas-important-vers-une-annexion-de-la-cisjordanie_6178434_3210.html
[9] https://www.france-palestine.org/Comment-le-plan-de-Smotrich-pour-la-Cisjordanie-met-en-oeuvre-une-seconde-Nakba