على درب التهجير، من حرب إلى أُخرى
Date:
15 mai 2023

في أحد أيام نيسان/أبريل، وجدت سلوى نفسها على متن قارب تجديف مكتظ في ميناء يافا. جلست تلك الطفلة ذات الثمانية أعوام إلى جانب إخوتها وأقاربها وهم في طريقهم نحو مدينة صيدا اللبنانية في قارب بالكاد تمكن من إتمام الرحلة. كان القارب ملك جدها والد أمها، مصطفى أبو شليح الذي عمل في الميناء. عندما قرر أبو شليح إرسال عائلته بحراً في اتجاه الشمال، كانت المدينة تتعرض للهجوم، ولكنه  لم يعلم بأنها ستسقط بيد الاحتلال بعد أيام قليلة، بل اعتقد أنه وضع موقت، وأنهم سيعودون بعد انتهاء الاضطرابات.

توجه آلاف الفلسطينيين من أبناء المدينة إلى الميناء، بعد أن قطعت الميليشيات الصهيونية الطرقات البرية وبدأت بقصف الأحياء. حينها، غرق عدد من القوارب في البحر، لكن قارب أبو شليح تمكن من النجاة.

ما إن وصل القارب إلى صيدا بعد رحلة طويلة شاقة أوشك فيها على الانقلاب مرات عديدة بسبب كثرة الركاب، تهلَّلت الوجوه وفرحت بالوصول إلى شاطئ الأمان وملاقاة المستقبِلين من أقربائهم.

تصف سلوى استقبال أقاربها لهم في صيدا، قائلةً: "رحبوا بنا كأننا ملوك قدموا من يافا." كانت أسرة سلوى تتوقع أن تعود بعد فترة قصيرة إلى يافا، ولذلك مكثت في مخيم المية مية للاجئين في جنوب لبنان. ولكن بعد حين، عندما لم تتحقق العودة، انتقلت إلى مسكن دائم في حي صبرا جنوبي بيروت.

كانت هذه المرة الأولى التي تفتح فيها جدتي قلبها وتتحدث عن طردها من فلسطين. روت لنا اللحظات التي عدّتها مفصلية في حياتها، رواية اختلطت فيها الحماسة بالحذر.

في أيلول/سبتمبر 1964، تزوجت سلوى من جدي عدنان، الذي كان يعمل مدرباً رياضياً في جمعية الشبان المسيحية في لبنان. وكان عدنان أيضاً لاجئاً من يافا. وُلدت أُمي، هدى، بعد زواجهما بعشرة أشهر. وسكنت الأسرة في حارة حريك. درَّست سلوى في مدرسة وكالة الغوث للاجئين (الأونروا) في مخيم برج البراجنة، بينما استلم عدنان عملاً في الشركة الأميركية للتأمين على الحياة. ولأنهما كانا مشغوليْن بعملهما على الدوام، قامت جدتها، التي كان اسمها أيضاً هدى (أُم عدنان) بتربيتها حتى وفاتها، حينها، كانت هدى تبلغ من العمر ٩ أعوام.

انتقلت الأسرة إلى الحازمية في الفترة ما بين أواخر 1973  ومطلع 1974، وكان ذلك بعد اختفاء خالي خليل الذي كان طالباً في المدرسة مدة ثلاثة أيام. حينها، هاجمت الميليشيات اللبنانية اليمينية مجموعات فلسطينية بالقرب من مدرسته، وأُجليَ الطلاب. اصطحبه أحد المدرّسين إلى بيته في بلدة تسمى سوق الغرب ولم تعرف عنه عائلته شيئاً.

بعد هذه الحادثة، انتقلت سلوى إلى بيت أقرب إلى المدرسة (بحيث تكون أقرب إلى مدرسة أولادها) في حال تكرر ما حدث، لكن العائلة عاشت في الحازمية عاماً واحداً فقط، ثم دفعتها الاضطرابات إلى الانتقال مرة أُخرى إلى الشرق مؤقتاً. لكن مع اجتياح الجيش السوري للبنان، لم تستطع العودة إلى بيتها في الحازمية.

عاشت جدتي حياتها على درب التهجير، تهرب من حرب لتجد أُخرى. تقول: "عثرنا على بيت مفروش [في صوفر]، وخططنا للعيش فيه ثلاثة أشهر، ثم نعود إلى بيتنا في الحازمية. لكننا لم نستطع العودة. فقد مرَّ الصيف، ومرَّ الشتاء... ثم انتقلنا إلى مكان أبعد بكثير. "في بادئ الأمر، انتقلت العائلة إلى قب إلياس، ثم إلى قرية جديتا في سهل البقاع، وهناك، نجت الأسرة من هجوم بالقنابل، وهو ما جعل جدتي تصرّ على مغادرة الأسرة لبنان كلياً.

تخبرني أمي: "أَذكرُ صاحبة البيت وهي تقول لأمي [متعجبةً]’ما زلتم أحياء؟" سألتُ جدتي عن سبب قرارها الرحيل، فأجابتني ببساطة أن "[الوضع السياسي] كان السبب."

غادرت سلوى وأسرتها لبنان سنة 1980. لكن قبل ذلك، سافرت بمفردها أولاً لتستكشف أرضاً تُعرَف بمناخها المعتدل، وأشجار الحمضيات، وساحلها المشمس تناسب الأسرة. لم تكن تلك عودةٌ إلى منزل العائلة المتوارث في يافا – عودةٌ دأب الاحتلال الإسرائيلي على صدِّها حتى يومنا هذا – وإنما قطعت نصف الأرض لتحطَّ الرحال في أورانج كاونتي [مقاطعة البرتقال] في الولايات المتحدة.

ولدى وصولها، استخدمت محامياً لتيسير قدوم أسرتها، واشترت منزلاً في مدينة سيبرس، المسماة على اسم شجرة قريبة من شجرة الأرز الظاهرة على علَم لبنان. وحال الانتهاء من الترتيبات كافة، عادت سلوى إلى لبنان لتساعد بقية أسرتها في الانتقال إلى ولاية كاليفورنيا.

حينها، كانت هدى في منتصف سن المراهقة، وكانت قد بدأت تعي هويتها كفلسطينية. ومن النوادر المأثورة، غير الطريفة في حينه، التي تذكرها أمي أن أباها احتجَّ بشدة عند محامي الهجرة عندما كانوا بصدد الحصول على الجنسية الأميركية، إذ رفض أن يُكتبَ "يافا، إسرائيل" في خانة مكان ولادته وولادة زوجته في أوراق معاملة الهجرة. تردف أُمي"[قال:] لم تكن إسرائيل موجودة عندما وُلدتُ!".خشيت سلوى من ردّة فعله التي قد تحول دون حصولهم على الجنسية الأميركية. غير أنهم حققوا نصف انتصار، فلم يُكتَب في الوثائق "إسرائيل"، ولكن لم يُكتب فلسطين كذلك.

سلوى التي تناهزالـ 82 عاماً الآن، لا تزال تقيم بكاليفورنيا، بينما تعيش أُمي، هدى، في الخليج حيث وُلدتُ أنا. انتقلت هدى إلى الخليج في سنة 1990  بعد زواجها من أبي الذي كانت عائلته تقيم هناك منذ عقود، بعد نفيها من القدس بعد النكبة. وقد وجدت ضالتها في المكتبات، حيث تمضي جلَّ وقتها في القراءة والتعلم. تخبرني أمي بأن"النشأة في منطقة حرب تُلهيك عن بعض الأمور، على ما أعتقد."

زارت أمي وأختي الصغيرة فلسطين للمرة الأولى في سنة 2019. وبعد ولادتي، عادت جدتي إلى فلسطين للمرة الأولى منذ طُردت بالقوة عبر الميناء وهي طفلة، ووصفت مشاعر ارتباطها "بطراوة الأرض، ومائها، وترابها، وخضرتها، وبيوتها، وناسها." وقد أعادت جسور التواصل مع الأقارب من أبناء العمومة الذين بقوا في فلسطين ونجوا من استعمار أرضهم بالقوة. وحين سألتها عمّا إذا احتاجت إلى مساعدة  لتجد طريقها في المدينة، أجابت سلوى بحزم: "كلا!" فقد تذكّرت كل شيء.


هذا المقال نتاج عن ورشة تدريبية بعنوان "كيف تكتب قصة نكبتك؟" بتنظيم مؤسسة الدراسات الفلسطينية وقيادة لورا البسط لإحياء ذكرى ٧٥ عاما على النكبة. كما أنه متاح باللغة الانجليزية على موقعنا الإلكتروني وباللغة الإسبانية (الرابط قادم) على الموقع الإلكتروني لشريكنا في الترجمة، El Intérprete Digital (المترجم الرقمي). أقيمت الورشة التدريبية برعاية مشتركة من منظمة النداء الفلسطيني الموحد ومركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورجتاون.

رسم آية غنمة.
ترجمة أحمد بركات.

À propos de l’auteur: 

عبد الله موسوس: كاتب وباحث ومترجم ومعلم.