ماري تحلُم بفلسطين
Date:
15 mai 2023
Auteur: 

عندما كانت ماري تحلم بفلسطين وهي طفلة، كانت تتخيل أزقة بيت لحم والكنائس الحجرية العتيقة. وبأثر نشأتها، كلبنانية مسيحية متدينة، كانت تأمل بأن "تطأ قدماها أرض المسيح" يوماً ما، بحسب ما قال لي ابنها شفيق مصيطف، الذي أصبح الآن جَدّاً بعمر الخامسة والسبعين، ومقيماً بكندا.

تحققت أمنية ماري حين زارت بيت لحم في أوائل العشرينيات من عمرها. كانت تستقل حافلات طريق يافا-القدس من مدينة يافا الساحلية، حيث كانت تسكن، لتذهب إلى القدس وبيت لحم لكي تزور الكنيسة. وفي أواخر عقد الثلاثينيات، التقت أحمد، والد شفيق، وتزوجت منه. كان المستوطنون الصهاينة في تلك الفترة يهاجرون أفواجاً إلى فلسطين، وبات التنقل داخل فلسطين صعباً، وأصبحت الأوضاع في مدينة يافا خطِرة بسبب تصاعُد التوترات بين سكانها الفلسطينيين والمستوطنين غير الشرعيين. وقبل أن تسقط المدينة في يد الاحتلال، وقبل أن تقتلع النكبة آلاف السكان الفلسطينيين من ديارهم، كانت ماري قررت مغادرة المدينة مع أسرتها لتلجأ إلى الحي المسيحي في بيت لحم الذي اعتقدت أنه سيبقى آمناً.

يقول شفيق، مبتسماً وتجاعيد الدهر بادية حول عينيه: "الكثيرون يظنونني لبنانياً عندما أتكلم، حتى أنت." يتحدث إليّ ونحن جالسان إلى طاولة الطعام التي أصبحت معلَماً من معالم بيت مصيطف، إذ أمضيت ساعات طويلة وأنا متحلقة حول تلك الطاولة مع ابنة شفيق – أعز صديقاتي منذ المدرسة الثانوية – وبتُّ أشعر كأنني في منزلي، وأمامي أواني المكسرات والمعمول والقهوة التركية.

ينظر شفيق عبر نظارته، ذات النصف إطار، نحو غرفة المعيشة، حيث زوجته جاكلين تلاعب حفيدهما ذا الخمسة أشهر، ترفعه وتدنيه، وهو يبكي.

كبرت وأنا متأكد من أن عائلة مصيطف لبنانية، ولا سيما بسبب لهجتها، لكنني اكتشفت مؤخراً أن شفيق أمضى جلّ نشأته في بيت لحم قبل الهجرة إلى بيروت وهو في سن المراهقة. فهو فلسطيني أيضاً، ويرجع الفضل في لهجته الموسيقية إلى أمه.

قررت ماري الانتقال من لبنان إلى فلسطين قبل نحو عقدين من النكبة. وبعد إدخار ما يكفي من المال من العمل كمساعدة منزلية، سألت رب عملها عما إذا كان يعرف أحداً في فلسطين يحتاج إليها للعمل عنده. فدلها على أسرة في يافا. وبعيْد انتقالها، التقت أحمد، والد شفيق، ووقعت في حبه، وهو رجل مسلم من رام الله كان يعمل طاهياً في المدينة. تزوجا وأنجبا مولودهما الأول، شهيد، يقول شفيق، متندراً "في  سنة 1937، أو 1938، أو 1939." يذكّرني تحزير تاريخ الميلاد بوالديّ اللذين ضاعت شهادتا ميلاديهما وأوراقهما الرسمية في معمعة التهجير. ولذلك، فإن الكثير من تواريخ الميلاد من تلك الحقبة هي تخمينات في أحسن الأحوال.

بحلول عقد الأربعينيات، كان المشهد العمراني النابض في يافا مرّ بتطورات كثيرة. وكان لدى السكان المحليين خطط للتوسع وتشييد بنية تحتية أكبر. وفي الوقت نفسه، كانت المستوطنات الصهيونية تتوسع أيضاً، وكان الفلسطينيون يتظاهرون ضد المستعمرين. خشيت أم شفيق من سوء الأوضاع. وكانت حرية التنقل بالنسبة إليها أساسية، ولم تستطع أن تتخيل عدم المقدرة على زيارة الأماكن المقدسة متى شاءت. لم تراودها فكرة مغادرة فلسطين أبداً، وإنما فكرت في الذهاب شرقاً.

يقول شفيق بابتسامة دافئة: "أرادت الانتقال إلى بيت لحم"، كانت تظن أن الابتعاد عن اضطرابات يافا سوف يبقيهم آمنين. ومن خلال معارفهم وعلاقاتهم، استطاع زوجها إيجاد وظيفة في محكمة بيت لحم.

يهز شفيق رأسه "لا أعرف بدقة تاريخ انتقالهم،" يدني بصره، وللحظة أشعر بأنه يتراجع. ولكنه يرفع يديه مسلّماً أمره، ويقول: "يا ريتني أروح أسألها هلق...[بس هي] بالقبر."

وكمن ينقّب عن ذكريات دفينة، أو يدقق معلومات ظل يحتفظ بها في ذاكرته، يطأطئ شفيق رأسه الأشيب، فيلتقي شعاع الشمس الداخل عبر النوافذ. أنظر إلى غرفة المعيشة، فأرى حفيده بين ذراعيْ جدته، يغط في نومه بعد البكاء.

ينطق شفيق أخيراً: "أعتقد أنهما غادرا قبل [النكبة, أوائل الأربعينيات."يستند في تخمينه إلى شذرات من معلومات جمعها طوال حياته، بما فيها ذكرياته عن عودة أخيه الأكبر، شهيد، إلى يافا من عمّان في عقد السبعينيات، حيث استطاع إيجاد طريقه إلى منزل العائلة القديم من دون مساعدة. وهذا يعني أنه كان مدركاً وواعياً بما يكفي، عندما غادروها، لكي يتذكر الطريق وحده بعد ما يزيد عن عقدين من الزمن. وهكذا كان والداه فطنَيْن ومدركيْن لِما كان يجري، واستبقا النكبة بمغادرة يافا لحماية أسرتهما والبقاء في موطنهما فلسطين.

في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، أوصت الأمم المتحدة رسمياً باعتماد خطة تقسيم فلسطين التي منحت يافا لدولة الاحتلال الاستعمارية. وفي الفترة الفاصلة ما بين قرار ماري وأحمد المغادرة ووقوع النكبة،  الميليشيات المسلحة طردت بالقوة 95 ٪ من سكان يافا الأصليين.

وفي سنة 1967 ، أُجبرت أسرة مصيطف على الرحيل عن فلسطين إلى الأبد. آنذاك، كان شفيق مراهقاً يتطلع إلى إكمال دراسته الثانوية. ولكن في يوم مشمس من شهر حزيران/يونيو، وفي ربع الساعة الأخير من امتحانه النهائي في مدرسة تراسنطة للبنين، اقتحم مدير المدرسة صفه معلناً تعليق الدوام. فكانت الحرب قد اندلعت.

استقل شفيق حافلة، ثم جرى إلى أمه ليخبرها بما حدث. مخاوف ماري القديمة بدأت تتحقق. جلست العائلة حول المذياع، بينما جالت الصواريخ في سماء المدينة. وانفجر أحدها في شارعهم أسفل المنزل، وخلّف حفرة كبيرة. وفي ذلك المساء، طافت سيارة في المدينة، وعليها مكبّر صوت يطلب من الناس وضع أعلام بيضاء خارج منازلهم.

يقول شفيق، واصفاً ما جرى: "شاهدت أنا وأختي الصغيرة الجنود يسيرون في الشارع، وينشدون!" يعلو صوته قليلاً باستنكار: "نظرت إلى أختي وقلت: "هذا استعمار. نحن نتعرض للاستعمار."

سارت قوات الاحتلال الإسرائيلي في الشوارع المفجّرة والمهشمة، والتي حلمت بها ماري ذات يوم. وفي غضون أسبوعين، أجبرت تلك القوات أسرة مصيطف على ركوب حافلة أنزلتهم عند ما بات يُعرف اليوم بحدود الضفة الغربية، وساروا من هناك حتى عبروا الجسر إلى الأردن. ثم استقلوا سيارة أجرة إلى عمّان وباتوا فيها ليلة واحدة، قبل مواصلة طريقهم إلى لبنان. وهناك أقاموا مع عائلة ماري، وما عادوا بعدها إلى بيت لحم.

انخفض عدد المسيحيين الفلسطينيين القاطنين في بيت لحم انخفاضاً كبيراً، بسبب تعرّضهم لمضايقات واعتداءات مستمرة من المستوطنين الصهاينة. وبحسب قناة الجزيرة، لا تزيد نسبة المسيحيين في فلسطين المحتلة اليوم عن 2٪ من مجموع عدد السكان، بعدما كانت تقارب الـ 11٪ قبل سنة 1948 . وهم ممنوعون من الحصول على تصاريح لزيارة القدس، وخاصة إذا كانوا من غزة، كما تتعرض أماكنهم الدينية ومعالمهم الأثرية لطمس مستمر.

حلّت عائلة مصيطف في بيروت. وكان شفيق، بحسب قوله، مراهقاً لاهياً ومتململاً غير مبالٍ بمتابعة التطورات السياسية. وكان والداه منهمكيْن في بناء حياة في المنفى، حتى أنه لم يتسنّ لهما الجلوس مع أولادهما للخوض في مناقشة ما حلّ بهم. وهو يدرك أنه، إلى حد ما، قد تبنّى موقفاً مماثلاً إزاء أولاده، ولكن اهتمامه مؤخراً بالسياسة كان بسبب الحرب في سورية، وأحيا ذلك اهتمامه بمواكبة المجريات في المنطقة. واليوم، صار كثيراً ما يشاهد الصور والفيديوهات الملتقَطة لبيت لحم والقدس، ويستذكر حياته السابقة.

يرى شفيق أملاً بإعلاء الجيل الفتي صوته، ويواصل مقاومة الاحتلال لعقود قادمة. "]ظن الاحتلال[ أن الكبار يموتون والصغار ينسون،" يحدثني شفيق ويمد ذراعيه ليحضن حفيده الفضولي بعد أن استيقظ من قيلولته وكله حماسة للعب، "ولكن على ما يبدو أن هذا الجيل الصاعد هو أكثر عزماً وإصراراً مما كنا عليه بمليون مرة!"

يشاهد شفيق فيديوهات حركات المقاومة في الوطن، ويتعرف في الخلفية إلى الطرقات القديمة المغبرة التي اعتاد المشي فيها. ويشعر بالغبطة والفخر بهؤلاء الشباب المدافعين عن الشوارع التي أحبتها أمه.

"لم أرَ في حياتي شعباً متفانياً لوطنه أكثر من الفلسطينيين،" يقول شفيق، ثم يبتسم ابتسامة عريضة وهو يداعب حفيده، ممسكاً بذراعه الصغيرة، ويرفعها كقبضة ثورة.


إشعار تصحيح: النسخة السابقة من هذه القصة ادعت أن شقيق شفيق اسمه شريف، الاسم الصحيح هو شهيد. وأيضًا في النسخة السابقة من هذه القصة، يقول شفيق إن عائلته غادرت بيت لحم قبل عام أو عامين من النكبة، بل غادروها في الواقع في أوائل الأربعينيات.


هذا المقال نتاج عن ورشة تدريبية بعنوان "كيف تكتب قصة نكبتك؟" بتنظيم مؤسسة الدراسات الفلسطينية وقيادة لورا البسط لإحياء ذكرى ٧٥ عاما على النكبة. كما أنه متاح باللغة الانجليزية على موقعنا الإلكتروني وباللغة الإسبانية (الرابط قادم) على الموقع الإلكتروني لشريكنا في الترجمة، El Intérprete Digital (المترجم الرقمي). أقيمت الورشة التدريبية برعاية مشتركة من منظمة النداء الفلسطيني الموحد ومركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورجتاون.

رسم آية غنمة.
ترجمة أحمد بركات.

À propos de l’auteur: 

سماح فضل: كاتبة ومحررة ومترجمة فلسطينية-أفريقية تعيش في مونتريال.