الحياة الخفية لسيدو حبيب
Date:
15 mai 2023

"سيدو حبيب، ماذا حدث هنا؟" سألناه بنبرة مترددة. ساد صمت قصير. أجاب: "قتلوا عمي".

"ثمانية وأربعون… واحد، تسعة، أربعة، ثمانية،" قال متوقفاً بعد كل رقم، باحثاً عن اللغة والذكريات، مضيفاً فجأة، وهو يلوح بيده خارج النافذة: "اذهب، اذهب!" كان ذلك في نيسان/أبريل 2017، حين قرر سيدو حبيب الانضمام إليّ وإلى زوجي، أكبر أحفاده، لزيارة فلسطين. كنا متشوقين لمعرفة تفاصيل أكثر عن حياته في قرية عيلبون في الجليل، لكن إجابته على جميع أسئلتنا كانت دائماً: "لماذا ترغبون في سماع قصة حزينة؟"

لم يكمل سيدو حبيب القصة، فأسرعنا في السيارة في شوارع عيلبون الضيقة، تاركين وراءنا ساحة القرية، حيث وقعت المجزرة صباح 30 تشرين الأول/نوفمبر 1948. تكرار هذه الأرقام الأربعة كان فعل حداد وحزن لسيدو، وما زالت هذه الأرقام تجلب الحزن لجميع الفلسطينيين.

سيدو حبيب مع صديقه منذ الطفولة، ميلاد، في عيلبون، ٢٠١٧.

 

تابعت النظر عبر زجاج السيارة الأمامي من مقعدي الخلفي، والسيارة تبتعد عن ساحة القرية. قبل النكبة، احتضنت الساحة حفلات الزفاف، وكانت مكاناً يجتمع فيه الرجال صباح كل أحد قبل حضور قداس الكنيسة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية. كانت الكنيستان أيضاً مخبأً للقرويين الذين لجأوا إليهما عندما سمعوا نبأ هزيمة جيش الإنقاذ العربي في البلدات المجاورة. وعندما وصل جنود الاحتلال إلى عيلبون، طالبوا سكان القرية بالتجمع في ساحة الميدان، قبل أن يطلقوا الرصاص عليهم.

حاولت أن أتذكر كل ما قرأته عن المجزرة التي حدثت في تلك القرية المسيحية الصغيرة المحاطة بأشجار الزيتون. ربما كانت عملية التذكر أمراً مقلقاً بالنسبة إليّ، لكنها بالتأكيد كانت أكثر إيلاماً بالنسبة إلى سيدو. ففي ذلك اليوم، تطوع عمه الأعزب زكي لأن يُعتقل بدلاً من شقيقه حنّا (والد سيدو حبيب). فاختار جنود الاحتلال 12 رجلاً لإعدامهم، على الرغم من استسلام أهل القرية، ومن بينهم كان زكي موسى اسكافي* الذي كان واحداً من 14 رجلاً استشهدوا في 30 تشرين الأول/نوفمبر 1948. حينها، أسرت قوات الاحتلال ستة رجال آخرين، استخدمتهم كدروع بشرية ضد المقاومة المحتملة من الفلسطينيين والعرب في أثناء عملية ترحيل أهل القرية خارج عيلبون. وبالفعل، أجبر الجنود أهل القرية على الرحيل، بإطلاق النار عليهم من الخلف، مثيرين الرعب في نفوسهم، فارضين عليهم مصير اللجوء في لبنان، ليستكملوا عملية التطهير العرقي في الجليل. لكن أغلبية القرويين استطاعت العودة إلى عيلبون بحلول أيار/مايو 1949 بسبب احتجاج رجال الدين المسيحيين في فلسطين ولبنان والعالم الغربي. فبسبب الجهود التي بذلها رئيس أساقفة الجليل ماكسيموس الحكيم بمساعدة ممثلين لبنانيين في الأمم المتحدة، تمكن العشرات من أهل القرية العودة إليها في صيف ذاك العام، واضطرت سلطات الاحتلال المحرَجة أمام العالم الغربي إلى السماح لأهالي عيلبون بالعودة إلى قريتهم المنهوبة والمهدمة.

قال لي الياس اسكافي، أحد أبناء سيدو حبيب: إن سيدو حبيب وعائلته عادوا، لكنهم "عندما وصلوا إلى عيلبون، كان المشهد لا يصدق، فلم يُدفن أيّ من الرجال الذين قُتلوا، ورائحة القرية كانت كريهة."

غادرنا حدود القرية وواصلنا رحلتنا حول الجليل في سيارة صغيرة مستأجرة من دون نظام تحديد المواقع العالمي (GPS). وبعد التجول في السوق في عكا القديمة، تناولنا السمك المقلي بجانب البحر، كما فعلنا عندما سافر سيدو حبيب وزوجته من فلينت في ولاية ميشيغان إلى بارانكيا في كولومبيا لزيارة ثلاثة من أبنائه الأربع. ثم توجهنا إلى طبرية بحثاً عن فندق جمعية الشبان المسيحية (YMCA) المتواضع، المكان الذي عمل فيه سيدو حبيب ذات مرة مع جانيت، أصغر أولاده وابنته الوحيدة. (عمل سيدو أيضاً في فرع فندق جمعية الشبان المسيحية في القدس). 

سيدو حبيب قرب البحر في عكا، ٢٠١٧.

عند الغروب، بدأت رحلة العودة إلى عيلبون. كان يومنا طويلاً ومرهقاً. حاولنا تجاذُب أطراف الحديث بمزيج غريب من اللغات، العربية والإنكليزية والإسبانية المكسورة. انبهرنا بقدرة سيدو حبيب على تذكُّر الطرق، كان يعرف كل الطرق المختصرة، على الرغم من أنه أصبح في الثمانينيات من عمره، وعاش في المنفى أكثر من 30 عاماً، أصبح خلالها مواطناً أميركياً.

كان سيدو حبيب يبلغ من العمر 13 عاماً عندما طُردت عائلته من عيلبون. ساروا حفاة الأقدام عبر الجبال نحو جنوب لبنان لمدة ثلاثة أيام، كانت الليالي شديدة البرودة، مشوا طويلاً حتى استقروا في مخيم المية ومية للاجئين في صيدا. كان سيدو حبيب يقول دائماً إنهم سدوا جوعهم بطعام "لا يأكله الكلاب". وبعد المذبحة في قريتهم وبعد قضائهم عدة أسابيع في لبنان، سُمح لهم أخيراً بالعودة، وهذه العودة كانت استثنائية بعكس مصير الفلسطينيين من مئات القرى المهجرة خلال النكبة.

بدأت الحياة ببطء من جديد في عيلبون، على الرغم من الحكم العسكري الذي كان مفروضاً في الجليل عند عودة سكان القرية. جلبت الحياة السابقة في عيلبون بعض الذكريات والابتسامات على الوجوه. فخلال فترة الانتداب، كان حنّا وثلاثة من أبنائه يجلبون الماء من العين، عندما أوقفهم جنود بريطانيون.  سألوا عن أسمائهم، فأجاب حنّا: "حبيب"، مشيراً إلى أول ابن، وهو ما أثار ردّة فعل استهزائية من الجنود. ثم قال مشيراً إلى ابنته: "مفيدة،"، لكنه تلقى ردّة الفعل نفسها من الجنود. فقرر حنّا تغيير اسم ابنه الثالث عبد الله إلى "تشرشل،". عندما قال ان اسم ابنه الثالث "تشرشل"، انبهر الجنود، وقالوا أنهم سيزورونه يوماً. أخبرني أقاربي أن الجنود البريطانيين زاروا عيلبون في وقت لاحق، بحثاً عن تشرشل، ابن حنّا. ومنذ ذلك الحين، استبدل عبد الله اسمه بـ "تشرشل"، واستخدم الاسم الجديد حتى وفاته في سنة 2006.

عندما بلغ سيدو حبيب 18 عاماً، توفي والده، ليصبح مسؤولاً عن إخوته الستة الأصغر منه سناً. وقرر أن ينقل إخوته وأمه المسنة (التي كانت تعاني جرّاء مرض الباركينسون) إلى دير القديس فنسنت دي بول. وقد تم إنشاء الدير سنة 1885 لرعاية المرضى والفقراء والأيتام وكبار السن. وخلال إقامتهم في الدير، تعرفت العائلة إلى زوجة سيدو حبيب المستقبلية، ماريا، التي كانت يتيمة من بيت جالا، وكان أقرباؤها قد استقروا في بارانكيا، كولومبيا، في أوائل القرن العشرين.

 لكن ستي ماريا وسيدو حبيب لم يلتقيا إلا في أثناء عملهما في فندق جمعية الشبان المسيحية (YMCA) في القدس. كانت حياتهم معاً ممتلئة بالسعادة والصعاب. وفي إحدى الليالي، تركت ستي ماريا زجاجة حليب فارغة على عتبة منزلهم في حي مأمن الله في القدس (يُعرف أيضاً باسم ماميلا)، على الرغم من أن وضعهم المادي لم يمكّنهم، آنذاك، من دفع ثمن زجاجة حليب جديدة لأطفالهم الصغار. وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي، دفعت ضوضاء غريبة سيدو حبيب إلى فتح الباب الأمامي ليجد كلبهم لوكي، يحمل أوراقاً مالية في فمه.


سيدو حبيب ويتّي ماريامع اثنين من أطفالهما في القدس، ١٩٦٥.

أصبحت جمعية الشبان المسيحية موقعاً لحدث آخر غير متوقع كذلك. ففي الصباح الباكر وخلال زيارته الرسمية في آذار/مارس 1979، غادر الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر جناحه في فندق كينغ دافيد، وسار عبر الشارع إلى فندق الجمعية. وتكشف وثيقة أرشيفية من يومياته أنه وصل إلى فندق الجمعية في تمام الساعة الـ 7:30 صباحاً يوم 12 آذار/مارس 1979. ويقول أقارب سيدو حبيب إن كارتر أراد استخدام المسبح المدفأ في الجمعية لأن فندق الملك ديفيد لم يكن فيه مسبح. وتقول العائلة أيضاً إن الرئيس كارتر أراد مكافأة سيدو حبيب على لطفه وخدمته بجانب المسبح، واستغل سيدو حبيب ذلك الموقف لطلب المساعدة في الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لابنته جانيت. وأنه في وقت لاحق، تلقى رسالة موقّعة من الرئيس ساعدته في ذلك. وتقول عائلة سيدو حبيب إن ذلك حدث فعلاً، ويؤكد اثنان من أولاده أنهما شاهدا الرسالة بعيونهم.

سيدر حبيب قرب المسبح خلال زيارة لأفراد من العائلة في ميامي، ٢٠٠٣.  

قدم سيدو حبيب الرسالة التي تلقاها مع الطلب إلى القنصلية الأميركية في القدس، وبالفعل حصل على التأشيرة المنتظرة. وبحلول أيلول/سبتمبر 1984، غادر سيدو حبيب وزوجته وابنته إلى الولايات المتحدة للانضمام إلى أبنائهم المهاجرين الثلاثة. 

بدت القصص التي رواها لي أحفاده الثمانية عن حياته في القدس ساحرة وسعيدة. لكن طفولة سيدو حبيب في عيلبون استدعت ذكريات حزينة نادراً ما تحدث عنها. كانت سراً مؤلماً ظل يحتفظ به لفترة طويلة. 

توفي سيدو حبيب في 13 كانون الثاني/يناير 2023 عن عمر يناهز الـ 88 عاماً. يحيي أبناؤه وأحفاده ذكراه في بيت صفافا والقدس وعيلبون ومدينة فلينت الأميركية ومدينة بارانكيا الكولومبية، حيث يقيمون. ويذكرونه كرجل فلسطيني كريم ومرح ومتفائل، فقد اختار أن ينظر نحو المستقبل، لأن الماضي لن يؤدي إلا إلى فتح جروح غير ملتئمة، لا يعاني جرّاءها هو فحسب، وانما تعبّر عن معاناة أمة بأكملها لا تزال تبحث عن المساءلة والعدالة والحرية.


*يُعرف أيضاً باسم زكي موسى نخلة. أخبرني أحد الأقارب أن الاسم نُسب إلى العائلة بسبب طول أفرادها كشجر النخيل.

ملاحظة المحررة: لمعرفة المزيد عن مجزرة عيلبون وطرد وعودة أهلها، يمكن قراءة كتاب عادل منّاع، "نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل (1948-1956)"، لمؤلفه عادل مناع، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالعربية والإنكليزية، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2016).


هذا المقال نتاج عن ورشة تدريبية بعنوان "كيف تكتب قصة نكبتك؟" بتنظيم مؤسسة الدراسات الفلسطينية وقيادة لورا البسط لإحياء ذكرى ٧٥ عاما على النكبة. كما أنه متاح باللغة الانجليزية على موقعنا الإلكتروني وباللغة الإسبانية (الرابط قادم) على الموقع الإلكتروني لشريكنا في الترجمة، El Intérprete Digital (المترجم الرقمي). أقيمت الورشة التدريبية برعاية مشتركة من منظمة النداء الفلسطيني الموحد ومركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورجتاون.

رسم آية غنمة.
ترجمة لورا البسط.

À propos de l’auteur: 

أوديت ييدي: رائدة أعمال ثقافية وباحثة وكاتبة ومعلمة فلسطينية كولومبية.