سلوان و"طوق البلدة القديمة": فوق الأرض وتحتها
Date:
28 mars 2023

كثيراً ما تتصدر بلدة سلوان في القدس المشهد الإعلامي، وتُعتبر من المناطق الأكثر استهدافاً من سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمختلف أذرعها. يُطلق عليها لقب "الحامية الجنوبية" للبلدة القديمة والمسجد الأقصى، وهذا بسبب موقعها الجغرافي الملاصق لأسوار البلدة القديمة من الجنوب، بكل ما يتضمنه من تاريخ، وآثار، واستيطان، وتهجير، ومقاومة أيضاً لكل هذه السياسات العنيفة، أو الصامتة. تحاول هذه الورقة تفكيك هذا التعقيد في إطار شامل لكل مكونات الصراع على الأرض، بهدف توضيح السياق الطويل والمركّب الذي تعيشه سلوان، كما أنها ستربط ما يبدو أنه مشاريع منفصلة بواقع القدس، لتوضح أن هذه المشاريع ما هي إلا حلقة في سلسلة تمتد في عدة مناطق، وتهدف إلى استكمال السيطرة على مدينة القدس وإعادة تشكيلها من جديد.

تحتضن سلوان مجموعة من أقدم المواقع الأثرية في القدس، وتُنسب إلى فترات زمنية مختلفة، وتتنوع الروايات التاريخية والدينية والسياسية عنها. تشير أغلبية الروايات إلى أن سلوان كانت نواة الاستقرار الأولى في المنطقة، والذي لحقت به حقبات متعددة من تطوّر المدينة وتاريخها، وصولاً إلى اليوم. وفي هذا السياق، تم استحضار التاريخ في سلوان ليبرر الحاضر الاستعماري، وتكريسه لبناء هوية استعمارية مشتركة تحتاج إلى مقومات القومية، وضمنها التاريخ المشترك، فكانت نتيجة البحث التاريخي والآثار فيها بناء "مدينة الملك داود"، وربطها بالتاريخ اليهودي التوراتي للمنطقة. وكانت هذه بداية استحضار للماضي المفترض، لتبرير حاضر الاستيطان في سلوان،[1] التي باتت الآثار فيها هاجساً من هواجس فقدان الأرض والذاكرة الجماعية للمكان.

تتم السيطرة على المواقع الأثرية من خلال جميعة "إلعاد" الاستيطانية، بالشراكة مع العديد من الدوائر الحكومية والبلدية والوزارات. ولعل أبرز مثال لذلك كان الاستيلاء على قطعة الأرض المعروفة باسم "أرض الحمرا"، التي تمت مصادرتها والسيطرة عليها بهدف إعادة إحياء بركة المياه الرومانية، جرى ذلك بالشراكة بين جمعية "إلعاد" الاستيطانية، وسلطة الطبيعة والمنتزهات، ووزارة الآثار الإسرائيلية.[2] هذا التعاون ليس الأول، لكنه يعكس الوجه الحقيقي لِما يتم العمل على تنفيذه في سلوان، لا بل في القدس، حيث تعمل أذرع مختلفة ومتنوعة تسخَّر جميعها وتتعاون للسيطرة على الحيز. الهدف من هذه الحفريات وغيرها يتعدى السيطرة على الأرض، ويمتد إلى ما ترويه لنا هذه الأرض أيضاً من تاريخ.

تكشف المخططات القومية والاستراتيجية الإسرائيلية هذا التركيب بشكل أعمق. ومن المهم الإشارة إلى أن عملية التخطيط الإسرائيلي لا تتجاهل فقط الوجود الفلسطيني، بل تذهب أبعد من ذلك، باعتباره عقبة يحاول التخطيط التغلب عليها، كما يتم التعامل معه في الخطط على أنه "قنبلة ديموغرافية"، وهو التحدي الذي يفرضه الوجود الفلسطيني بحد ذاته على التقدم الاستعماري.[3]  ففي القدس، كما في كل فلسطين، تهدف المخططات إلى خلق "مدينة جديدة"- القدس الكبرى ذات الأغلبية اليهودية الساحقة، مدينة تكون هويتها يهودية، وتكون عاصمة لـ"دولة اليهود".

لتحقيق ذلك، تم إقرار العديد من المخططات التفصيلية التي جُمعت أغلبيتها في خطة استراتيجية واحدة تحت عنوان "القدس 5800"- السنة العبرية للعام 2050. ومن المهم الإشارة إلى أن التخطيط مبنيّ على فرضية أن القدس لن تقسَّم، ولن تتغير حالها في الأعوام الخمسين القادمة، أي ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية،[4]  وهو ما يعني أن ما سيتم تحقيقه على الأرض سيُفرض كأمر واقع لن تتراجع عنه الحكومات الإسرائيلية في أي مفاوضات، أو تسويات سياسية في المستقبل.

يتم التعامل مع سلوان في هذه المخططات على أنها جزء من الطوق المحيط بالبلدة القديمة،[5] وهي غير منفصلة عن غيرها من المواقع الأُخرى التي تواجه التوسع الاستيطاني، مثل الشيخ جرّاح ووادي الجوز. أما الأهمية الإضافية التي تمنحها هذه المخططات لسلوان فتشتق من الكثافة السكانية الفلسطينية العالية فيها، وموقعها المحاذي للبلدة القديمة، وهو ما يجعلها أحد أهم عوامل فشل المخططات الإسرائيلية في تحقيق الأغلبية اليهودية والسيطرة على  الأرض.

يتم العمل على تنفيذ مشروع التوسع الاستيطاني على شكل مشاريع متنوعة ومنفصلة، أغلبيتها تواجه معارضة فلسطينية تتفاوت في حدتها وشكلها، ولكنها كانت كفيلة بتأخير وتعطيل تنفيذ العديد من المشاريع لأعوام طويلة. وعلى الرغم من أن هذه المشاريع تبدو منفصلة وغير مرتبطة للوهلة الأولى، فإنه يجب التعامل معها كوحدة واحدة تتشكل من حلقات وفصول. ففي نهاية المطاف، تهدف هذه المشاريع كلها إلى تشكيل المدينة من جديد كمدينة تحت السيطرة الكاملة، إسرائيلياً، وعلى كافة الصعد. وأعتقد أننا نخطئ حين نركز على جانب واحد من هذه الجوانب، من دون ربطه وفهمه ضمن سياقه العام لمدينة القدس. وهذا لا يلغي ضرورة القراءة المفصلة لكل خطة، لكنه يشدد على أهمية رؤية الخطة ضمن الرؤية الشاملة لكل ما يسمى "طوق البلدة القديمة".

قبل الخوض في تفاصيل ما يجري اليوم، من المهم التذكير بالأراضي التي خسرتها سلوان فعلاً، ومنها هدم حي الشماعة في منطقة "وادي الربابة" خلال النكبة، ورسم "الخط الأخضر"- خط الهدنة 1949 على جزء من أراضي سلوان في المنطقة نفسها. وبالتالي، فعند الحديث عن طوق البلدة القديمة، يتم تخصيص حصة كبيرة من المشاريع لسلوان، تسعى لتغيير وجهها وإحلال الوجود الاستيطاني الموقت والدائم فيها، بعد تهجير سكانها. أما المقصود بالوجود الموقت فهو المشاريع "السياحية" التي لن يسكن فيها المستوطنون بشكل دائم، بل سيستخدمها الزوار كمرافق للسياحة الداخلية والخارجية لفترات قصيرة في المدى البعيد.

هذه المشاريع تتصل بغيرها من المشاريع المُقامة في الخط الأخضر، مثل مجمع "ماميلا" التجاري- مأمن الله، والقطار الخفيف. وهي مشاريع تمرّ من سلوان لتتصل بغيرها في "جبل المكبر" و"السواحرة الشرقية"، مثل مشروع "الشارع الأميركي"، ومشروع "وادي السليكون" في وادي الجوز.

في "وادي الربابة" مثلاً تتوسع ما تسمى بـ"مناطق الترفيه"- وهي شكل من أشكال السيطرة على الأرض-  بالتدريج، من خلال مصادرة الأراضي. ومن خلالها، يتم الشروع في تنظيم "المشاريع الترفيهية"، مثل المهرجانات التي من خلالها يتم إغراق المنطقة بالحشود على الأراضي المصادرة، ويتواصل للزحف التدريجي نحو مركز البلدة. فالحشود المشاركة في المهرجانات، أو فعاليات التسلق على الصخور ليس لديها أي هدف مباشر سوى المشاركة في البرنامج المنظم في المنطقة، لكنهم في المقابل، باتوا جزءاً من معادلة تغيير الواقع على الأرض والتعبئة الاستعمارية. والمثال نفسه ينطبق على "وادي ياصول"، حيث يمتد الاستيطان من بؤرة للتخييم والفعاليات الترفيهية، ويزحف بالتدريج، ليلتقي المشاريع الاستيطانية الزاحفة من وادي الربابة في منطقة بئر أيوب وحي البستان.

يُعدّ "حي البستان" من المناطق المعروفة، حيث يتصدى سكان الحي لمشروع محو شامل للسكان والمنازل، وكذلك ملكية الأرض. تسعى سلطات الاحتلال، من خلال التخطيط، لتحويل المنطقة السكنية إلى "حديقة توراتية"، استناداً إلى الرواية التوراتية بشأن مدينة "الملك داود"، التي لا يوجد ما يسند حقيقتها في الحفريات الأثرية الممتدة على مدار أكثر من قرن، ويجري ذلك تحت مبررات مختلفة منها على سبيل المثال، قضية عدم وجود تراخيص من بلدية الاحتلال في القدس، إلا إن الهدم على هذا الأساس لا يبرر مصادرة الأرض وتحويلها إلى حديقة.

الحقيقة أنها ليست إلا حلقة في سلسلة المشاريع المتصلة معاً، والتي تمتد إلى حي "بطن الهوى" شرقي "حي البستان"، حيث يواجه موجة  تهجير لمجموعة كبيرة من السكان تحت ذريعة ملكية يهود اليمن للعقارات؛ والمفارقة أن القانون المستخدم لتحقيق هذه الغاية- القانون الذي يحدد وضع الأوقاف على الأراضي الأميرية، تم استخدامه بشكل مغاير كلياً في حالة كبانية "أم هارون" في حي الشيخ جرّاح، وهو ما يعكس حقيقة الاحتلال الاستيطاني، وأكذوبة القانون، وأن القضية ليست قانوناً، إنما استغلال للقانون لتحقيق السيطرة والسلب.[6]

أما في الجزء الشمالي من منطقة "وادي حلوة"، فتمتد الحفريات الأثرية على طول السفح، من أسوار البلدة القديمة، وصولاً إلى "حي البستان"، وهي متنوعة، وتتضمن حفر الأنفاق تحت منازل السكان في الحي، والتي تساهم في إضعاف البنية التحتية للمباني، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واضح من خلال التشققات وبعض الانهيارات في مواقع مختلفة. وتتصل شبكة الأنفاق هذه بالمواقع الأثرية المحيطة بشكل مباشر، لتشكل مساراً منفصلاً عن البلدة لـ "الزوار"، بحيث يمكنهم تمضية وقتهم من دون أي تواصل مباشر مع سكان سلوان، أو حتى رؤيتهم، وهم الذين يدفعون الضرائب في مقابل خدمات تطوير المدينة التي تعني فقدانهم الأرض وحق الوصول لها، بعد قطع هذه المناطق عن محيطها الجغرافي من خلال الحواجز المختلفة و"الحراسة" بشتى أنواعها. هذا بالإضافة إلى توسيع المقابر اليهودية وبناء قبور في مواقع مختلفة بادّعاء أنها كانت منطقة قبور ليهود في الماضي السحيق، وهو ما يحدّ من التوسع الأفقي لمباني البلدة من جهات مختلفة.

ما بعد فوق الأرض وتحتها، تمتد المشاريع للسيطرة على الهواء وحصار البلدة من كل الاتجاهات، وهو ما يجري من خلال مشروع السلال/التلفريك، والذي يسعى لتحقيق الأهداف نفسها. والهدف منه ربط الجزء الشرقي من المدينة بالجزء الغربي، وبشكل خاص منطقة محطة القطار العثماني على الطرف الغربي من الخط الأخضر، مع "المواقع السياحية" في سلوان، جبل الزيتون وكنيسة الجثمانية- وهو أحد المشاريع التي يؤدي تنفيذها إلى تغيير المشهد التاريخي للبلدة القديمة، وكذلك تقييد النمو المستقبلي للمنازل القريبة من خط التلفريك. كما أنه مشروع مثير للجدل قانونياً، إذ أقرّته وزارة المواصلات الإسرائيلية كمشروع لتطوير المواصلات العامة في المنطقة، لكنه في الحقيقة، لا يمت بأي صلة للمواصلات العامة، ولا يخدم حاجة السكان إلى التنقل في أيٍّ من المناطق التي سيتم بناء محطات التلفريك فيها.[7]

مقاومة الفلسطينيين في سلوان بشتى أنواعها، بما فيها التوجه إلى القانون والقضاء الإسرائيليين، واجهت العديد من المراحل والتحديات، منها العقوبات الجماعية والاعتقالات التي ركزت في أعوام مختلفة على اعتقال الأطفال والحبس المنزلي، وغيرها من التحديات، إلا أنها نجحت أحياناً في تأجيل بعض المشاريع وإلغاء أُخرى.

هناك تشاؤم من المستقبل القريب نتيجة التوجهات المتطرفة لحكومة الاحتلال الجديدة،  التي تسعى لتنفيذ المخططات بأسرع وقت ممكن، ومن أبرزها هدم المنازل، الذي قد يقود إلى مواجهة جديدة تشهدها بلدة سلوان، تُضاف إلى ما سبقها، ولكنه ناقوس خطر دق أجراسه من جديد. وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن أبرز الدروس التي تعلمتها فلسطين، وبشكل خاص مدينة القدس، هو ضرورة الوحدة بشتى أشكالها في العمل على مواجهة الاحتلال وسياسات الاستيطان والتهجير القسري؛ فالانقسام والتفكك هما من أهم المخاطر التي قد تساهم في ضعف، وأحياناً، انعدام العمل المجدي لدعم الصمود والوجود الفلسطيني على الأرض.

في النهاية، وتأكيداً لقول إدوارد سعيد "هذا هو بالضبط مخطط إسرائيل الذي في الواقع، هو هجوم ليس فقط على جغرافيا المدينة، ولكن أيضاً على ثقافتها وتاريخها وأديانها بالطبع،"[8]  فسلوان جزء لا يتجزأ من القدس وفلسطين، كما أن الاحتلال هو نفسه، مهما اختلفت التفاصيل، أو الخصوصيات الجيوسياسية. ففي نهاية المطاف، كلها أجزاء لجسم واحد يتأثر بالتغيرات المحيطة به ويؤثر فيها. وعلى هذا الأساس، يجب فهم كل المخططات والمشاريع في سلوان وعدم عزلها، أو فصلها عن سياقها السياسي والتاريخي والجغرافي الطبيعي، الذي قد يكون في هذه الحالة تحقيق ضم القدس كأمر واقع، في ظل انحسار كل أوهام حلّ الدولتين، والتوجهات إلى تصفية ما تم الاصطلاح على تسميته في "اتفاقيات السلام" بقضايا الحل النهائي. 

 

[1]لمزيد من المعلومات، يمكن الاطلاع على ساند، شلومو، "اختراع الشعب اليهودي"، ترجمة: سعيد عياش (رام الله: مدار، 2011)؛

Mahmoud Hawari, "Silwan Biblical Archaeology, Cultural Appropriation, and Settler Colonialism", Jerusalem Quarterly, Vol. 90 (2022), pp. 75-97.

[2]جمان أبو عرفة، "أرض الحمراء.. تفاصيل ضياع أهم أراضي سلوان في القدس"، الجزيرة، 30/12/2022؛ تم الإطلاع عليه في 13/3/2023.

[3]لمزيد من المعلومات، انظر: يوسف جبارين، "التخطيط الاستراتيجي في القدس: استراتيجيات السيطرة والهيمنة" (رام الله: مدار، 2016).

[4]الخطة الاستراتيجية الشاملة التي تحمل اسم: "القدس 5800، رؤية مستقبلية لمدينة القدس"، وهي من إعداد لجنة تخطيط بقيادة شلومو جيرتنر، وافتتاحية من وزير القدس والتراث الإسرائيلي ووزير السياحة الإسرائيلي، 2016.

[5]للتعمق بشأن عزل القدس من خلال أطواق، يمكن الإطلاع على:

نظمي الجعبة، "الاستيطان في منطقة القدس"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، المجلد 14، العدد 55 (صيف 2003).

[6]للمزيد من التفاصيل، يمكن الإطلاع على: أنطوان فرير، "هدم المنازل والإخلاء القسري في سلوان" (رام الله: الحق، 2020).

[7]"مشروع التلفريك في القدس جزء من سياسة الضم والتهويد لمدينة القدس"، اتحاد الائتلاف الأهلي لحقوق الفلسطينيين في القدس، 24/2/2021.

[8] Edward W. Said, "Projecting Jerusalem", Journal of Palestine Studies, Vol. 25, No. 1 (Autumn, 1995), p.9.

انظر