القصص الواردة في المقالة، هي تجارب عشتها وشاهدتها خلال عشرة أعوام أمضيتها في الأسر لدى الاحتلال الإسرائيلي.
"رح يصير سلام؟".. سألت الزائرة المقدسية الأسير القابع في سجن عسقلان، وقد جاءت للقائه على غير عادتها في التبرج الجميل واللافت. قبل أن تتلقى منه الإجابة، شرعت في إفلات أصابعها من الشباك الحديدي الفاصل بين المعتقل والأهل. ردّ مستغرباً، بعد أن أصبحت أصابع يديه وحيدة تمسك بالسياج، "والوقت هلق هوي للحكي عن السلام".
أذعن لخيبته العاطفية تلك بعد مرور أشهر على الزيارة التي فاتحته فيها بحبها له. يومها، آثرت الزائرة الإفصاح عن مشاعرها تجاهه في توقيت حساس بالنسبة إليه. تزامن موعد الزيارة مع عيد ميلاده الثاني والعشرين، ومرور ستة أعوام على اعتقاله.
أُدرج الشاب على لوائح "الأسرى العاشقين". صارت له عادات وتقاليد جديدة في المعتقل. يختار الروايات العاطفية، ويصير شريكاً لأبطالها المفترضين. يميل إلى قراءة قصائد الحب، يمرّن قلمه على الكتابة بأسلوب عاطفي. ينسى سنواته التي مرت، ويتطلع إلى عدّ السنوات القادمة، بما يمثله ذلك من أثقال تقع على كاهل الانتظار، انتظار الحرية.
يقف مترقباً عند باب المكتبة في باحة السجن، أسوةً بزملائه، ممثل المعتقل، الذي سيخرج بعد قليل من الباب المتصل بالساحة الخارجية، حيث مكاتب الإدارة، حاملاً بيديه رزمة كبيرة من الرسائل، سلّمه إياها مسؤول الرقابة العسكرية في السجن. يأخذ "العاشق" رسالته قبل انتهاء عملية فرز الرسائل، عبر وضع "رقم زنزانة الأسير" إلى جانب عبارة "المرسَل إليه". يتخذ لنفسه زاوية، ليعتزل فيها وسط "ساحة الشمس" المكتظة بالأجساد والأصوات، يمضي بقية الوقت بين الكلمات، يقرأها مرات ومرات، وفي كل مرة يكتشف في الكلمات شيئاً ما.
أرشيف ملصق فلسطين، سليمان منصور 1980
"شتلة الحبق" في السجن
يحمله العطر الأنثوي، الذي يعبق به ورق الرسالة، إلى خارج الأسوار. فيُنسيه رائحة الغاز المسيل للدموع، وبقية الروائح الأُخرى في السجن، يفعل فيه العطر، تماماً ما يفعله زهر الليمون، حين يفوح من بيارات مجاورة حول المعتقل. غالباً ما يقطع خلوته فضول أسير آخر، يتوق إلى معرفة سر الضحكة التي ترتسم على محياه، بينما يقرأ عبارات الحب وقصائد الغزل، فتأتيه عبارة "قل لها أن تنوّع العطر الأنثوي الذي تضعه على رسائلها، علني أتعرف إلى ذلك العطر الذي كانت تضعه فتاة الحي التي أحببت،" تلك العبارة يقولها "الدخيل" لأنه أراد أن يستعيد شيئاً من ذاكرته، وقد صارت بعيدة، بفعل سنوات الأسر الطويلة.
يدخل الأسيران في نقاش عن "معنى الرائحة الزكية في السجن"، يحدثه عن "شتلة الحبق"، عن فتاة أحبها، وكان يقدم لها في الصبح والمساء وريقة صغيرة من "الحبق". روى له كيف كانت أمه تعتني بهذه النبتة العطرة. دفعه الحنين إلى تناوُل قلم وورقة، والشروع في كتابة رسالة يطلب فيها من حبيبته أن تجلب معها، حين تأتي لزيارته، "شتلة حبق صغيرة".
هُرِّبت "الشتلة" إلى السجن، ووُضعت في كوب من الماء. في هذه الأثناء، كان بعض الأسرى يعملون في مطبخ المعتقل على تجميع التراب مما يتوفر أمامهم من حبات صغيرة، يجمعونها و"يلمّونها" من أكياس الخضار التي كانت تصل إلى المطبخ.
بعد أيام، كبرت كمية التراب المجموع و"الملموم"، وأصبحت كافية لزارعة "شتلة الحبق"، غُرزت في الكوب، وكبرت مع الوقت. صارت بحجم كفين معاً، تفوح منها رائحة جميلة. "الضيف" اللطيف الخفيف هذا، لم يدخل في لوائح الأسرى، لم يتم احتسابه في أوقات التعداد اليومية الثلاثة، وجبة الطعام الوحيدة له، هي الماء وبعض الشمس التي بالكاد تستطيع أن تصل خلسة، هي الأُخرى، إلى السجن. لكن الضيف، أو "النزيل الجديد"، صار رفيق الأسرى، رفيق ذاكرتهم الخاصة. يتنقل من زنزانة إلى أُخرى. ظل الأمر على هذه الحال عدة أسابيع إلى أن أقدم أحد السجّانين، بعد اكتشاف شتلة "الحبق"، على إتلافها ورميها ومصادرة ترابها.
كبت وحرية
الزنزانة لم تعد ضيقة. اتسعت بعد أن ازدحمت بمشاهد خُيّل إليه أنه يعرفها. فتحت كوة في جدار الوقت الرتيب الخاضع لأحداث متكررة. يستبدل المقعد الأسمنتي في باحة المعتقل، أو طرف السرير الحديدي في الغرفة، بمقعد خشبي يصنعه في خياله، ينتقل إلى إحدى القاعات في الجامعة، ليسترق النظر إلى حبيبته، يبادلها الضحكة، بعيداً عن أعين زملائه وأستاذ المادة. يتجاهل دورانه حول شجرة النخيل الشهيرة في سجن عسقلان، والتي تمتد فوقها قضبان ضخمة، تظهر خلفها السماء مقطعة ضمن مربعات حديدية، يصطحبها معه بسيارته في رحلة ليلية على الطريق السريعة، يبدّد السكون بصوت الأغنيات. وعلى وقع الأناشيد الحماسية التي تغلب عليها نبرة التحدي للجلاد، خلال إحياء المناسبات الوطنية داخل المعتقل، يأخذه خياله أيضاً إلى عيد ميلادها، يفاجئها بوردة يرميها من شرفة منزله إلى شرفة منزلها، يباغتها بهدية تعكس في رمزيتها وبساطتها حاله كفقير، يتفكر بقبلة خاطفة زرعها على خدها، بكثير من الخجل، كي لا تشتعل به "غرائز ذكورية" توقعه أسير الرغبة، إما يبددها بماء بارد، أو يستسلم، إن أخفق للحظة انتشاء مضنية، تتقاسم الممارسة الصامتة الراحة من جهة، والإحساس بالندم من جهة أُخرى. الزمن هو زمن مواجهة، هو غير مخصص للإحساس بهذه المسائل، والدليل أن "النخلة في السجن ذكر".
أقفل باب الخيال الأكثر حرجاً على هزيمة وجدانية لا يعلم بها سواه، متابعاً الجانب العذري من حلمه، عبر الغرق في شرود الجلوس معها على رصيف في مقهى بسيط، يحتسي معها القهوة، أو يترقب وقتها الصباحي، لمرافقتها إلى العمل والعودة منه عند المساء. شرود يقطعه طَرق قوي بمفتاح على باب الزنزانة، مترافق مع إشارة إنذار من السجّان للأسير، يصرخ الأول "سفيراه"، يتحضر الثاني للوقوف على الأقدام، حان وقت التعداد المسائي للأسرى.
عليه الآن التحضّر بدافع مختلف نوعاً ما لزيارة الأهل، تلك التي لها طقوس خاصة عند المعتقلين. حرصهم على الظهور أمام ذويهم بكل ما هو متاح لهم من أناقة وعافية، يدفعهم إلى تحضير أنفسهم قبلها بيوم، حلاقة الذقن، ترتيب الشعر... إلخ. وكبقية زملائه، يختار بدقة الثياب الأكثر ترتيباً، على الرغم من أنها محددة بألوان معينة (البني والأبيض)، فإنه يضطر أحياناً إلى أن يستعير من رفيق له ثياباً جديدة وصلته حديثاً عن طريق الصليب الأحمر الدولي. يستيقظ باكراً، ينتظر اسمه بين الأسماء التي تُتلى تباعاً عبر مذياع قوي، وفد يزور وآخر ينتظر دوره، وهكذا إلى أن ينتهي يوم الأهل الطويل.
الزيارة والرسالة، وسيلتا التواصل الوحيدتان مع العالم الخارجي، مع فارق أن "الحب في الأسر" يخلق هامشاً خيالياً لدى الأسير، يدفعه أحياناً إلى الوصول إلى حافة الاغتراب عن الواقع الاعتقالي.
حب في المعتقل
ثمة نقاش ما، يشتعل على مقربة منه بين أسيرين مضى على اعتقالهما عدة أعوام ومحكومين مدى الحياة. أحدهما أسير من لبنان، أمضى سنوات عمره في المعتقل، وارتبط بفتاة فلسطينية، وآخر متزوج ولديه أبناء من مدينة رفح المحتلة، آنذاك. قال الأول للثاني "لماذا لا يطبَّق على الأسرى الأمنيين إجراء معمول به عند السجناء الجنائيين، ويتعلق بالسماح للأسير بالاختلاء بزوجته، وفق ما يسمى "غرفة الحب - حيدير اهافا". النقاش اتخذ أبعاداً أخلاقية وإنسانية، انتهى إلى مطاف ذي مخاطر أمنية. أقنع "المخضرم" رفيقه، الذي استجد عليه لقب "الأسير الزوج"، بالخشية الجدية من قيام أجهزة الأمن الإسرائيلية بابتزاز النساء وإسقاطهن بعد تصويرهن في أوضاع معينة، كاستمرار لسياسة "السقوط الأخلاقي مقدمة للسقوط الأمني" دأب الشاباك الإسرائيلي على استخدامها وما زال. لاحقاً، وبعد أعوام طويلة على ذلك النقاش، ابتدع الأسرى طريقة أمثل وأجرأ في تأكيد تمسُّكهم بالحياة، عبر تهريب "نطفهم" إلى خارج المعتقل، ضمن عملية معقدة تُوّجت بإنجاب نساء الأسرى أبناء لهم.
"البهو العاطفي" الذي جال به في خياله، حرره من ضيق المساحة، تارةً رفعه فوق السياج، بعيداً عن أبراج المراقبة، وتارةً أُخرى أعاده للبحث في دوره كعاشق أسير، تاه في حلم التجربة، وكبّلته تفاصيل الحرمان.
يراقب رفيقه من مخيم جباليا بفرح، وهو يقف عند زاوية الزنزانة، ممسكاً براديو صغير، يصعد إلى"البرش" (سرير النوم الحديدي)، يوجه الراديو شمالاً ويميناً، ويقرّبه من السقف، في محاولة منه لالتقاط إشارة "صوت العرب من القاهرة" وبرنامج "ما يطلبه المستمعون"، يبقى لدقائق واقفاً، ماداً يده إلى الأعلى. طلبت منه حبيبته أن يستمع إلى البرنامج، الأغنية رقم 4 ستكون مهداة منها إليه.
سأل زميله من نابلس، الذي أمضى أسبوعين متواصلين يردد أغنية "قارئة الفنجان"، "لماذا تحفظ هذه الأغنية تحديداً؟" فأخبره أن حبيبته بعثت إليه برسالة، وقد أهدته مقطعاً من الأغنية، يقول "إن كنت حبيبي ساعدني كي أرحل عنك".
الرجل أخذه اندفاعه العاطفي ليحفظ كل الأغنية. بقي يتمتم عباراتها، يتجول بين أقسام السجن وهو يغني. يتقدم فوج الأسرى الذاهبين إلى الزيارة، على أمل اللقاء بحبيبته. يرجع منها قبل انتهاء الوقت المحدد لها، خائباً حزيناً، مسكوناً بالقهر. بلّغه أخوه أن حبيبته لن تأتي، وأنها تركته، وما الرسالة التي بعثت بها، وتضمنت مقطعاً مختاراً من "قارئة الفنجان" إلّا رسالة وداع.