مشاهد متكررة من القدس
Date:
6 avril 2023
Auteur: 

ليس الهدف من هذا المقال طرح ومناقشة مسألة غزو جيش الاحتلال شبه اليومي لمدن جنين ونابلس وأريحا وغيرها من مدن الضفة الغربية، ولا الهدف منه تناول موضوع الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة، ولا مصادرة أموال الضرائب الفلسطينية وقرصنتها، ولا حرمان كريم وماهر يونس من استقبال ذويهم وأصدقائهم لهم استقبال الأبطال بعد قضاء نحو أربعين عاماً في غياهب السجون الإسرائيلية، كما لا يهدف إلى معالجة الجريمة المتفشية في الشارع الفلسطيني في مناطق الـ 48؛ وهذا لا يعني أن المسائل المذكورة ليست بحاجة إلى معالجة ومراجعة، لكن مقالاً واحداً لا يكفي لذلك، ذلك بأنها تحتاج إلى عشرات بل مئات المقالات.

يتناول هذا المقال أحداث شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو في فلسطين على مدى عامين منصرمين (2021 و2022) وما يحدث هذه الأيام، والحديث هنا يدور عن الممارسات الفاشية والعدوانية والعنصرية لأجهزة دولة الاحتلال، والتي تنعكس على طبيعة الحياة اليومية للفلسطينيين.

سألتني صديقة تسكن خارج فلسطين ظهر هذا اليوم عما إذا كانت الصور التي تداولتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من الحرم القدسي، صبيحة هذا اليوم في الخامس من نيسان/أبريل 2023، قديمة أم جديدة، ذلك بأنها لم تكن على علم بأن قوات الشرطة وحرس الحدود الإسرائيلية اجتاحوا ليلة أمس باحات الحرم القدسي الشريف، وأطلقوا الغاز والرصاص المطاطي على المصلين والمعتكفين في الحرم وباحاته، وقاموا بتقييد أيديهم وأرجلهم إلى الخلف، وألقوهم على بطونهم، ثم زجوا بالعشرات منهم معصوبي العينين في مراكز الاعتقال.

تأملت في السؤال ورجعت بالذاكرة إلى ما حدث في أواسط نيسان/أبريل من العام الماضي، عندما اقتحمت هذه القوات نفسها باحات الحرم القدسي، مستخدمة أدوات ووسائل القمع ذاتها؛ الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والهراوات، ولم يختلف أيضاً مشهد تقييد اليدين والرجلين والإلقاء على البطن ثم عصب العينين واعتقال عشرات الشبان. وفي الفترة ذاتها تقريباً رأينا مشاهد قمع قوات الشرطة الإسرائيلية المحتفلين بسبت النور عند الباب الجديد (إحدى بوابات البلدة القديمة في القدس)، وعلى مدخل كنيسة القيامة التي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن الحرم القدسي. والمفارقة في هذا السياق أن الشهيدة شيرين أبو عاقلة كانت في طليعة الصحافيين الذين قاموا بتغطية الاعتداءات الوحشية على الحرم القدسي وكنسية القيامة، ولم يمر شهر على أحداث نيسان/أبريل 2022، وتحديداً في صبيحة 11 أيار/مايو، حتى أصبحت شيرين أبو عاقلة هي الخبر؛ شيرين الشهيدة التي اغتالتها رصاصة قناص إسرائيلي في مدينة جنين، تحولت قضية اغتيالها إلى أكبر قضايا الرأي العام والتضامن في العالم، ومع ذلك لا يزال المجرم طليقاً، وبات مطلب العدالة لشيرين هو بوصلة العدالة في كثير من قضايا الظلم والقهر في العالم.

ورجعتُ بالذاكرة أيضاً إلى شهر رمضان في أيار/مايو من عام 2021، والذي كان له طابعه الخاص، لا في ذاكرة الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً في ذاكرة كل من أحب فلسطين وتضامن معها، من عرب وأجانب. فناهيك عن المشهد المتكرر في الحرم القدسي، من غاز مسيل للدموع ورصاص مطاطي وتقييد الأيدي والأرجل، كان هناك، ليس بعيداً عن باحات الحرم، شابات وشبان يتناولون طعام الإفطار الرمضاني في حي الشيخ جراح في مقابل شرطة مدججة بالأسلحة والهراوات تتحين الفرصة لقمعهم وتفريقهم. ففي ذلك الحين كان المقدسيون مصرين على منع مساعي السلطات الإسرائيلية وبلدية الاحتلال من مصادرة ملكية منازلهم وتحويلها إلى الجمعيات الاستيطانية التي تعمل ليل نهار من أجل السيطرة على وثائق الملكية ومصادرتها وتزويرها، مسنودة وبقوة من المنظومة القضائية لدولة الاحتلال وأجهزتها الأُخرى.

لقد كان لأحداث أيار/مايو 2021 الفضل الكبير في استعادة التضامن بين الفلسطينيين أنفسهم، والتضامن مع الفلسطينيين من كل عواصم ومدن العالم، فقبل لندن وباريس والدوحة والقاهرة وعمّان وبيروت كانت حيفا والرملة وخان يونس ورام الله ونابلس سباقة إلى استعادة روح فلسطين التي كرسها بعد أشهر قليلة أسرى نفق الحرية الذين استعادوا حريتهم ولو إلى حين،  ثم بعد عام الجنازة المهيبة لشيرين أبو عاقلة في العاصمة القدس.

في كل الأحداث التي سبق ذكرها، سواء في الحرم أو الكنيسة أو جريمة اغتيال شيرين، يدور الحديث عن مؤمنين ومصلين يمارسون طقوسهم الدينية، خلال شهر رمضان المبارك أو أعياد الفصح والفطر والأضحى والميلاد، وعن قدسية المكان والصحافي الذي ينقل الحقيقة، وفي مقابل هذا كله هناك منظومة كولونيالية جوهر عقديتها نفي الآخر ومحاولة تدجينه من خلال محي ذاكرته.

المتغير خلال العامين الماضيين 2021 و2022 أن غلاة اليمين المتطرف في إسرائيل، أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، الذين كانوا في صفوف المعارضة يقودون اقتحامات المستوطنين للحرم القدسي سعياً وراء صوت انتخابي يحصلون عليه عبر القتل والخطاب العنصري والدموي، باتوا في عام 2023 يتقلدون مناصب رفيعة في حكومة اليمين التي يترأسها بنيامين نتنياهو، فبن غفير صار وزيراً للأمن الوطني وكُلف مؤخراً بإنشاء ميليشيا تسمى "حرس وطني"، وسموتريتش صار وزيراً للمالية ووزيراً ثانياُ في وزارة الحرب، وكلاهما حرضا المستوطنين على حرق قرية حوارة، وسموتريتش صرح عبر الإعلام، متبجحاً، أن حوارة يجب أن تباد عن بكرة أبيها، وفي تصريح آخر نفى أن يكون هناك وجود لشعب فلسطيني.

فأن تكون في المعارضة أو في الحكم في المنظومة الاستعمارية سيّان، ذلك بأن هناك هدفاً واحداً يتفق بشأنه كل الإسرائيليين، وهو تأبيد الاحتلال والسيطرة الكاملة على الفلسطيني.

سؤال صديقتي عمّا اذا كانت صور الاعتداءات في الحرم القدسي قديمة ويروَّج لها على أنها جديدة، جعلتني أعود في الذاكرة لأجد أن هذا الاحتلال يزداد غطرسة وتوحشاً وإمعاناً في القتل والإجرام والمصادرة والتهويد، في محاولة لإظهار قدرته على السيطرة على "عاصمته"؛ "دولة" عمرها 75 عاماً ما زالت غير قادرة على السيطرة على عاصمتها، أو حتى على أحد أحياء هذه العاصمة، أو على بلدتها القديمة. في المقابل تزداد قناعتي بأن سكان المدينة الأصليين الذين يتعرضون يومياً للقمع، ولمصادرة أملاكهم وتهويدها، وللاستنزاف اليومي لمصادر قوتهم وتعليمهم وصحتهم، يقفون بإصرار، وأكثر من أي وقت مضى، لحماية أماكنهم المقدسة وتاريخهم الحضاري والإنساني؛ يقفون بإصرار لحماية وجودهم في المدينة التي تمتد جذورهم فيها آلاف السنين.